يقول " زينون كوسيدوفسكي": "حزن داود كثيرًا لمقتل شاول... أما مقتل يوناثان فكان بمثابة كارثة كبيرة عند داود، فيوناثان بالنسبة له صديق وحيد مُخلص ومُحب لدرجة الغرام، ولن يستطع أحد شغل مكانه في قلب داود. بكى داود كثيرًا، وضرب رأسه بالجدار مرارًا، ومزَّق ثيابه، ولم يأكل أحد شيئًا طوال اليوم ولم ينم أحد طيلة الليل، وبكى المقاتلون كلهم مع داود وندبوا يوناثان حتى عائلة داود شاركت في البكاء، وفي اليوم التالي صار داود يدور في غرف البيت كالمعتوه، صامتًا، غاضبًا ومرهقًا"(1).
ثم يقول " كوسيدوفسكي " عن داود: "فهو لكونه من يهوذا، وفي نفس الوقت طاغية استولى على السلطة من سلالة شاول، لذا لم تكن له شعبية عند معظم قبائل إسرائيل الشمالية. وقد يدل على مدى اهتزازه وتأرجحه على العرش كون فرقته الخاصة تكوَّنت من الغرباء وبشكل خاص من الفلسطينيين المرتزقة، حاول داود بكل قواه كسب ود القبائل الشمالية، وهذا ما يفسر سبب إعلانه الحداد على شاول، كما يفسر سبب مراسم دفن الملك العظيمة التي أجراها داود، ويفسر أيضًا أوامره بدفن بقايا نسل شاول المشئوومين، عندما اهتاج الشعب متأثرًا بتصرفات رصفة"(2).
كما يقول " ناجح المعموري": "تمثل مرثية داود للملك شاول وابنه يوناثان نصًا مهمًا من المراثي التوراتية، واختلاف الترجمة يساعد القراء على تجميع الملاحظات الخاصة بالملك داود وصفاته الاجتماعية ونزواته الجنسية، وميوله اللوطية التي يشف عنها هذا النص، كاشفًا ميوله وتخيلاته الحلمية كما قال جان بوتيرو الذي درس هذه المرثية، ومن خلالها قدم وصفًا دقيقًا وجريئًا عن الملك المدوَّخ بالعواطف واللذائذ الحياتية، ويبدو لي النص التوراتي منفتحًا أكثر من كتاب جان بوتيرو، ولدرجة تقترب من الموضوع المؤكد لملاحظتنا عن العلاقة الشاذة بين الأثنين. ولتعزيز هذه القراءة سأقدم النص مرة أخرى وبترجمة منقولة عن الفرنسية، من أجل أن يتمكن المتلقي من صياغة مفهوم محدَّد عن ميول ونوازع الملك الماجن والفاسق، والذي لم يخجل من اعترافه بالشذوذ: وا حسرتاه! المجد لإسرائيل... شاول ويوناثان محبوبان شهيَّان... قد ضاق ذراعي عليك يا أخي يوناثان. لقد كنت شهيًّا إليَّ جدًا. وكان حبك عندي أولى من حب النساء. وقد أحببتك حب أم لابنها الوحيد"(3).
ج: 1- أعتبر كوسيدوفسكي وناجح المعموري وغيرهما أن العلاقة الحميمة بين داود ويوناثان علاقة غرام جنسي، ولذلك يصوّر كوسيدوفسكي داود بأنه عندما بلغه خبر موت يوناثان أخذ يضرب رأسه في الجدار مرارًا وتكرارًا، ومزَّق ثيابه، وأخذ يدور في غرف البيت كالمعتوه صامتًا غاضبًا ومرهقًا، ويتهم ناجح المعموري داود النبي بأنه كان مقهورًا من نزواته الجنسية وميوله اللوطية، فأنه الملك المُدوَّخ بالعواطف واللذائذ الحياتية، وكل هذه خيالات مريضة القصد منها تشويه صورة داود النبي وصداقته الوفية مع يوناثان. أن الكتاب المقدَّس الذي تكلم بوضوح تام عن خطية رجال سدوم وعمورة، ورجال جبعة بنيامين، وأوضح أن هؤلاء وأولئك مارسوا تلك الفحشاء، لم يشر الكتاب لا من قريب أو من بعيد لأي علاقة دنسة بين داود ويوناثان، فهذا الأمر مرفوض كتابيًا وعقليًا ومنطقيًا، وما أكثر الأدلة على هذا..؟ نذكر منها الآتي:
أ - لو كان هناك علاقة دنسة بين داود وشاول، ألم تكن هذه فرصة لشاول ومبرر لقتل داود الفاسق؟!
