يقول " توماس طمسن": "فإن الدور الممجَّد لسليمان بوصفه ملكًا عادلًا يتخذ شكل القاضي الملهم القادر على تبيان الحقيقة الإلهيَّة، كما في قصة سفر الملوك الأول (1مل 3: 16 - 28) تلخص الفكاهة المتألقة، وإن تكن وحشية، لقرار سليمان بقطع الطفل المتنازع عليه إلى نصفين إنما تلك العدالة الملكية بوصفها عدالة إلهيَّة. إننا نتجاهل وحشيتها ونعجب بتألقها {فسمع جميع بني إٍسرائيل الحكم الذي حكم به الملك فهابوه لأنهم عرفوا أن الرب منحه الحكمة ليحكم بالعدل}"(1).
ويقول " ليوتاكسل": "لم تسق التوراة لنا سوى طرفة وحيدة سمجة كبرهان على حكمة سليمان الخارقة... وعندما يروي الواعظ هذه الطرفة تسيطر الدهشة والإعجاب على المؤمنين. بيد أنه كان بمقدور سليمان أن يعرف الحقيقة دون اللجوء إلى تلك التجربة الرهيبة، فلو سأل "الداية" لأخبرته دون عناء، أي من المرأتين ولدت قبل الأخرى بثلاثة أيام ولانتهى الأمر هنا"(2).
ج: 1- نحن نصدق كتابنا المقدَّس ونثق فيه تمامًا، ونحن في ملء اليقين أنه " لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (2بط 1: 21) وأن " كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ" (2تي 3: 16) فعندما يقول الكتاب أن الله قال لسليمان: "هُوَذَا قَدْ فَعَلْتُ حَسَبَ كَلاَمِكَ. هُوَذَا أَعْطَيْتُكَ قَلْبًا حَكِيمًا وَمُمَيِّزًا حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلُكَ قَبْلَكَ وَلاَ يَقُومُ بَعْدَكَ نَظِيرُكَ" (1مل 3: 12) فإننا نصدق هذا من كل قلوبنا.
أما ما جاء في سفر الأمثال " إِنِّي أَبْلَدُ مِن كُلِّ إِنْسَانٍ، وَلَيْسَ لِي فَهْمُ إِنْسَانٍ، وَلَمْ أَتَعَلَّمِ الْحِكْمَةَ، وَلَمْ أَعْرِفْ مَعْرِفَةَ الْقُدُّوسِ" (أم 30: 2، 3) فإن هذا ليس كلام سليمان الحكيم، وهذا ما أوضحه سفر الأمثال نفسه في نفس الإصحاح وفي الآية السابقة مباشرة -ولكنك يا صديقي بلا شك تدرك قصد الناقد في المواربة والخداع - فجاء في الآية الأولى " كَلاَمُ أَجُورَ ابْنِ مُتَّقِيَةِ مَسَّا" (أم 30: 1) فسفر الأمثال حوى أمثالًا لم يقلها سليمان، فهذا الإصحاح الثلاثون نطق به آجور بن مسَّا والإصحاح الأخير الحادي والثلاثين هو " كَلاَمُ لَمُوئِيلَ مَلِكِ مَسَّا" (أم 31: 1) وكان آجور معلمًا حكيمًا من مسَّا المملكة التي يحكمها لموئيل، ولعله لم يكن من بني إسرائيل مثل أيوب وأصدقائه، ومعنى اسم لموئيل أي " المكرَّس لله".
