يقول " ليوتاكسل": "وكتاب ياشر هذا الذي تذكره التوراة غير مرة، ألغاه الكهنة اليهود أنفسهم، ثم أبادوه تمامًا وهم يقولون لك أنه " فُقِد مع شديد الأسف". وما يجدر ذكره، أن وجود هذا الكتاب كان يشكل حرجًا كبيرًا لهم، لأنه يبين بصورة قاطعة أن التوراة لم تُكتب بقلم موسى وصموئيل وداود وغيرهم وأن كتَّابهم الحقيقيين وضعوا أحداثًا لم يشاهدوها أو يعاصروها بأنفسهم"(1).
ج: 1- لم يكن سفر "ياشر" سفرًا قانونيًا، أي مُوحى به من الله، لأنه منذ القديم تم الفصل بين الأسفار القانونية المُوحى بها والمعصومة تمامًا من الخطأ، وبين الأسفار غير القانونية التي هي نتاج عمل بشري محض، وكلمة " قانونية " Canon من كلمة Cane أي قصبة، وقصبة القياس التي فصلت بين الأسفار القانونية وبين أسفار أبو كريفا المنحولة تشمل خمسة معايير وهي(2):
أ - أن يكون الكاتب معروفًا سواء من رجال العهد القديم أو رجال العهد الجديد.
ب - أن يكون الكاتب قد عاش حياة مقدَّسة مرضية للرب، ليس بمعنى أنه كان معصومًا من الخطأ في كل جوانب حياته، ولكن بمعنى أنه إنسان عرف جيدًا كيف يتوب عن خطاياه، ونحن لا نعترف بعصمة إنسان نبي أو رسول إلاَّ في حالة كتابته الأسفار المقدَّسة.
جـ- يعلم السفر طريق الله بالحق والاستقامة، فيكون خاليًا من كل تناقض أو تعارض أو نقائص أو تشويش أو كذب لأنه " لا يمكن أن الله يكذب" (عب 6: 18).
د - أن يكون هدف السفر واضحًا وهو خلاص النفس " لأن كلمة الله حيَّة وفعَّالة" (عب 4: 12) فكلمة الله عندما تعمل في الإنسان تغير حياته للأفضل " لكي يكون إنسان الله كاملًا متأهبًا لكل عمل صالح" (2تي 3: 17).
هـ- أن يكون السفر قد قُبِل من المعاصرين له كقول بولس الرسول لأهل تسالونيكي: "لأنكم إن تسلّمتم منا كلمة خبر من الله قبلتموها لا ككلمة أناس بل كما هي بالحقيقة ككلمة الله" (1تس 2: 13).
ولم يكن سفر "ياشر" من الأسفار القانونية المُوحى بها من الله، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وأيضًا لم يكن من الأسفار أبو كريفا المنحولة التي حوت أخطاء شتى، إنما كان سفرًا تاريخيًا سجل بعض الأحداث بدقة وأمانة، وجاء اسمه " البار " أو " العادل " أو " المستقيم " لأن كاتبه قد تحرى الدقة والصدق، وحوى قصائد وأشعار وأناشيد تتغنى بالملاحم البطولية مثل وقوف الشمس والقمر في حرب يشوع مع الأموريين (يش 10: 13) أو الأمور المأسوية مثل مرثاة داود لشاول ويوناثان، وقد استشهد يشوع وصموئيل بهذا السفر التاريخي رغم أنه ليس من الأسفار المقدَّسة، ولا يُعدَّ هذا أمرًا غريبًا، فبولس الرسول يستشهد تارة بشطر من أقوال " أراتس " فيقول: "كما قال بعض شعرائكم أيضًا لأننا أيضًا ذريته" (أع 17: 28) وتارة يستشهد بعبارة من مسرحية " يابيس " للشاعر اليوناني " مناندور " في القرن الرابع قبل الميلاد، فيقول: "المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة" (1كو 15: 33) كما استشهد بالشاعر الكريتي " أبيمانيدس " فقال: "قال واحد منهم. وهو نبي لهم خاص. أن الكريتيين دائمًا كذابون وحوش ردية بطون بطالة" (تي 1: 12). وقد سبق الحديث من قبل عن سفر ياشر(3).
2- قال المؤرخ اليهودي "يوسيفوس" أن سفر ياشر يشمل على تواريخ الحوادث التي حصلت للأمة اليهودية من سنة إلى أخرى... فلم يكن السفر من الكتب المُوحى بها، بل هو تاريخ كتبه أحد المؤرخين... ولأنه دوَّن الحقيقة لذلك حافظ عليه اليهود حتى أنهم وضعوه في الهيكل(4).
