ثانيًا - قرار التوقف وبدء العلاج
ملاحظات يجب مراعاتها في
البداية
أمرين هامين في بداية العلاج
1- إعلان المدمن رغبته في العلاج صراحة
2- قرار التوقف
القصة الأولى
القصة الثانية
القصة الثالثة
القصة الرابعة
القصة الخامسة
هناك ملاحظات هامة يجب مراعاتها عند بدء مرحلة العلاج وهي:
1- عند اكتشاف حالة الإدمان تحتاج الأسرة للتماسك وضبط الأعصاب حتى لا تقابل الموضوع بغضب وهيجان وصراخ ثم استسلام... حقًا إن سقوط أحد أعضاء الأسرة في براثن الإدمان هو محنة حقيقية، ولذلك تحتاج الأسرة إلى صبر طويل، وإلى تكيُّف مع الظروف الجديدة.
2- قبل بدء العلاج يجب توجيه رسالة إلى وجدان المدمن من أقرب أحبائه، ومضمون هذه الرسالة " إنك لو استمريت في هذا الطريق فإنك حتمًا ستموت، ونحن نحبك ولا نرضى لك بهذا " وعندما تصل هذه الرسالة إلى المدمن عندئذ يمكن بدء الحوار معه لبدء رحلة العلاج.
3- تمكين الحب للمدمن، وإذابة جبال الجليد التي تفصله عن الأسرة، مع البعد كلية عن لغة الوعيد والتهديد، والاحتقار والازدراء، ويظل هذا الأمر سرًا بين الأسرة والطبيب المعالج.
4- يجب أن تكون هناك يد حازمة تمنع المال عن المدمن دون إصغاء إلى نداءات الشفقة، لأن معنى إعطاء المال أننا نقول له " نحن موافقون على إدمانك وموتك، وسوف نساعدك على قتل نفسك".
5- تبدأ رحلة العلاج بواسطة الطبيب المختص الذي يتعرَّف على حجم المشكلة وأسابها ويتأكد من الرغبة الصادقة للمدمن في العلاج.
1- إعلان المدمن رغبته في العلاج صراحة.
2- قرار التوقف.
ونذكر هنا قصتين لتوضيح هذه الحقيقة. أولهما حكاها لي أحد خدام هذه الحالات بالإسكندرية إذ ذهب إلى الزوج ليصلحه مع زوجته التي تركت بيت الزوجية بسبب إهمال الزوج لها وإهماله لعمله، وسهره خارج البيت، وعدم الصرف على احتياجات البيت، وتحدث الخادم طويلًا إلى هذا الزوج الذي أخذ يختلق أسباب وهمية للخلافات مع زوجته بحجة إنها تثور في وجهه، وتُقصّر في تلبية طلباته، ولاحظ الخادم أن هذا الزوج يعاني من احمرار العينين، ولعثمة الكلام، وعدم القدرة على مواصلة الحديث، فسأله: هل هناك مشاكل في العمل..؟ هل أنت متعب صحيا..؟ هل أعطاك أصدقاءك سيجارة ملفوفة أو بودرة تشمها علشان تنعنش وتنسى همومك وتعمل دماغ... الخ وأخذ الزوج يلف ويدور ويخادع ويراوغ، ولكن مع نهاية الجلسة اعترف أنه سقط في الإدمان منذ نحو سبع سنوات، وتطوَّر الإدمان معه في هذه الأيام إلى شم الهيروين، فعرض عليه الخادم أن يبدأ رحلة العلاج في مراكز متخصصة، وإن هذا الموضوع سيكون سرًا بينهما، وإن أراد أن يعلما الزوجة فإنها ستكون عامل فعَّال للوصول إلى الشفاء العاجل، وترك له فرصة للتفكير والاتصال به إن كان يريد العلاج. وبعد أربعة أيام سعى هذا الزوج المدمن نحو الخادم يطلب منه أن يبدأ رحلة العلاج، فذهب معه إلى إحدى المستشفيات المتخصصة في علاج الإدمان، وبعد أسبوعين اتصل الأخصائي الاجتماعي الذي يعمل في المستشفي بهذا الخادم يبلغه بهروب هذا الزوج من المستشفي، فذهب إليه الخادم على الفور وسأله عن سبب هروبه، فقال إنه هرب لأن الهيروين متوفر داخل المستشفي، وأحد المرضى عزم عليه بشمه مقابل خمسة جنيهات، فخاف أن يضعف فهرب لأنه يريد الشفاء، ورفض العودة للمستشفي.
