يقول " زينون كوسيدوفسكي": "نحن نعرف أن إيرادات كبيرة قُدمت لسليمان من التجارة ومن صناعة النحاس، وبالرغم من هذا لا يمكن تسميته (تسمية سليمان) بالملك الغيور والبعيد النظر، فإسرافه وميله لإظهار أبَّهته الشرقية أديا إلى عجزه عن دفع مائة وعشرين معيارًا ذهبًا دينًا لحيرام ملك صور، مما أرغمه على تعويضه عشرين مدينة في الجليل. تلك كانت خطوة مُفلِس وصل إلى طرق مالية مغلقة...
فهو بسبب قصر نظره وغروره شحذ العداوة بين القبائل بجنون، مما أدى إلى كارثة بعد موته. وقد برزت بوادر تلك الكارثة قبل أن يموت وذلك عندما قامت قبيلة أفرايم بعصيان قاده يربعام، خسر يوم ذاك يربعام الصدام، لكنه تمكن من الهرب إلى مصر حيث استقبله الفرعون شيشنق برحابة صدر، وكان هذا إنذارًا ثانيًا لسليمان لأنه أظهر له أن مصر تكن نيات عدوانية تجاهه... وضعف سليمان أمام رزون ملك دمشق، الذي أعلن نفسه ملكًا أيام داود، فرغم كثرة مهاجمة رزون للحدود الشمالية ونهبه لها، لم يتجرأ سليمان على تلقينه درسًا رادعًا، وبعد تفرق إسرائيل قويت شوكة مملكة دمشق الآرامية... نستنتج من هذه الحقائق أن حكم سليمان، رغم تألقه وغناه المزعوم، لم يكن بالحكم السليم، فنتيجة لسياسته القاتلة وطغيانه، سار ملك إسرائيل الذي هزته الخلافات الداخلية إلى حتفه"(1).
|
|
ج: 1- في (1مل 7: 1 - 12) تكلَّم الكتاب عن حركة التعمير الهائلة التي قام بها سليمان لمدة نحو عشرين عامًا، فتكلَّم الكتاب عن بيت سليمان وبيت وعر لبنان وبيت ابنة فرعون جنوب الهيكل على الأكمة الشرقية المسماة صهيون أو الوريا. وجاء بيت وعر لبنان بطول مائة ذراع وعرض خمسين ذراع وارتفاع ثلاثين ذراعًا (نحو 50 × 25 × 15 م) فمساحته تزيد عن مساحة الهيكل بنحو أربعة أضعاف، وكان له أربعة صفوف من الأعمدة ولذلك دعى ببيت وعر لبنان، وأيضًا لأن معظم المواد المستخدمة في البيت كانت مستوردة من لبنان، وقد دُعيت كل هذه الإنشاءات باسم "بيت الملك" وجميعها كانت لازمة وضرورية فالقصر الملكي ضروري لإقامته، وبيت وعر لبنان يُستخدم لإدارة البلاد وأعمال السياسة، وبيت ابنة فرعون يُدعى أيضًا بيت النساء.
وإن كانت هذه الإنشاءات استغرقت 13 سنة، بينما استغرق بناء الهيكل سبع سنوات، فليس معنى هذا أن هذه المباني كانت أعظم من الهيكل، ولكن داود الملك العظيم كان قد أعدَّ الكثير من احتياجات بناء الهيكل، أما بقية المباني فلم يكن لها أية تجهيزات مُسبَقة، كما كان عدد العمال في هذه الإنشاءات أقل بكثير من العمال الذين عملوا في الهيكل، وأيضًا مساحة بيت وعر لبنان (50 × 25 = 1250 م2 أكبر من مساحة الهيكل (30 × 10 = 300 م2) بنحو أربعة أضعاف. وأيضًا كان اهتمام سليمان بالهيكل أكثر بكثير من اهتمامه بهذه المنشآت الأخرى، والدليل على هذا أن سليمان بدأ ببناء الهيكل أولًا، ولم يبدأ في المنشآت الأخرى حتى انتهى العمل تمامًا في الهيكل، وهذا دليل كافٍ على حكمة سليمان، فقد ركز كل جهده في الانتهاء من بيت الرب أولًا، ثم التفت إلى ما يخصه هو شخصيًا وما يخص مملكته.