ب - هل الله الذي رفض الله شاول لأنه خالف أوامر الله، وبالرغم أنه لم يرتكب الفحشاء، فكيف يختار داود عوضًا عنه لو كان داود يصنع هذا الشر العظيم؟!
جـ- كيف تحب ميكال داود وهناك علاقة شريرة بين داود وأخيها يوناثان ؟! وكيف تقبل الزواج من إنسان منحرف؟! وكيف تساعده على الهرب وتُعرّض نفسها للموت من أجل إنسان فاسد؟!
د - لو كانت هناك علاقة دنسة بين داود ويوناثان، كيف يقول داود له: "ماذا عملت وما هو إثمي وما هي خطيتي أمام أبيك حتى يطلب نفسي" (1صم 20: 1)؟!
هـ- كيف يجعل داود الله محور حياته ويفعل هذه الفحشاء؟! وكيف يقول ليوناثان: "حي هو الرب وحيَّة هي نفسك أنه كخطوة بيني وبين الموت" (1صم 20: 3)؟! وهل يمكن لإنسان يتوقع الموت بهذه السرعة يفعل هذا الشر العظيم؟!
و - الكتاب المقدَّس الذي ذكر خطايا الأنبياء وسقطة داود مع زوجة أوريا الحثي هل كان سيصمت عن هذا الشر العظيم؟! وإن كان الله لم يحابي داود في خطيته مع امرأة أوريا، وعاقبه عقابًا صارمًا، فما بالنا بخطية بشعة مثل هذه... هل كان الله القدوس الطاهر العادل يغض البصر عنها؟!!
ز - كيف يصنع داود هذا الشر ويقول صموئيل لشاول عنه: "قد أنتخب الرب لنفسه رجلًا حسب قلبه" (1صم 13: 14)؟! وكيف يقول عنه القديس أسطفانوس: "الذي وجد نعمة أمام الله" (أع 7: 46)؟! وكيف يقول عنه الوحي الإلهي على لسان بولس الرسول: "وجدت داود بن يسَّى رجلًا حسب قلبي الذي سيصنع كل مشيئتي" (أع 13: 22)؟
ح - هل يرتكب داود هذه الفحشاء وهو يعرف أنه بسبب هذه الخطية قلب الله سدوم وعمورة (تك 19) وبسببها أيضًا كاد سبط بنيامين بالكامل أن يفنى (قض 19، 20)؟!
ط - من أين أتى المعترض بهذه العلاقة، والكتاب لم يذكر سوى أن داود تضايقت نفسه على موت يوناثان..؟! إنها أوهام وتصورات خاطئة تمثل انعكاسات لما يجول في أنفس هؤلاء النُقَّاد.
2- عقب الملحمة البطولية لداود الشاب الحدث الذي وضع رأسه على كفه ودخل في مواجهة مع جليات الجبار بإيمان عظيم كهذا، فقتل الفلسطيني ورفع العار عن شعبه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وعقب تعرُّف شاول على داود ونسبه " وكان لما فرغ (داود) من الكلام مع شاول أن نفس يوناثان تعلقت بنفس داود وأحبه يوناثان كنفسه" (1صم 18: 1) فقول الكتاب أن نفس يوناثان تعلَّقت بنفس داود إشارة لنوع هذه العلاقة المقدَّسة، فقد استراحت روح كل منهما للآخر... سبق يهوذا ووصف علاقة أبيه يعقوب مع الابن الأصغر بنيامين، فقال ليوسف: "فالآن متى جئت إلى عبدك أبي والغلام (بنيامين) ليس معنا ونفسه مرتبطة بنفسه يكون متى رأى أن الغلام مفقود أنه يموت" (تك 44: 30، 31) فهل في هذا التعبير شبه علاقة جسدية فاسدة؟! فالعلاقة بين داود ويوناثان علاقة قوية نقيَّة روحيَّة بعيدة تمامًا عن الجسد والجسديات والملاذ الجسدية التي تصوَّرها بعض النُقَّاد، ولماذا نتعجب من قول الكتاب " وأحبه يوناثان كنفسه " أليست هذه وصية كتابية: "تحب قريبك كنفسك" (لا 18: 19) وفي موضع آخر يقول: "صاحبك الذي مثل نفسك" (تث 13: 6) لقد كان الله حاضرًا شاهدًا في هذه العلاقة، ولذلك " قطع يوناثان وداود عهدًا لأنه أحبه كنفسه. وخلع يوناثان الجبة التي عليه وأعطاها لداود مع