وتفاهم الخادم مع الزوجة وأشقاء الزوج وهم ثلاثة رجال يسكنون نفس البيت، وأنفقوا أن يكمل هذا الزوج علاجه داخل البيت، ويتناوبون الحراسة عليه، فوافق، وربطوه في السرير بإرادته لمدة أسبوعين، ومنعوا عنه كل الزيارات والاتصالات، وكان الخادم يحضر له الأدوية التي يحددها له الطبيب المعالج حتى انقضت فترة الانسحاب بسلام، وبدأ فترة التأهيل حيث كان يتردَّد على الطبيب المعالج ثلاث مرات أسبوعيا، والخادم لم ينقطع عنه، حتى تعافي تمامًا ولم يعد للإدمان ثانية.
والقصة الثانية حكاها لي أحد أساتذة الجامعة والذي يعمل في مجال مكافحة وعلاج الإدمان عن شاب يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا له عدة أخوات، وقد ورث عن أبيه مع إخوته وأمه مصنعًا كبيرًا، وبواسطة أصدقاء سوء سقط هذا الشاب في بالوعة إدمان الهيروين وأحست الأم أن رأس مال المصنع يتبدَّد، والديون تتراكم، والأسرة مهددة بالضياع، وعرفت الأم بقصة إدمان الابن فسعت لإدخاله إلى مستشفي خاص لغسل دمه خلال أسبوع واحد كما يدعون ذلك، والحقيقة إن كل ما يفعلونه هو إعطاء المدمن المحاليل والجسم هو الذي يغسل نفسه، ويوم أن ينتهي المدمن من هذه العملية ويقولون له " حمدًا لله على السلامة " في نفس اليوم يسعى هذا الشخص نحو السموم ثانية.
تعبت الأم كثيرًا مع هذا الابن الذي دخل إلى المستشفيات الخاصة مرارًا وتكرارًا دون جدوى لأنه كان يدخل تحت ضغط الآخرين دون أن تكون لديه الرغبة الجادة في الخلاص من الإدمان، وبسبب كل هذه المتاعب تعرضت الأم لانهيار عصبي ودخلت إلى مستشفي الأمراض العصبية والنفسية، وهنا جاءت وقفة هذا الشاب أمام نفسه، ولا سيما أنه كان يحب أمه كثيرًا، وقال في نفسه " أنا خربت كل شيء... حياتي... المصنع... أوصلت أمي إلى مرحلة الجنون... لقد وصلت إلى القاع " وأسرع إلى نفس الطبيب الذي يعالج أمه وهو يصرخ من شدة الندم، ويعلن عن رغبته في التوقف عن الإدمان كلية، وزيادة في الإصرار دخل في دور التحدي ورفض دخول المستشفي لعلاج أعراض الانسحاب، وعلى حد قوله للطبيب " أنا حاخدها ( فترة علاج أعراض الانسحاب) على رجلي " وشجعه الطبيب على هذا بعد أن وضعه أمام نفسه... ترك هذا الشاب للطبيب مفتاح السيارة والرخصة، وحبس نفسه في بيته، ويعلق هذا الطبيب الناجح على إمكانية قضاء فترة الانسحاب في المنزل فيقول "حبس المدمن لنفسه في البيت ممكن تنجح في بعض الحالات، فهناك ابن لأستاذ كبير ساءت حالته بسبب الإدمان حتى أنه كان يخشى قتل والده في ساعة الزمَّه، فسافر إلى أسوان وحبس نفسه في شقة خاصة، مع تناول الأدوية اللازمة، وفي نفس الوقت هو على اتصال تليفوني مستمر معي، ولكن في الحالات الخاصة التي فيها تحدث تشنجات عصبية شديدة فإنها تحتاج إلى دخول المستشفي لعلاج فترة الانسحاب " وبعد أن أمضى هذا الشاب فترة الانسحاب في بيته، بدأ فترة التأهيل، فانتظم مع مجموعة مكوَّنة من ثمانية أشخاص تحت إشراف هذا الطبيب والطبيب المساعد... كانوا يجتمعون مرتين كل أسبوع، وكان ميعاد هذا الاجتماع بالنسبة لهذا الشاب ميعادًا مقدسًا يحرص عليه كل الحرص، حتى أنه كان يقول لهم " لقد صرت مدمنًا لهذا الاجتماع " ويقول الطبيب المعالج " لقد وضع هذا الشاب مفاهيم جديدة في موضوع الإدمان، لأنه كان يصف بدقة متناهية مشاعره خلال رحلة التأهيل، فيقول أنني في البداية أشعر بأنني أسير في الوحل لمسافة كيلو متر، ولا أحفظ توازني، فإنني أقاوم بشدة التزحلق في الوحل، وأحتاج إلى من يسندني حتى أجوز هذه المسافة، وبعد هذا أشعر أنني أقطع مسافة عشرة كيلومترات في صحراء كاحلة جرداء بمفردي، ويلازمني إحساس مخيف، فإن لم يكن هناك من يساعدني فبلا شك سأعود إلى ما كنت عليه من الإدمان... إنها رحلة طويلة وشاقة جدًا والإنسان المحظوظ هو الذي يقطعها".
