يقول " ليوتاكسل": "أما كتاب الملوك الثاني (صموئيل الثاني) فيبدأ برواية قصة موت شاول، ولكنه يروي لنا قصة مختلفة تمامًا عن تلك التي رواها كتاب الملوك الأول (صموئيل الأول) والتناقض بين الروايتين صارخ، وهو يكشف مرة أخرى عن صفاقة " الحمامة المقدَّسة " وممثليها والوقاحة التي يسخرون بها من المؤمنين"(2).
ويقول "الخوري بولس الفغالي" تعليقًا على ما جاء في صموئيل الثاني " هذا الخبر الذي هو امتداد (1صم 30: 1) ينقل إلينا رواية لموت شاول، تفترق عن تلك التي نقرأها في (1صم 31: 1 - 3). إنه مؤلَّف من مصدرين مختلفين، في المصدر الأول يُعلن أحد الجنود عن موت شاول ويوناثان (2صم 1: 1 - 4) فينوح داود ورجاله ويبكون ويصومون (2صم 1: 11، 12). في المصدر الثاني يتبجح أحد العماليقيين بأنه قتل شاول، فيأتي إلى داود حاملًا الشارات الملكية (1صم 1: 5 - 10) منتظرًا مكافأة له على عمله، فيلقي جزاء قتله: قتلتَ مسيح الرب (1صم 1: 13 - 16).. نقرأ أن شاول طُرِح، فأخذ سيفه وسقط عليه، وكان العماليقي يُخبر متبجحًا أنه هو الذي قتله. أيكون الواقع أنه اكتفى بأخذ التاج والسوار، وهما إشارة المُلك (2 مل 11: 12) وحملها إلى داود"(3).
ج: 1- الذين كتبوا سفريّ صموئيل هم صموئيل النبي الذي كتب الأربعة والعشرين إصحاحًا الأولى من سفر صموئيل الأول، وأكمل بقية السفر النبيان جاد وناثان بالإضافة إلى سفر صموئيل الثاني، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. والكتَّاب الثلاثة جميعهم عاصروا الأحداث، وكتبوا من الواقع الذي عايشوه، وما كتبوه هو هو الذي وصل إلى أيدينا، وليس كما يظن البعض أن السفرين كتبا في وقت متأخر بعد السبي، وأن الكاتب أستمد معلوماته من مصادر سابقة.
2- لو تتبعنا الأحداث في سفر صموئيل الأول نجد الآتي:
أ - أصيب شاول في الحرب إصابات بالغة: "فأصابه الرماة رجال القسي فانجرح جدًا من الرماة" (1صم 31: 3).
ب- طلب شاول من حامل سلاحه أن يقتله، ولكن حامل سلاحه رفض: "فقال شاول لحامل سلاحه استلَّ سيفك وأطعني به لئلا يأتي هؤلاء الغلف ويطعنوني ويقبحوني. فلم يشأ حامل سلاحه لأنه خاف جدًا" (1صم 31: 4).
جـ- فلم يجد شاول حلًا غير أن يقتل نفسه: "فأخذ شاول السيف وسقط عليه" (1صم 31: 4) أي أن شاول مات منتحرًا.
د- عندما شاهد حامل سلاح شاول ما حدث انتحر هو أيضًا: "ولما رأى حامل سلاحه أنه مات شاول سقط هو أيضا ًعلى سيفه ومات معه" (1صم 31: 5).
أما في سفر صموئيل الثاني فيأتي الرجل العماليقي ويحكي قصة قتله لشاول ويمكن تتبع أحداثها كالآتي:
أ- بعد أن سبى العمالقة خيام داود في صقلغ وسبوا النساء واغتصبوا الممتلكات، فانطلق داود خلفهم مع رجاله، وأرجع كل ما سبوه بالإضافة إلى الغنائم التي اغتنموها من العمالقة، وكان داود متلهفًا على سماع أخبار الحرب الدائرة في جبل جلبوع بين شعبه وبين الفلسطينيين، ولاسيما أن المسافة بين صقلغ وجلبوع تصل إلى مائة ميل، وفي اليوم الثالث من المعركة جاء إلى داود شاب عماليقي ثيابه ممزَّقة والتراب على رأسه وسجد أمام داود، وأخبره أنه كان في ساحة الحرب بين بني إسرائيل والفلسطينيين (2صم 1: 1، 2).
ب- سأل داود الشاب العماليقي عن أحداث المعركة، فقال العماليقي أنه سقط كثير من بني إسرائيل ومات شاول ويوناثان ابنه وهرب الشعب (2صم 1: 3، 4).
جـ- سأل داود العماليقي: كيف عرفت بموت شاول ويوناثان، "فقال الغلام الذي أخبره أتفق إني كنت في جلبوع وإذا شاول يتوكأ على رمحه وإذا بالمركبات والفرسان يشدُّون وراءه. فالتفت إلى ورائه فرآني ودعاني فقلت هآنذا. فقال لي من أنت فقلت عماليقي أنا. فقال قف عليَّ واقتلني لأنه قد اعتراني الدوار لأن كل نفسي بعد فيَّ. فوقفت عليه وقتلته لأني علمت أنه لا يعيش بعد سقوطه" (2صم 1: 6 - 10).