2- في قصة سليمان والمرأتين المتنازعتين على الطفل الحي، لا نجد أي ملمح للفكاهة، ولا للوحشية، إنما نلمح حكمة سليمان التي فصلت في القضية وأصابت كبد الحقيقة، فسليمان بحكمته وضع ثقته في مشاعر الأمومة التي من المستحيل أن تقبل انشطار ابنها، حتى لو اضطرت أن تتخلى عنه لغريمتها " فَتَكَلَّمَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي ابْنُهَا الْحَيُّ لِلْمَلِكِ، لأَنَّ أَحْشَاءَهَا اضْطَرَمَتْ عَلَى ابْنِهَا، وَقَالَتِ: «اسْتَمِعْ يَا سَيِّدِي. أَعْطُوهَا الْوَلَدَ الْحَيَّ وَلاَ تُمِيتُوهُ». وَأَمَّا تِلْكَ فَقَالَتْ: «لاَ يَكُونُ لِي وَلاَ لَكِ. اُشْطُرُوهُ»" (1مل 3: 26) وبهذا عُرفت لدى الجميع الأم الحقيقية... فما هي الفكاهة في هذا..؟! كما أنه لو وصل الأمر إلى شطر الطفل لحق للناقد أن هذا نوع من الهمجية والوحشية، ولكن صدق ظن سليمان، وظهر حسن تفكيره، وحتى لو افترضنا جدلًا أن هذا القرار الصادم قد صدم الأم الحقيقية وشل قدرتها على التفكير، لا بُد أن سليمان كان سيوقف تنفيذ الحكم كما أوقف ملاك الرب إبراهيم عن أن يذبح ابنه بعد أن رفع يده بالسكين... لقد نجحت خطة الملك تمامًا، وجاءت نتائجها مبهرة إذ عرف الجميع الأم الحقيقية، كما أن الشعب قد " خَافُوا الْمَلِكَ، لأَنَّهُمْ رَأَوْا حِكْمَةَ اللهِ فِيهِ لإِجْرَاءِ الْحُكْمِ" (1مل 3: 28).
وجاء في " كتاب السنن القويم": "وفي هذه الحادثة امتحان حكمة سليمان فكان حكمه فيه شهادة لحكمته، وكان الحكم فيها صعبًا لأنه لم يكن في البيت إلاَّ المرأتان دون شاهد. أن محبة الأولاد أمر طبيعي حتى في الأشرار فلا نتعجب أن كل واحدة من الاثنتين قد ادَّعت أن الولد لها. ولكن محبة الواحدة وهي أم الولد أقوى من محبة الأخرى له، والتي ليس لها ولد لم تحتمل أن ترى ولدًا في حضن رفيقتها وهي بلا ولد. فاستحسنت أنه يكون لا لها ولا لرفيقتها بل يُقتل. وسليمان وإن كان شابًّا أظهر معرفته بما في الإنسان، لأن محبة الأم أقوى من الحسد، وأما الأخرى فحسدها أقوى من محبتها للولد"(3).
ويقول " القمص تادرس يعقوب": "حينما أمر الملك بشطر الطفل غالبًا ما اضطرب كثيرون في داخلهم وحسبوا قراره غريبًا وغير حكيم، يحمل وحشية، إذ يُقتل طفل لا ذنب له. وربما تساءلوا في أعماقهم: هل هذه هي حكمة الملك الجديد المختار من الله؟ هل هذا ما تسلَّمه من الله عندما ظهر له في حلم..؟ فكيف يأمر الملك ببتر الطفل الحي فيموت فلا تناله هذه ولا تلك؟ لكنه إذ أصدر الحكم بعد أن أعلن عن الأم الحقيقية أدرك الكل حكمته، وأن "قُلُوبُ الْمُلُوكِ لاَ تُفْحَصُ" (أم 25: 3). لقد التهب قلب الأم الحقيقية على ابنها وطلبت تسليم ابنها للسيدة الأخرى المقاومة لها ولا تراه مقتولًا، كأنها تقول له: "أود أن أراه ابنها عن أن لا أراه ""(4).
3- تصوَّر ليوتاكسل أن حل هذا اللغز في منتهى البساطة، وذلك بسؤال "القابلة" عمن ولدت قبل الأخرى بثلاثة أيام، وهذا التصور خاطئ لأن القابلة تستطيع أن تحدد الأم التي ولدت قبل الأخرى، ولكنها تعجز عن تحديد أم الطفل الحي، ولاسيما أن الفاصل الزمني بين الطفلين مجرد ثلاثة أيام، فلو افترضنا أن أحدهما عمره أسبوع فإن الآخر عمره عشرة أيام فيصعب جدًا أيهما أكبر من الآخر من جهة الحجم والوزن والملامح، لأنه ربما الأصغر وُلِد مكتمل الوزن نحو ثلاثة كيلوجرامات أو أكثر، بينما الذي وُلِد أولًا كان وزنه كيلوجرامين، فإذا أخذنا بالوزن والحجم لعكسنا الحقيقة.
_____
(1) ترجمة عدنان حسن - الماضي الخرافي - التوراة والتاريخ ص 474.
(2) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 375.
(3) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 4 (ب) ص 261.
(4) تفسير سفر ملوك الأول ص 107، 108.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1244.html
تقصير الرابط:
tak.la/9xjazfp