ثيابه وسيفه وقوسه ومنطقته" (1صم 17: 3، 4) فهذه محبة أعظم وأسمىَ من محبة المحبوب لحبيبته، وأثمن من محبة الرجل لامرأته، لم يكن لها أي هدف مادي أو منفعة شخصية، بل من أجل هذه المحبة تحمل يوناثان الشتيمة والتعبير من شاول أبيه " فحمى غضب شاول على يوناثان وقال له يا ابن المتعوجة المتمردة أما علمت أنك قد أخترت ابن يسَّى لخزيك وخزي عورة أمك. لأنه مادام ابن يسَّى حيًّا على الأرض لا تثبت أنت ولا مملكتك" (1صم 20: 30، 31) بل أراد شاول أن يقتل يوناثان من أجل دفاعه عن صديقه داود: "فصابى شاول الرمح نحوه ليطعنه" (1صم 20: 33) وبالرغم من أن يوناثان تأكد أن الرب أختار داود ليقيمه ملكًا خلفًا لأبيه شاول فإن محبته هذه لم تهتز على الإطلاق، إنما صار يهيئ له الطريق بفرح، ودبر له أمر هروبه من أمام وجه أبيه شاول الذي ألتمس قتله (1 صم 20) وهكذا صارت صداقة داود ويوناثان رمزًا للحب الصادق والمحبة الطاهرة " ثم عاد يوناثان وأستحلف داود بمحبته له لأنه أحبَّه محبَّة نفسه" (1صم 20: 17).
ويعلق " القديس يوحنا ذهبي الفم " على هذه الصداقة قائلًا: "ماذا إذًا، هل حسد (يوناثان) داود؟ قطعًا لا، مع أنه كان يوجد سبب للحسد. لقد أدرك خلال الأحداث أن المملكة تعبر عنه إليه، ومع هذا لم يحمل شيئًا من الحسد. لم يقل: أنه يحرمني من المُلك الموروث عن والدي. بل بالحري فضل أن يجتاز إليه المُلك، وفي نفس الوقت لم يتخلَّ عن أبيه بسبب صديقه. لا يظن أحد أنه كان خائنًا لوالديه، فأنه لم يؤذِ والده وإنما بقى يقاوم محاولاته الظالمة... لم يسمح لأبيه أن يكون قاتلًا ظالمًا، فقد أراد في مرات كثيرة أن يموت من أجل صديقه، مقاومًا اتهامات أبيه. عوض الحسد كان يعمل ليستلم (داود) المُلك... لقد ضحى بحياته لأجله. من أجل صديقه لم يخشَ حتى والده الذي دبر خططًا ظالمة. كان ضميره حرًا... وهكذا ارتبط العدل بالصداقة"(4).
3- كان حزن داود حزنًا حقيقيًا بعيدًا عن الرياء وكل مظاهر كاذبة، ولم يكن حزنه هذا تمثيلية سخيفة لمراعاة مشاعر الأسباط، ولم يكن حزنه من أجل يوناثان فقط بل من أجل يوناثان وشاول، فداود صاحب القلب الطيب نسى تمامًا كل الإساءات التي وجهها له شاول من قبل، وسعيه الدؤوب لقتله، وظل مُثبّتًا نظره على شاول مسيح الرب الذي مسحه صموئيل، فلا يمكن أن يمد يده إليه، ولا يمكن أن يفرح لسوء أصابه، وسريعًا ما حكم على العماليقي بالموت لأنه قتل شاول أو هكذا قال.
4- جاء في " التفسير التطبيقي": "عندما تقابل داود ويوناثان، أصبحا في الحال صديقين حميمين. ومع أن الأرجح أن يوناثان كان أكبر قليلًا من داود، فإن صداقتهما من أعمق وأوثق الصداقات المسجلة في الكتاب المقدَّس، لأنهما:
(1) أسَّسا صداقتهما على التزامهما لله، وليس فقط على التزام أحدهما للآخر.
(2) لم يسمحا لشيء أن يدخل بينهما، بما في ذلك مستقبل كل منهما، والمشاكل العائلية.
(3) ازدادا اقترابًا عندما تعرضت صداقتهما للامتحان.
(4) استطاعا أن يظلا صديقين إلى النهاية. وقد أيقن يوناثان، ولي عهد إسرائيل، بعد ذلك أن داود، وليس هو، سيكون الملك (23: 17) ولكن هذا لم يُضعف من محبته لداود، فكان يوناثان يُفضّل أن يفقد عرش إسرائيل عن أن يفقد صديقه الحميم"(5).