أمضى هذا الأخ سنتين في رحلة التأهيل عبر جلسات فردية، وجلسات جماعية، وجلسات أسرية في وقت واحد حتى تعافي من مرض الموت، وعاد إلى الحياة وعادت إليه أمه التي طالما زرفت دموعًا ساخنة لله من أجله.
يتخذ المدمن قرار التوقف عقب تعرضه لموقف صعب يؤثر فيه إلى الدرجة التي يفضل فيها الموت عن الحياة مدمنًا، ومن أمثلة القصص التي يظهر فيها قرار التوقف نذكر منها خمسة قصص:
القصة الأولى: حكاها لي أحد الأطباء العاملين في مجال مكافحة وعلاج الإدمان عن رجل يبلغ من العمر خمسون عامًا تاجر أخشاب كبير، وتعلم الكيف عن طريق جيرانه في العمل، فبعضهم يتعاطى الهيروين وبعضهم يتاجر فيه، فالتذكرة تباع بسعر أربعين جنيهًا، فبدأ يتعاطى تذكرة يوميًا، ثم أخذ يزيد من الجرعة حتى يحصل على النشوة الأولى فوصل في تعاطيه إلى ثمانية تذاكر يوميًا بمبلغ ثلثمائة وعشرون جنيها، ومعنى هذا أنه يحتاج إلى تسعة آلاف وستمائة جنيهًا شهريًا من أجل الهيروين، فكان يلجأ إلى دخول المستشفي ليس بغرض التوقف ولكن بغرض تخليص الجسم من هذه السموم، حتى إذا خرج يبدأ من جديد بتذكرة واحدة كل يومين أو كل يوم، وتظل تزداد مع الوقت حتى يئن من المصاريف فيدخل المستشفي ثانية وهلم جرا... ووصل به الحال إلى بيع أثاث المنزل، وشرع في بيع محل الأخشاب الضخم الذي يملكه، ولكن الزوجة علمت بذلك فتصدت له واستجارت بإخوته، ولكيما يجد احتياجاته من الهيروين تحول من متعاطي إلى تاجر هيروين.
وفي ذات يوم وبعد أن استلم من المعلم الكبير (تاجر الجملة) مع زملائه تجار التجزئة كل واحد كيسه الذي يخفي فيه تذاكر الهيروين. استأذن منهم لحظة ليشترى سندوتش كبدة، وفي هذه اللحظة هجم رجال البوليس على هذه المجموعة التي توزع بذار الموت، ودفعوهم إلى سيارات الشرطة بإهانات وضرب وسباب، وهذا الرجل يقف بعيدًا ولا يصدق نفسه، وقال لو ركضت سيركضون خلفي ويقبضون على، فأدار ظهره لهم وأخذ يأكل السندوتش ودموعه تغالبه، لأنه متأكد أنه سيكمل هذا السندوتش في قسم الشرطة... انتهت الحملة ونجا من يد البوليس وفي هذه اللحظة إتخذ قرار التوقف عن الإتجار بالهيروين بل عن التعاطي أيضا، وذهب إلى ضابط الشرطة واعترف بأنه يتعاطى الهيروين ويريد العلاج، فأحاله الضابط إلى إحدى المستشفيات المتخصصة في علاج الإدمان فمكث فيها ثلاثة أشهر، وعندما عاد إلى بيته شعر بالحنين الشديد إلى الكيف فذهب للمستشفي مرة ثانية وأمضى ثلاثة أشهر أخرى. ثم توجه إلى جمعية كاريتاس لاستكمال التأهيل والمتابعة، ومع الجلسات الفردية ومع إصراره على التوقف عن الإدمان تعافي ونال الشفاء منذ سنوات طويلة، ولكنه يحتاج أن يكون في يقظة العمر كله.
