يقول " ليوتاكسل": "هل يستطيع قارئي الكريم أن يتخيل ملكًا يترك قصره ويمضي بحثًا عن علف لخيله؟ ألاَّ يستطيع أن يرسل أيًّا من خدمه لهذه المهمة؟ أيُعقل أن يكون أخآب قد أطلق خدمه كلهم بسبب الجوع ولم يبقَ عنده سوى عوبديا؟ ولكن المدهش في هذه الحكاية المسلية، هو بقاء ينابيع وأنهار ملآي بالمياه، فالسهول أقفرت بسبب انقطاع المطر وهذا واضح، ولكن ألم يكن لهذا الجفاف أن يؤثر على مصادر المياه... أن ما يثير السخرية أن أحدًا من قارئي التوراة لم يطرح أي سؤال من هذه الأسئلة... (وتعليقًا على طلب إيليا من عوبديا لكيما يخبر أخآب بأنه سيلقاه اليوم، يقول ليوتاكسل:) لقد كان عوبديا يخاف يهوه إلى درجة جعلته يرى في كلام النبي خدعة قذرة الهدف منها قتله، بيد أن إيليا خفَّف عنه وأهدأ من روعه ووعده بأن يظهر أمام أخآب في اليوم نفسه"(1).
ج: جاء في سفر الملوك: "وَبَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ كَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى إِيلِيَّا فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ قَائِلًا: اذْهَبْ وَتَرَاءَ لأخآب فَأُعْطِيَ مَطَرًا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ" (1مل 18: 1).
وقال السيد المسيح في حديثه عن أرملة صرفة صيدا: "حِينَ أُغْلِقَتِ السَّمَاءُ مُدَّةَ ثَلاَثِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ" (لو 4: 25).
1- عندما قال إيليا قولته: "لاَ يَكُونُ طَلٌّ وَلاَ مَطَرٌ فِي هذِهِ السِّنِينَ إِلاَّ عِنْدَ قَوْلِي" (1مل 17: 1) كان ذلك في بداية فصل توقف المطر في الربيع والصيف، وكانت هناك مياه بالأنهار، ولذلك أرسل الله إيليا أولًا ليختبئ بجوار نهر كريث، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وعندما قال سفر الملوك: "وَبَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ... فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ " لم يقل منذ انقطاع المطر، بل منذ مجيئه من منطقة كريث وإقامته في بيت أرملة صيدا، فإذا أضفنا المدة التي أمضاها إيليا بجوار نهر كريث والتي قال عنها الكتاب " وَكَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ أَنَّ النَّهْرَ يَبِسَ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ فِي الأَرْضِ" (1مل 17: 7) إلى المدة التي أمضاها في بيت الأرملة، وحتى سقوط المطر نصل للمدة الكلية ثلاث سنين وستة أشهر، وهي المدة التي ذكرها السيد المسيح العالِم بكل شيء ولا يُخفى عليه شيء، وقد سجل التقليد اليهودي أن المطر توقف ثلاث سنين ونصف، ولذلك جاء في رسالة يعقوب: "كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَانًا تَحْتَ الآلاَمِ مِثْلَنَا، وَصَلَّى صَلاَةً أَنْ لاَ تُمْطِرَ، فَلَمْ تُمْطِرْ عَلَى الأَرْضِ ثَلاَثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ صَلَّى أَيْضًا، فَأَعْطَتِ السَّمَاءُ مَطَرًا، وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ ثَمَرَهَا" (يع 5: 17، 18).
2- يقول "الأرشيدياكون نجيب جرجس": "يذكر الوحي هنا أن كلام الرب إلى إيليا " في السنة الثالثة " ولا مناقضة بين هذا وبين قول الوحي أن المطر لم ينزل لمدة " ثلاث سنين وستة أشهر " لأن المدة الأخيرة تُحسب من وقوف إيليا أمام أخآب وإنذاره له بأنه لا يكون مطر ولا طل على الأرض إلاَّ عند قوله (1مل 17: 1). وقد كان وقوفه هذا في أوائل الموسم الذي لا يسقط فيه المطر ويبدأ من الربيع ويظل أيضًا في فصل الصيف ومدة هذين الفصلين ستة أشهر، وبعد ذلك حل الشتاء موسم سقوط الأمطار ولكنها لم تسقط حسب نبوة إيليا، وظلت منحبسة عن النزول لمدة ثلاثة مواسم أي لمدة الثلاث سنوات التي تبعت ونصف السنة الأولى. والعهد الجديد يذكر المدة كلها من وقوف إيليا الأول أمام أخآب إلى وقوفه الثاني أمامه. أما سفر الملوك فيذكر الثلاث سنوات التي تبدأ بفصل الشتاء حيث لمس الناس عدم سقوط المطر في مواسمه"(2).