2- هل زَرَعَ سليمان الانشقاقات بين الأسباط..؟ كلاَّ... بل عمل سليمان على صهر الشعب كله في بوتقة واحدة، عندما وحَّد جميع القلوب في مشروع قومي واحد، وهو بناء بيت الرب الذي خرج آية من الفن والروعة والجمال، وحقَّق الله وعده فصار عصر سليمان عصر سلام فلم تنشب هناك حروب قط خلال عشرات السنوات... إذًا من أين جاءت الانشقاقات..؟ أنها جاءت في أواخر حياة سليمان بسماح من الله... لماذا..؟ لأن سليمان حاد عن الطريق المستقيم وتجاهل عطايا الله له وقدم العبادة للأوثان " وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى" (1مل 11: 4) فذهب سليمان وراء عشتروت وملكوم وبني مرتفعة لكموش " فَغَضِبَ الرَّبُّ عَلَى سُلَيْمَانَ لأَنَّ قَلْبَهُ مَالَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ... فَقَالَ الرَّبُّ لِسُلَيْمَانَ... فَإِنِّي أُمَزِّقُ الْمَمْلَكَةَ عَنْكَ تَمْزِيقًا وَأُعْطِيهَا لِعَبْدِكَ" (1مل 11: 9 - 11).. " وَأَقَامَ الرَّبُّ خَصْمًا لِسُلَيْمَانَ هَدَدَ الأَدُومِيَّ... وَأَقَامَ اللهُ لَهُ خَصْمًا آخَرَ رَزُونَ... وَيَرُبْعَامُ بْنُ نَابَاطَ، أَفْرَايِمِيٌّ مِنْ صَرَدَةَ، عَبْدٌ لِسُلَيْمَانَ... رَفَعَ يَدَهُ عَلَى الْمَلِكِ" (1مل 11: 14، 23، 26) وعندما التقى أخيا الشيلوني النبي بيربعام وبشَّره بأنه سيملك على عشرة أسباط أخبره سبب انشقاق المملكة: " قَالَ لِيَرُبْعَامَ خُذْ لِنَفْسِكَ عَشَرَ قِطَعٍ. لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ هأَنَذَا أُمَزِّقُ الْمَمْلَكَةَ مِنْ يَدِ سُلَيْمَانَ وَأُعْطِيكَ عَشَرَةَ أَسْبَاطٍ... لأَنَّهُمْ تَرَكُونِي وَسَجَدُوا لِعَشْتُورَثَ... وَلِكَمُوشَ... وَلِمَلْكُومَ.." (1مل 11: 31 - 33)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وفعلًا عبادة سليمان للأوثان تؤكد احتقاره للحكمة، فالخطية قد طمست عيناه فلم يلتفت للحكمة التي منحها له الله، فصار يتخبط، مثل ابن ملك عظيم هجر قصر أبيه بعد أن أمال عدو الخير قلبه وملك ذهنه، وانتهى به الحال إلى الفقر والفاقة فراح يتسكع في شوارع المدينة يبحث عن لقمة خبز جافة يسد بها رمقه... أنها صورة الابن الضال، فأي حكمة كانت لهذا الابن عندما هجر أبيه وسار وراء أصحاب السوء، ولكن حكمته تجلت في العودة إلى حضن الآب، وعندما عاد سليمان كتب سفر الجامعة نصيحة غالية للأجيال المتعاقبة.
3- بلا شك أن سليمان صرف مصروفات باهظة على عملية التعمير التي قام بها مما أدى إلى استدانته من حيرام ملك صور، بالرغم من مكاسبه الضخمة من التجارة وصناعة النحاس التي كان يحتكرها، وبالرغم من الضرائب الباهظة التي فرضها على الشعب، فيقول الكتاب: "وَبَعْدَ نِهَايَةِ عِشْرِينَ سَنَةً بَعْدَمَا بَنَى سُلَيْمَانُ الْبَيْتَيْنِ، بَيْتَ الرَّبِّ وَبَيْتَ الْمَلِكِ. وَكَانَ حِيرَامُ مَلِكُ صُورَ قَدْ سَاعَفَ سُلَيْمَانَ بِخَشَبِ أَرْزٍ وَخَشَبِ سَرْوٍ وَذَهَبٍ، حَسَبَ كُلِّ مَسَرَّتِهِ. أَعْطَى حِينَئِذٍ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ حِيرَامَ عِشْرِينَ مَدِينَةً فِي أَرْضِ الْجَلِيلِ" (1مل 9: 10، 11) فواضح أن سبب ديون سليمان يمثل قيمة الواردات من الأخشاب وغيرها، وكل هذه الأشياء قد ذهبت لأعمال التعمير. أما حيرام عندما خرج ليتفقد هذه المدن فلم تعجبه فقام بردها إلى سليمان... فماذا فعل سليمان..؟ " بَنَي سُلَيْمَانُ الْمُدُنَ الَّتِي أَعْطَاهَا حُورَامُ لِسُلَيْمَانَ، وَأَسْكَنَ فِيهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ" (2أي 8: 2) ولا بُد أن سليمان استطاع تسوية ديونه مع حيرام بطريقة أخرى، ولم يفقد الاثنان صداقتهما معًا.
_____
(1) ترجمة د. محمد مخلوف - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 295 - 297.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1257.html
تقصير الرابط:
tak.la/32q7z4b
