ويتناول " ناجح المعموري " أوجه التشابه بين أسطورة جلجامش وأنكيدو وقصة داود ويوناثان، ويمكن تلخيص أوجه الشبه فيما يلي:
1- كل من جلجامش وداود كان ملكًا، وارتبط جلجامش بصديقه أنكيدو كما ارتبط داود بيوناثان بصداقة حميمة.
2- كان هناك ميثاقًا بين كل من جلجامش وأنكيدو، وداود ويوناثان، فحقَّق جلجامش وانكيدو انتصارات عظيمة لمدينة أوروك، وحافظ يوناثان على عهده وميثاقه مع داود، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وعندما قتل يوناثان "رثى داود بهذه المرثاة شاول ويوناثان ابنه. وقال أن يتعلَّم بنو يهوذا نشيد القوس" (2 صم 1: 17، 18).
3- بعد موت أنكيدو طلب جلجامش من الصنَّاع إعداد تمثالًا لصديقه أنكيدو تخليدًا لذكراه: "ونادى صنَّاع المدينة وصاح بهم. أيها... والصائغ والجوهري. ونحات الأحجار الكريمة أصنعوا لي تمثالًا لخلي. ثم نحت لصديقه تمثالًا جاعلًا صدره من اللازورد وجسمه من الذهب وشرع يندب صديقه ويرثيه"(1). أما الملك داود فقد طلب من بني يهوذا أن يتعلموا مرثية شاول ويوناثان(2).
4- لعب الدور السياسي والديني دوره في قتل أنكيدو ويوناثان، فقد مات أنكيدو بناء على قرار الإله "أنليل"، وقُتل يوناثان وأبيه وأخيه بناء على قرار من " يهوه".
5- شارك رجال المملكة في ندب كل من أنكيدو ويوناثان، فجاء على لسان جلجامش:
أ - "يا أنكيدو أن أمك ظبية وأبوك حمار الوحش. وقد رُبيت على رضاع لبن الحُمر الوحشية. لتندبك المسالك التي سرت فيها في غابة الأرز. وعسى ألاَّ يبطُل النواح عليك ليل نهار. وليندبك شيوخ أوروك، ذات الأسوار"(3).
ب - " على فراش المجد أضجعتك وأجلستك على كرسي الراحة الذي على شمالي. لكي يُقبّل أمراء الأرض قدميك. سأجعل أهل " أوروك " يبكون عليك ويندبونك... وسأجعل أهل الفرح يحزنون عليك. وأنا نفسي بعد أن تُوسَّد في الثرى... سأطلق شعري... وألبس جلد الأسد وأهيم على وجهي في الصحاري"(4).
ج - " من أجل "أنكيدو" خلي وصاحبي أبكي. وأنوح نواح الثكلى. إنه الفأس الذي في جنبي وقوة ساعدي. والخنجر الذي في حزامي، والمجن الذي يدرأ عني. وفرحتي وبهجتي وكسوة عيدي. لقد ظهر الشيطان الرجيم وسرقه مني. يا خلي ويا أخي الأصغر. لقد طاردت حمار الوحش في التلال. اقتنصت النمور في الصحاري. "أنكيدو" يا صاحبي وأخي الأصغر. الذي أقتنص حمار الوحش في النجاد والنمر في الصحاري. تغلبنا على الصعاب وارتقينا أعالي الجبال"(5).
وجاء عن داود: "فأمسك داود ثيابه ومزَّقها وكذا جميع الرجال الذين معه. وندبوا وبكوا وصاموا إلى المساء على شاول وعلى يوناثان" (1صم 1: 11، 12).. "يا بنات إسرائيل أبكين شاول الذي ألبسكنَّ قرمزًا بالتنعم وجعل حليَّ الذهب على ملابسكنَّ" (1صم 1: 24).
ج: إن كان هناك بعض التشابهات بين أسطورة جلجامش وأنكيدو وبين قصة داود ويوناثان لكن الخلافات بينهما أكبر وأعمق، فما أبعد الخلافات بين كلام الله (الوحَّي المقدَّس) الذي سجَّله أنا الله القديسون مسوقين من الروح القدس، بهدف تعليم الإنسان وخلاص نفسه، وبين هذه الأسطورة وتلك الخرافات التي خطتها يد الإنسان، كمحاولة للتعبير عن الصراع بين الخير والشر، ومن أمثلة هذه الخلافات ما يلي:
1- الكل يعرف أن قصة جلجامش وأنكيدو ما هي إلاَّ أسطورة من نبع الخيال الشعبي، أما قصة داود ويوناثان فهي قصة حقيقية تاريخية وردت في الكتاب المقدَّس المنزَّه عن أي خطأ كان.