5- جاء في " كتاب السنن القويم " تعليقًا على قول داود: "محبتك لي أعجب من محبة النساء": "أعجب من محبة النساء: محبة المرأة لرجلها عجيبة لأنها تترك بيت أبيها وأهلها لأجله وتحامي عنه إذا أُهين، وتخدمه إذا مرض، وتلتصق به إذا افتقر، وتثبت في محبتها إلى الموت. ولكن محبة يوناثان لداود أعجب لأنه بقى في بيت أبيه واحتمل التعييرات لأجله وأحبه لما كان مطرودًا وأحبه أيضًا عندما رأى نفسه خاسرًا وداود رابحًا"(6).
6- يقول " الأرشيدياكون نجيب جرجس": "يظهر أن داود عندما ذكر أن يوناثان مقتول على روابي إسرائيل الشامخة، وذكر محبته الغالية والعهود المقدَّسة التي قطعاها معًا، والأيام السعيدة التي قضياها معًا، والمشاعر الحيَّة التي ربطت قلبيهما، تضاعفت لواعج حزنه، ولم يتمالك نفسه عن البكاء وجعل يناجي صديقه بهذه العبارات الحزينة:
أ - قد تضايقت عليك يا أخي يوناثان: دعاه "أخًا" لأنه بالحقيقة كان الصديق الألزق من الأخ، وقد كان موته صدمة كبيرة لداود فتضايق قلبه وحزنت نفسه وصار حزنه عبئًا ثقيلًا عليه.
ب - كنت حلوًا لي جدًا: كانت إحساسات يوناثان وكل عواطفه ومعاملاته لداود في غاية الحلاوة واللطف والعذوبة لأنه عامله بكل إنسانية وحب، وبادله داود أيضًا كل هذه المشاعر، حتى أصبحت محبتهما المتبادلة مضرب الأمثال. لا شك أن داود اختلى بنفسه وهو ينظم هذه المرثاة، وفي اختلاء الإنسان بنفسه كثيرًا ما تعاوده ذكريات الماضي وصور الحاضر وآمال المستقبل. وداود في اختلائه ذكر الكثير مما كان بينه وبين يوناثان وما كان عليه هذا الأمير صاحب القلب الكبير من الحب والإخلاص... لاشك أن كل وقفة على إحدى هذه الذكريات، وتصوُّره يوناثان ميتًا وجسمه مسجي على جبال جلبوع، كل هذا كان يجعله يجهش في البكاء...
ج - محبتك لي أعجب من محبة النساء: أعجب من محبة المرأة لرجل تعلق به قلبها، وأعجب من محبة المرأة لزوجها، لأن أولئك تحببن لأجل غرض شخصي، فالمرأة تتعلق برجل لمجرد إعجابها به ولكي تشبع عواطفها، والزوجة تتعلق بزوجها لأنه زوجها الذي يعولها ويرعاها ويكوّن معها بيتًا وأسرة، وعندما تزف إلى زوجها يكون ذلك برضى والديها ومسرتهما، أما يوناثان فقد أحب داود بدون أي غرض، أحبه لأجل شخصه فقط، ولأجل خاطر المحبة نفسها، محبة بريئة نقية مُضحية باذلة، مُؤثِرة راحة داود وسعادته ومستقبله الباهر على راحة نفسه ومستقبله. أحبه مع أن في محبته له إغضابًا لأبيه، ومع علمه أنه سيكون الملك عوضًا عنه، لم يقاومه أو يقتله لكي يتخلص منه فيخلوا له الجو، بل بالعكس كان منتهى أمله أن يرى داود متربعًا على عرش المُلك ويكون هو من رجاله المقربين، ثانيًا له فقط. لاشك في أن هذه عينة نادرة من الصداقة المخلصة، والمحبة النادرة العجيبة"(7).
_____
(1) ترجمة د. محمد مخلوف - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 245، 246.
(2) ترجمة د. محمد مخلوف - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 287.
(3) التوراة السياسي - السلطة اليهودية: أنساقها ووظائفها ص 107 - 109.
(4) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير صموئيل الثاني ص 15.
(5) التفسير التطبيقي ص 603.
(6) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم ص 145، 146.
(7) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر صموئيل الثاني ص 21، 22.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1167.html
تقصير الرابط:
tak.la/cc5sj9y