ج: 1- عاش اليبوسيون بجوار الحثيين والأموريين في منطقة يهوذا الجبلية (عد 13: 29، يش 11: 3) وكانت أورشليم مدينة اليبوسيين وملكها " أدوني صادق" (يش 10: 3) الذي أجتمع مع أربعة ملوك آخرين وحاربوا جبعون لأنها قطعت عهدًا مع يشوع، فأسعف يشوع جبعون وأعانته السماء، فهزم الملوك الخمسة وقتلهم، ولكن لا بني يهوذا ولا بني بنيامين استطاعوا الاستيلاء على أورشليم وطرد اليبوسيين " فسكن اليبوسين مع بني يهوذا" (يش 15: 63) وكذلك: "بنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم" (قض 1: 21) فأورشليم تقع على الحدود الفاصلة بين سبطي يهوذا وبنيامين، وكان حصن صهيون في أورشليم، وهو حصن منيع جدًا، يشرف على وادي قدرون وعلى وادي أبن هنوم، كان تحت سيطرة اليبوسيين، وظل الوضع هكذا منذ أيام يشوع وطوال حكم القضاة حتى ملك داود على إسرائيل، ونظر إلى يبوس بموقعها الجغرافي وحصانتها الطبيعية وأدرك أنها المكان الأنسب لعاصمة الدولة، فقد بُنيت يبوس على عدة تلال، ودُعيت في عصر إبراهيم بمدينة " ساليم " وفي عصر يشوع والقضاة " يبوس"، وبعد أن نجح داود في الاستيلاء عليها دعى الحسن " صهيون " ثم دُعيت المدينة " مدينة داود"، كما دُعيت " أورشليم".
2- وثق اليبوسيون في مناعة وحصانة مدينتهم التي لا تتجاوز إحدى عشر فدانًا، واعتقدوا أن مجرد مجموعة من الرجال العميان والعرج يستطيعون بسهولة الدفاع عن المدينة مهما كانت قوة المهاجمين لها، وذلك نظرًا لحصانتها الطبيعية، وعندما رأوا محاولات داود للاستيلاء عليها " كلموا داود قائلين لا تدخل إلى هنا ما لم ينزع العميان والعرج" (2صم 5: 6).
ويقول " القمص تادرس يعقوب": "أراد اليبوسيون أن يسخروا منه فقالوا: "لا تدخل إلى هنا ما لم تنزع العميان والعرج" (2صم 5: 6) وكان القصد بذلك أنه لن يدخلها قط، لكنه إذ دخلها صار المثل: "لا يدخل البيت أعمى ولا أعرج" (2صم 5: 8). بمعنى آخر قال سكان يبوس أنهم حتى إن كانوا عميًا وعرجًا فلن يقدر داود الملك بكل جيشه أن يحتل مدينتهم، لكنه إذ استولى عليها يقول: لم يعد بالمدينة أعمى أو أعرج، لا بمعنى أنه منع دخول أي أعمى أو أعرج، وإنما إعلانًا رمزيًا عن قوة رجاله وحكمتهم أن جميعهم مبصرون وقادرون على السير"(1).
3- قد كان داود يحتقر آلهة الوثنيين وربما دعاهم عميانًا وعرجًا لأنها آلهة باطلة وليس فيها حياة ولا حسن ولا حركة فقال لأذهب لفتح أورشليم وتحدى هذه الآلهة العمياة والعرجاء، كان اليبوسيين يفتخرون بهذه الآلهة وأقاموا لها التماثيل على الأسوار ظنًا أنها تحمي أراضيهم، وتحدوا داود أنه لن يدخل أورشليم حتى ينزع هذه الآلهة القوية إن استطاع لذلك سبيلًا.
4- كيف أستطاع داود الاستيلاء على أورشليم..؟ لقد وضع داود مكافأة عظيمة لمن يستولي على الحصن ويضرب اليبوسيين (2صم 5: 8) فتسلل يوآب مع رجاله إلى داخل الحصن عن طريق قناة حُفرت في الصخر لنقل المياه من خارج أسوار المدينة إلى داخل الحصن، فبالرغم من أن حصن يبوس كان من أمنع حصون كنعان لكن نقطة الضعف فيه أن المياه لم تكن تصل إليه بسهولة... تسلل يوآب ورجاله إلى الحصن عبر القناة المائية بينما كان داود يدق أبواب المدينة، ففتح يوآب ورجاله أبواب المدينة أمام داود وجيشه، وبهذا سقط الحصن الحصين.
ويقول " الأب متى المسكين": "ويُرجّح بعض العلماء اليهود أنه (داود) حاصرها ونفذ إليها من سرداب معمول أصلًا ليوصّل المياه من نبع جيحون إلى ما داخل أسوار المدينة"(2).