2- تضرب أسطورة جلجامش وأنكيدو بجذورها كما تمتد فروعها من خلال الخيال الجامح البعيد عن الواقع كثيرًا، أما قصة داود ويوناثان فأنها تتمشى مع الواقع بعيدة تمامًا عن شطحات الخيال الجامح.
3- نلتقي في الأسطورة بجلجامش الذي ثلثه إله وثلثان إنسان، وقد مهرته أمه الإلهة " نينسون " بالجمال، وكان جلجامش ضخم الجسم مفتول العضلات، يعرف كل شيء ويطلع على جميع الأسرار، ويرى جميع الأشياء حتى لو كانت في أطراف الأرض، كما كان جلجامش مفتريًا لا يترك ابنًا لأبيه أو ابنة لحبيبها حتى ضج منه الشعب وشكوه للإلهة... فما أبعد الفارق بين شخصية جلجامش الأسطورية هذه وبين شخصية داود الذي هو مجرد إنسان لا أكثر، ولا يحمل شيئًا من الألوهة، لم تكن أمه إلهة، ولم يكن فارع الطول مفتول العضلات، ولا يعرف كل شيء ولا يطلع على جميع الأسرار، ولا يرى الأشياء التي في أطراف العالم، ولم يكن داود يومًا مفتريًا على شعبه.
4- عندما شكى الشعب جلجامش للإله "أنو" طلب "أنو" من الإلهة "أرورو" أن تخلق غريمًا لجلجامش، فأخذت الإلهة "أرورو" قطعة من الأجر وبصقت عليها فخلقت " أنكيدو " الذي اكتسى جسمه كله بالشعر، وكانت جدائل شعره كجدائل شعر المرأة، وعاش عريانًا يهيم في الصحراء يأكل العشب مع الغزلان، وكان منظره هكذا مخوفًا، ورآه صياد وهو ينتزع الشباك التي نصبها هذا الصياد ليصطاد بها الحيوانات، فاستجار الصياد بجلجامش الذي نصحه بأن يصطحب مع إنسانة بغيَّة تجتذبه بمفاتنها حتى تسقطه وتستأنسه، وما أبعد شخصية أنكيدو هذه الأسطورية عن شخصية يوناثان الإنسان اللطيف المُحب العادل، الذي لم يوافق أبيه على شره، كما أن يوناثان لم يحيا في الصحراء عريانًا، ولا أكل العشب مع الغزلان.
5- أقنعت المرأة الساقطة أنكيدو أن ينزل معها إلى مدينة أوروك ليعيش كإنسان متحضر يرتدي الملابس ويأكل الخبز ويشرب المسكر، فأطاع أنكيدو، وعندما ذهب إلى أوروك وأستمع لشكوى الناس المرة من ظلم وافتراء جلجامش ذهب إليه وصارعه وكاد يصرعه، ثم صارت صداقة عظيمة بينهما، وبالطبع لم يحدث قط أي نوع من الصراع بين داود ويوناثان، فمنذ أن رأى يوناثان داود يخاطر بحياته لكيما يزيل العار عن شعب إسرائيل أحبه كنفسه وأعطاه جبته وسيفه، وظل وفيًا له حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
6- أراد جلجامش أن يقضي على " همبابا " حارس شجر الأرز الذي زمجرته كالطوفان وفمه كالنار، والكل يرتعب منه، وحاول الشعب وكذلك أنكيدو أن يثنوه عن هذا، ولكن أصر، فذهب معه أنكيدو، وقد تشفعت الإلهة " نينسون " بالإله " شمش " لكيما يعين إبنها جلجامش في مهمته، وتصارع جلجامش وأنكيدو على همبابا فقتلوه، وهذه الخرافة لا تجدها في قصة داود ويوناثان، تلك القصة التي حملت أسمى معاني الصداقة، ولم يتآمر داود ويوناثان على قتل شاول أو غيره.