ويجب أن نلاحظ أن هناك فاصل زمني سواء بين سقوط الأمطار وامتلاء الأنهار، أو توقف الأمطار وجفاف الأنهار، فمثلًا الأمطار تسقط في الحبشة وتفيض في نهر النيل، فتصل إلى مصر بعد فترة بسبب بُعد المسافة التي يقطعها النهر، وفي بلاد الشام ينبع نهر الأردن من الشمال ويصب في البحر الميت في الجنوب، وبلا شك أن طوله أقل كثيرًا من نهر النيل، ولكن تسري عليه نفس القاعدة، أي أن الأمطار قد تتوقف صيفًا بينما تظل المياه في نهر الأردن والأودية والآبار.
3- ليس من المعقول أن أخآب الملك كان ملازمًا بيته ليل نهار، صيفًا شتاءً، لا يخرج عن نطاق قصره، فمن البديهي أن أخآب كان يتجوَّل في ربوع البلاد في زيارات مختلفة، ولذلك كان خروجه مع حاشيته للبحث عن العشب أمرًا عاديًا، ورغم أن الكتاب لم يذكر من كان معه غير عوبديا، لكن الكتاب لم ينفي أنه كان معه بعض رجاله، فالكتاب لم يقصر الموقف على عوبديا فقط، لذلك نرجح أنه كان مع أخآب بعض رجاله، وكان لا بُد أن يخرج بنفسه لأن الحالة وصلت الحد الأقصى من الخطر " وَقَالَ أخآب لِعُوبَدْيَا: اذْهَبْ فِي الأَرْضِ إِلَى جَمِيعِ عُيُونِ الْمَاءِ وَإِلَى جَمِيعِ الأَوْدِيَةِ، لَعَلَّنَا نَجِدُ عُشْبًا فَنُحْيِيَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَلاَ نُعْدَمَ الْبَهَائِمَ كُلَّهَا. فَقَسَمَا بَيْنَهُمَا الأَرْضَ لِيَعْبُرَا بِهَا" (1مل 18: 5، 6) ولم يطمع أخآب في العثور على ينابيع وأنهار ملآي بالمياه كقول ليوتاكسل، إنما غاية الملك أن يعثر على عشبًا في الأودية وبالقرب من عيون الماء التي جفت، ولم يقل أخآب لعوبديا: دعنا نبحث عن ينابيع وأنهار ملآي بالمياه، أما الناقد فهو يُحمّل الكلام بأكثر مما يحتمل. ثم أليست الخيول والبغال وبقية الحيوانات تمثل ثروة لأخآب، وقلة العشب والماء يمثلان خطرًا على هذه الثروة، فلماذا نستكثر خروج أخآب بنفسه للبحث عن العشب والماء؟!
4- لم يقل عوبديا رجل الله لإيليا أنك تلعب لعبة قذرة، لأنه لا يلعب اللعبة القذرة إلاَّ إنسان... أما عوبديا فكان ينظر لإيليا نظرة احترام وتقدير، وهذا واضح من بداية اللقاء معه: "وَفِيمَا كَانَ عُوبَدْيَا فِي الطَّرِيقِ، إِذَا بِإِيلِيَّا قَدْ لَقِيَهُ فَعَرَفَهُ، وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَقَالَ أَأَنْتَ هُوَ سَيِّدِي إِيلِيَّا؟" (1مل 18: 7).. رجل بهذا الأدب الجم وهذه المشاعر الفياضة يخطر على قلبه أن إيليا النبي العظيم المتعفّف سيلعب معه لعبة قذرة ليُسلّم رقبته لأخآب؟!!. وعندما طلب إيليا من عوبديا أن يخبر أخآب أن إيليا هنا " فَقَالَ: مَا هِيَ خَطِيَّتِي حَتَّى إِنَّكَ تَدْفَعُ عَبْدَكَ لِيَدِ أخآب لِيُمِيتَنِي..؟ وَالآنَ أَنْتَ تَقُولُ: اذْهَبْ قُلْ لِسَيِّدِكَ هُوَذَا إِيلِيَّا. وَيَكُونُ إِذَا انْطَلَقْتُ مِنْ عِنْدِكَ، أَنَّ رُوحَ الرَّبِّ يَحْمِلُكَ إِلَى حَيْثُ لاَ أَعْلَمُ. فَإِذَا أَتَيْتُ وَأَخْبَرْتُ أخآب وَلَمْ يَجِدْكَ فَإِنَّهُ يَقْتُلُنِي" (1مل 18: 9، 12) ففي فكر عوبديا أن إيليا لو اختفى ثانية فإن هذا لا يعني أن إيليا يتآمر عليه، ولذلك نسب الاختفاء المحتمل لروح الله القدوس وليس لإيليا.
_____
(1) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 415، 416.
(2) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر ملوك الأول ص 209، 210.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1298.html
تقصير الرابط:
tak.la/qn3sn78