ويقول " القمص مكسيموس وصفي": "حاول داود اقتحام المدينة عدة مرات ولم يستطع تحقيق ذلك، فكان اليبوسيون يحتمون بالحصن وهم يفتخرون بذلك ويهزأون بداود ويقولون أنه يكفي أن يحرس المدينة جماعة من العرج والعميان للدفاع عنها (2صم 5: 6) وكانوا واثقين أن داود لا يستطيع الاستيلاء على الحصن وهو جزء من التحصينات القوية فقد كان اليبوسيون يحتمون دائمًا بالحصن وبالتبعية يسيطرون على المدينة كلها، وأعلن داود مكافأة لمن يقتحم المدينة وكانت المهمة العظيمة لاقتحام المدينة تقع على يوآب... وقد نجح يوآب في ذلك وكانت الخطة أن هاجم داود أولًا الأسوار لكي يبعد نظر اليبوسيين عن غرضه الأساسي بينما كان يوآب ومعه قوة مختارة من رجاله يتسلل إلى المدينة من خلال النفق (1أي 11: 6) ودخل إلى قلب الحصن وفتح أبواب المدينة فأندفع جيش داود إلى داخلها وأخذها داود واستولى على المدينة بسرعة خاطفة وسكن جيش داود الحصن ودعي " صهيون " حيث أن صهيون هي موقع الحصن، وسميت فيما بعد "مدينة داود " لتصبح على مدى الأيام مدينة الملك والكهنوت أي مركز السياسة والدين"(3).
وسقطت يبوس التي صمدت نحو أربعمائة سنة ضد الهجمات، فسكنها داود " وبنى المدينة حواليها من القلعة إلى ما حولها. ويوآب جدَّد سائر المدينة" (1أي 11: 8) وبنى فيها داود قصرًا لمُلكه، ونقل إليها "تابوت العهد".
ويقول " الخوري بولس الفغالي": "نقصت المملكة عاصمة حقيقية. كانت حبرون بعيدة عن قلب البلاد، ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقبائل الجنوب. تطلع داود إلى مدينة اليبوسيين التي تفصل بين يهوذا وإسرائيل، فاستولى بالحيلة على أورشليم التي تحميها قلعة أسمها صهيون (2صم 5: 6 - 10) وجعل من هذه المدينة الكنعانية القديمة موضع إقامته. وكمل هذا العمل بمبادرة دينية سيكون لها بُعدها: نقل تابوت العهد من شيلو إلى العاصمة الجديدة (2صم 6)"(4).
5- أثبتت التنقيبات الأثرية عن اكتشاف هذه القناة التي سلكها يوآب رئيس جيش داود، وأيضًا تم اكتشاف قناة أخرى حفرها حزقيا الملك (2أي 32: 30) ففي عام 1867م أكتشف الكابتن الانجليزي " وارن " بين أنقاض مسجد حفرة عميقة، بها درجات محفورة في الصخر، فهبط إليها فوجد نبع ماء عذب تحت الأرض، وعاين قناة محفورة في الصخر تمتد أفقيًا ثم عموديًا ثم تصل إلى ممر ضيق يقضي إلى داخل جدران المدينة القديمة، وتأكد علماء الآثار أن هذا النفق يرجع إلى نهاية الألف الثانية ق.م.، وأنه هو نفس النفق الذي تسلل منه يوآب للمدينة(5).
ويقول " أ. م رينويك": "وقد أكتشف " وارن " Warren مجرى عموديًا عمقه أربعون قدمًا ونفقًا أفقيًا طوله ستون قدمًا حفرها اليبوسيون ليأتوا بالمياه من نبع يُدعى " نبع العذراء " كان خارج أسوار المدينة، وكانت تلك جرأة نادرة من يوآب إذ باغت اليبوسيين الواثقين بأنفسهم عن طريق تلك القناة (2صم 5: 6 - 8)"(6).
ويقول " جوش مكدويل": "أن أحد أهم الانجازات التي تمت في عهد الملك داود هو الاستيلاء على أورشليم. وكان الشك في رواية الكتاب المقدَّس يرتكز على أن الإسرائيليين دخلوا المدينة عن طريق نفق يؤدي إلى بِركة سلوام، إلاَّ أنه كان يُعتقد أن البِركة كانت تقع خارج أسوار المدينة في ذلك الوقت. ولكن الاكتشافات التي جرت في سنة 1960م كشفت على أن الأسوار كانت تمتد إلى ما وراء البِركة"(7).
_____
(1) تفسير سفر صموئيل الثاني ص 35.
(2) تاريخ إسرائيل ص 78.
(3) دراسات في سفر صموئيل الثاني ص 49، 50.
(4) تعرَّف إلى العهد القديم مع الأباء والأنبياء ص 113.
(5) راجع زينون كوسيدوفسكي - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 285، 286.
(6) مركز المطبوعات الدولية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ 2 ص 129.
(7) برهان جديد يتطلب قرارًا ص 348.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1173.html
تقصير الرابط:
tak.la/z3f7fb3