7- بعد أن انتصر جلجامش على همبابا أعجبت به الإلهة " عشتار " ابنة الإله " أنو " وطلبت الزواج منه، ووعدته بالمركبة الذهبية التي تقودها العواصف، ولكنه رفضها بشدة، فغضبت عشتار، وطلبت من أبيها الإله " أنو " الثور السماوي لينتقم من جلجامش، وشرب هذا الثور السماوي من النهر سبع جرعات فجف النهر، ودار الصراع بين جلجامش وأنكيدو وبين الثور السماوي حتى تمكنا منه بصعوبة بالغة وقتلاه، فغضبت الإلهة وحكمت على أنكيدو بالموت، وما أبعد هذا الخيال الجامح، بكل تفصيلاته التي لا يتسع الوقت لذكرها، عن قصة داود ويوناثان، فهما لم يقتلا الثور السماوي ولم تحكم الإلهة على يوناثان بالموت.
8- بعد أن مات أنكيدو ورثاه جلجامش، وجاء في مرثاة جلجامش: "ليبكيك الدب والضبع والفهد والنمر والوعل والثعلب والأسد والثور الوحشي والأيل والكبش والحيوانات المدهشة... " ومثل هذه الأمور وغيرها لم ترد في مرثاة داود ليوناثان، وأيضًا كانت مرثاة جلجامش لأنكيدو فردية، أما مرثاة داود فقد رثى فيها يوناثان مع أبيه شاول، ودعى هذه المرثاة " نشيد القوس " ولحن هذا النشيد على القيثارة، وأمر أن يتعلَّم بنو يهوذا وأولادهم هذه المرثاة.
ويقول " القمص تادرس يعقوب": "تقف كل نفس أمينة أمام هذه المرثاة العجيبة في خشوع لتحيي الحب الصادق النابع من قلب داود تجاه مضطهده شاول وصديقه يوناثان. تهتز كل مشاعر داود، أما نبأ قتلهما فلم يقدر أن يحبس دموعه ولا أن يصمت بلسانه فسجل لنا هذه المرثاة"(6).
ويقول " القمص مكسيموس وصفي": "وإذا تأملنا في نشيد القوس نجد أنه أحد الروائع الأدبية فيظهر فيه فن التأليف في أسلوب المقابلة، فكل عبارة لها صدى مقابل لها في عبارة أخرى... ويضم النشيد صورًا مؤثرة أنشدها داود، تعبر عن عاطفة ملتهبة بمحبة صادقة من داود لشاول ويوناثان وغيرة قوية لشعبه، فيجمع النشيد بين وضوح الفكرة وجمال التعبير الذي يبرز حرارة العاطفة في صور غنية بالخيال فيها يصب داود اللعنة على الجبال التي تلوثت فيها مجن الجبابرة بالدماء والتراب (ع 21) ويقدم صورًا عن بطولات شاول ويوناثان اللذان في قوة أشد من الأسود وفي خفة أكثر من النسور (ع 23) ويضم النشيد صور عن الحزن والفرح، كما تظهر نفس داود الأبية حينما يذكر كل الخير الذي صار لإسرائيل في حكم شاول... (ع 24) ونسى داود كل الظلم والمعاناة التي قاساها بسبب شاول ولا يذكر سوى بطولته وشجاعته"(7).
9- مما زاد حزن جلجامش أنه سيموت يومًا مثل أنكيدو، وهو لا يريد أن يموت، فأهمل شعره وارتدى جلد أسد وهام في البراري، وهو في ثورة داخلية ضد الموت، وخاض مغامرات خيالية إلى أن وصل إلى "أوتنابشتيم" Utnapishtim الرجل الذي حصل على سر الخلود، وهو يمثل شخصية " نوح " لكيما يحصل منه على سر الخلود، وتتابع أحداث الأسطورة، ونكتفي بهذا ويمكنك يا صديقي الرجوع إلى الأسطورة بتفصيلاتها(8).
_____
(1) الملحمة ص 127.
(2) نشيد القوس.
(3) الملحمة ص 125.
(4) الملحمة ص 127، 128.
(5) الملحمة ص 160.
(6) تفسير سفر صموئيل الثاني ص 12.
(7) دراسات في سفر صموئيل الثاني ص 14، 17.
(8) راجع مدارس النقد جـ 4 س290.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1168.html
تقصير الرابط:
tak.la/fmdmpt7