3- يقول " نيافة المتنيح الأنبا غريغوريوس " أسقف البحث العلمي: "لقد رجعنا إلى المصادر التاريخية وإلى دوائر المعارف والموسوعات العلمية الكبيرة، فأجمعت كلها على أن سفر ياشر هو كتاب جامع لأناشيد ومدائح وقصائد شعرية، للإشادة بمواقف تاريخية وملاحم بطولية قومية، ودينية وشعبية، فسفر ياشر ليس من أسفار الكتاب المقدَّس، أي ليس من أسفار الوحي الإلهي، لكنه كتاب شعبي قوي، مثله مثل أي ديوان شعري لعدد من شعراء الحماسة الروحية والوطنية، وقد كان عند شعب بني إسرائيل كالألياذة والأوديسة لهوميروس عند اليونان، والأنياذة لفرجليوس عند الرومان... سفر ياشر إذًا هو ملحمة شعرية تاريخية قومية وطنية، يضم حشدًا من قصائد وأغاني وأناشيد منظومة، هو صورة للأدب الديني الشعبي والقومي والوطني.
ومما تجدر ملاحظته أن كلمة (سفر) كما جاءت في العبرانية (SAFR) هي بالمفهوم العام للكلمة العربية (كتاب).. وبلغة أخرى، ليس هو جزءًا من الكتاب المقدَّس، لكنه كتاب كسائر التواليف التي يؤلفها إنسان أو هيئة قومية تضم فيها تراثًا قوميًا من أعمال عدد من الشعراء، والأدباء تجمع قصائد وأناشيد ومدائح لأبطال قوميين ووطنيين، تمدحهم على بطولاتهم أو ترثي جسارة الوطن في وفاتهم. علمًا بأن كلمة (ياشر) لها دلالتها أيضًا في الموضوع، فالكلمة العبرانية Yasher تعني (المستقيم أو البار أو القويم أو المرضي عنه أو السليم) فسفر ياشر إذًا هو الكتاب الذي يضم قصائد وأناشيد في مدح الأفاضل الأبرار المستقيمين والمُرضيَّ عنهم من بني إسرائيل، ممن خدموا قضايا شعبهم وبلادهم، روحيًا ووطنيًا... والخلاصة أن سفر ياشر:
(1) ليس من أسفار الكتاب المقدَّس.
(2) أنه كتاب شعبي إنساني في الأدب والتاريخ يضم قصائد وأناشيد ومدائح ومراثي لعدد من الأدباء والشعراء، من كبار الأدباء والشعراء في بني إسرائيل على مدى حُقب زمانية...
(3) أن هذا الكتاب مفقود الآن، ولا وجود له حاليًا عند اليهود، أو غير اليهود، شأنه في ذلك شأن أي كتاب آخر عرضة للضياع خصوصًا بالنسبة للشعب اليهودي الذي تشتَّت في كل بلاد الأرض مرات على مدى التاريخ الطويل.
(4) أن هذا الكتاب، أو هذا الديوان، أو هذه الملحمة الشعرية، لا يخدم في شيء دعاة الإثارة الدينية المعادية.."(5).
4- قال " ليوتاكسل " بأن سفر ياشر ألغاه الكهنة وأبادوه تمامًا، ثم قال أن سفر ياشر يثبت بصورة قاطعة أن التوراة لم تكتب بيد موسى وصموئيل وداود وغيرهم، بل كتبها آخرون في عصور متأخرة ولم يكونوا معاصرين للأحداث، فإن كان الكهنة اليهود أبادوا السفر منذ زمن طويل فكيف عرف ليوتاكسل ما كُتب فيه؟! وهكذا يتناقض النُقَّاد ليس مع بعضهم البعض بل كثيرًا ما يتعارض الناقد مع نفسه. كما أن ليوتاكسل يقول أن سفر ياشر كان يمثل حرجًا كبيرًا... فهل هناك حرج أكثر مما أوردته الأسفار المقدَّسة عن خطايا الأنبياء، وتجاوزات شعب الله الصلب الرقبة، فلو أن كهنة اليهود أبادوا سفر ياشر، فلماذا لم يحذفوا ما يشين سيرة أنبيائهم وشعبهم.
_____
(1) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 335.
(2) راجع مدارس النقد جـ 1 س 1، جـ 2 س 85.
(3) فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد جـ 8 س 948.
(4) راجع كتاب الهداية جـ 3 ص 264، 265.
(5) مقالات في الكتاب المقدَّس جـ 2 ص 118 - 120.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1166.html
تقصير الرابط:
tak.la/x2ctzmy