د - وقدم العماليقي لداود الإكليل الذي كان على رأس شاول والسوار الذي كان على ذراع شاول (2صم 1: 10).
ومن خلال القصتين يمكن ملاحظة الآتي:
أ - تتفق القصتان في نشوب الحرب بين الفلسطينيين وبني إسرائيل، وسقوط القتلى، وهروب الشعب، وموت شاول ويوناثان ابنه وذلك بعد إصابة شاول إصابات بالغة...
ب - جاء في القصة الأولى أنه بعد أن أصيب شاول طلب من حامل سلاحه أن يقتله فخاف حامل سلاحه وأمتنع عن قتله، فسقط شاول على سيفه ومات، وعندما رأى حامل سلاحه أن شاول قد مات فسقط هو أيضًا على سيفه ومات، بينما جاء في القصة الثانية أنه بعد أن أصيب شاول رأى العماليقي فسأله عن شخصه وطلب منه أن يقتله، فقتله العماليقي بالسيف، ويمكن تعليل ذلك الخلاف بسهولة ويسر، فهناك احتمالان لا ثالث لهما:
الاحتمال الأول: أن رواية العماليقي صادقة، فبعد أن سقط شاول على سيفه لم يمت على الفور، أما حامل سلاحه فقد ظنه أنه مات فسقط هو أيضًا على سيفه ومات، وظل شاول يعاني سكرات الموت من الإصابات التي لحقته من سهام العدو بالإضافة للسيف الذي اخترق جسده، فأخذ يقاوم ويحاول النهوض متؤكّأ على رمحه، وسيفه مغروس في جسده، وعندما لمح العماليقي، طلب شاول منه أن يقتله لأن روحه مازالت فيه، وأطاع العماليقي واستل سيفه وقتله لأنه كان متأكدًا أن إصابات الملك خطيرة، فلن يعيش بعد، وبالتالي يكون تسلسل الأحداث كالآتي:
أ - إصابة شاول بقسى الفلسطينيين.
ب - سقوط شاول على سيفه بقصد الانتحار، ولكن هذا لم يتحقق على الفور، لأن إصاباته كانت بالغة ويده مرتعشة، كما أن قرار الانتحار يضع الإنسان في موقف نفسي عنيف، ولهذا لم يكن سقوط شاول على السيف وهو في حالة الإعياء هذه كافيًا لإنهاء حياته.
جـ- طلب شاول من العماليقي أن يقتله ففعل العماليقي هكذا.
وربما يؤيد صدق رواية العماليقي أنه لم يخبر داود أن العرش قد صار خاليًا، بل أخبره أن شاول ويوناثان فقط قد ماتا، ولم يخبر داود أن كل أولاد شاول جميعهم قد ماتوا، لأنه لم يعرف هذا، ومادام أحد من أولاد شاول حيًا فهو الوريث الشرعي للعرش، وأيضًا وجود الإكليل والسوار معه دليل على رؤيته لشاول، وعندما حكم عليه داود بالموت لأنه قتل شاول لم يتراجع في أقواله، ولم يقل أنه كذب في قوله بقتل شاول.
الاحتمال الثاني: أن رواية العماليقي كاذبة ومفبركة، لأنه ليس من المنطقي أو من المعقول أن يطلب الملك من رجل غريب عابر طريق لا يعرفه أن يقتله، والحقيقة أن شاول عندما أُصيب بسهام العدو، ثم سقط على سيفه مات على الفور منتحرًا، وحامل سلاحه فعل مثله، وأن هذا الرجل العماليقي أسرع إلى أرض المعركة قبل عودة الفلسطينيين ليسلب ما هو مُتاح، ورأى شاول ميتًا، وحتى إن كان لا يعرفه فقد عرفه من الإكليل الذي على رأسه والسوار الذي على ذراعه، ولأن العماليقي يعرف مدى عداوة شاول لداود ومطاردته له، لذلك أخترع من وحي خياله قصة قتله لشاول، وجاءت أقواله متعارضة مع العقل والمنطق إذ كيف يكون شاول مصابًا إصابات بالغة والمركبات والفرسان يشدُّون وراءه ولا يلحقون به..؟! وهل لو رأى هذا العماليقي الفرسان والمركبات هل كان سيتحاور مع شاول ويرد على تساؤلاته ويجيبه لطلبه أم أنه سيهرب سريعًا..؟! وهل لو هناك فرسان ومركبات ومطاردة تُرى هل هذه فرصة مناسبة ليحل السوار من على ذراع شاول ويحمل الإكليل ويتصرف براحته وكأن لا يوجد عدو ولا حرب؟!.
وهكذا اخترع العماليقي هذه القصة التي هي من بنت أفكاره بغية التقرب لداود الملك المنتظر فيصير من عظماء المملكة القادمة، ولكن إذ شهد على نفسه، حتى ولو كان كذبًا، أنه قتل شاول بيده، فعلى الفور حكم عليه داود بدون تردد بالقتل، وإذ أراد هذا العماليقي التقرب لداود على حساب دم شاول جنى على نفسه، وجاء في التقليد اليهودي أن هذا العماليقي هو ابن دواغ الأدومي رئيس رعاة شاول والذي قتل كهنة الرب في مدينة توب بأمر من الملك شاول (1صم 22: 18).
3- يقول " أ. م رنويك": "أن بعض المنتقدين سعيًا منهم وراء المتناقضات في سفري صموئيل بالغوا جدًا في مثل هذه النقاط، ويحتمل أن يكون شاول قد أُصيب من الرماة (1صم 31: 3) ثم أعقب ذلك المركبات والفرسان (2صم 1: 6) ومع أن جبل جلبوع كان صعب المرتقى إلاَّ أنه لم يكن من العسير على المركبات أن تصعد مثل هذه الأماكن، ويقول العماليقي أيضًا أنه قتل شاول بناء على طلبه إذ رأى " المركبات والفرسان يشدُّون وراءه" (6) وأنه " قد اعتراه الدوار " وفي (1صم 31: 4) نقرأ أن شاول انتحر، بيد أنه في كلتا الروايتين يريد أن يفلت من الوقوع حيًّا في يد أعدائه ليتجنب عار الهزيمة أو السخرية وهذا ما يُشدّد عليه في (1أي 10: 4).
لقد أثار " ايوالد " Ewald ومن نحا نحوه زوبعة حول المتناقضات المزعومة بين رواية العماليقي وما ورد في (1صم 31) وجعل منها زوبعة لوجود رواة عديدين متناقضين، فكأن جامع (المفروض كاتب) هذين السفرين لم يكن زكيًّا حتى يتدبر هذه المتناقضات فسجلها ولم يفطن لها، بأن النقطة الوحيدة في رواية العماليقي التي يرى بعضهم أنها تتعارض وما ورد في (1صم 31، 1أي 10) هي التي يقول فيها أنه قتل شاول، وغرضه من ذلك غني عن البيان، فأنه كان يرغب أن ينال حظوة لدى داود ليرفع اعتباره عنده، ودليل على ذلك قوله أنه أحضر الإكليل الذي على رأس شاول والسوار الذي على ذراعه (10) وواضح من مجرى الحديث أنه وجد جثة الملك بينما كانت رحى الحرب دائرة في مكان آخر فأخذ هذه الأشياء وذهب من فوره إلى داود منتظرًا أن ينال منه مغنمًا وكرامة. فلا داعٍ إذًا أن نحاول التوفيق بين رواية العماليقي مع (1صم 31) لأن الرجل اندفع في الكلام بلا تردد، وروى الحكاية على الصورة التي كان يظن أنها تصادف أشد قبول عند داود، وهذا لا يناقض (2صم 4: 9 - 11) حسب ما صرَّح بعضهم، حيث المعنى الواضح هو كما يقول " لانغ " Lang (على لسان داود لقتلة إيشبوشث) إن كنت قد قتلت في صقلغ من أدَّعى أنه قتل شاول خصمي في المعركة بناء على طلبه، فكم بالحري رجلان باغيان يقتلان رجلًا بارًا في بيته على سريره؟"(4).
4- يمثل "ليوتاكسل" لسان الشيطان الذي لا يطيق الله ولا قديسيه، فراح يصف روح الله بالصفاقة، وكتَّاب الأسفار المقدَّسة بالوقاحة... لماذا..؟ لأنه ظن أن هناك نقاط خلاف بين القصتين، ولم يفطن إلى أن القصتين، إما أنهما تكمل أحدهما الأخرى، أو أن العماليقي لفَّق قصته بهدف الوصول إلى قلب داود، ولم يلتفت ليوتاكسل إلى ضآلة الخلاف الذي لا يؤثر على حقيقة القصة ككل. لقد تصدى شاول وأولاده وجنوده للهجوم الفلسطيني وانتهى الأمر بالهزيمة وقُتل شاول وأولاده وسقط عدد ليس بقليل وهرب بقية الشعب، هذا هو لب القصة وجوهرها، أما كون شاول مات منتحرًا بسيفه، أو مات بسيفه وسيف العماليقي أيضًا، فهذه نقطة جانبية لا تستحق هذا التعليق الساخر من ليوتاكسل.
5- كانت حالة شاول أول حادث انتحار يسجلها الكتاب المقدَّس، وتبعها انتحار أخيتوفل (2صم 17: 23) ثم زمري ملك إسرائيل (1مل 16: 18) وفي العهد الجديد جاءت أشهر حالة انتحار، إذ انتحر يهوذا التلميذ الخائن (مت 27: 5). هؤلاء والذين يسلكون في ذات الدرب قد فقدوا رجاءهم تمامًا في محبة الله وغفرانه، ففقدوا نصيبهم في الملكوت لأنهم ارتكبوا جريمة قتل النفس ولم يتوبوا.
_____
(1) البهريز جـ1 س400.
(2) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 332.
(3) التاريخ الاشتراعي - تفسير أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك ص 317، 318.
(4) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ 2 ص 123، 124.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1165.html
تقصير الرابط:
tak.la/ycm3432