القصة الثانية: حكاها لي أحد الأطباء العاملين في مجال مكافحة وعلاج الإدمان عن شاب بدأ طريق الإدمان وهو في الجيش، وعندما انتهى من تأدية الخدمة العسكرية سافر إلى بلد عربي، وعاد ليأخذ شقة ويتزوج، وبسبب تماديه في الإدمان باع الشقة التي يملكها وصرف قيمتها على المزاج، وسكن مع أبيه وزوجة أبيه، وعندما احتدمت المشاكل بسبب عصبيته وعنفه طرده أبوه، وتركته زوجته إلى أهلها، وتم الطلاق بينهما، وتشتت شمل الأسرة، وصار هذا الشاب وحيدًا... عمل في محل جيلاتي وأعطاه صاحب المحل كشك خشبي بدون سقف، فكان يذهب للعمل صباحًا ويعود إلى الكشك مساءًا، ولم ينقطع عن الإدمان.
وفي إحدى ليالي الشتاء أمطرت السماء بغزارة، ولم يجد له مأوى يحميه من مطر السماء، فخرج من الكشك، وأخذ يجوب الشوارع يطلب الحماية تحت مظلة أو شجرة، وصار يرتعش من شدة البرودة، وكان الوقت بعد منتصف الليل، فتأثر جدًا وأخذ يتساءل: أين أنا الآن؟ وماذا فعلت بي المخدرات..؟ لقد ألقتني في الشارع وحيدًا أعاني من البرد والمطر والتشرد... أين أخي المدرس وأخي النقاش وأبى؟ كل منهم مستقر في شقته وسط أولاده يعيش في سعادة وسلام، وأنا بلا أسرة حتى ابني يتربى بعيدًا عني... وفي هذه اللحظات الحاسمة من حياته قرر التوقف عن الإدمان، واتصل بزوجته التي طلَّقها ولم ترتبط بآخر، ففرحت الزوجة جدًا بهذا القرار وتقابلت معه وأخذت تشجعه، وسألت عن المراكز المتخصصة لعلاج الإدمان، وذهبت معه إلى إحدى هذه المراكز، وبدأ طريق العلاج، وعلى حد تعبير الطبيب إن هذا الشاب تحمل العبء الأكبر في العلاج وذلك بتصميمه على التوقف عن التعاطي، ووقفت زوجته بجواره تشد من أزره حتى أمضى مرحلة الانسحاب، ورحلة التأهيل لمدة ستة أشهر، ودخل في رحلة المتابعة، وعندما علم أبوه وأخوته بتوقفه عن الإدمان تعاطفوا معه، وأعطاه والده شقة عبارة عن حجرة واحدة على السطح، فجهزها ببعض الأثاث البسيط ورد هذا الشاب زوجته وابنه إليه بعد انفصال دام ثلاث سنوات، وبدأ يعمل بجد ونشاط يكتنز بعض المال ليشترى شقة أوسع.
القصة الثالثة: حكاها لي أحد الأطباء العاملين في مكافحة وعلاج الإدمان عن تاجر مجوهرات يمتلك محلًا في أعظم منطقة تجارية، وهذا الجواهرجي كان متزوجًا وله بنت ذات خمسة عشر ربيعًا من عمرها وابن يصغرها بسنتين... اجتمع حوله بعض أصدقاء السوء من كبار التجار وعلموه قعدات المزاج وشم الهيروين، فعانى من مواقف صعبة كثيرة بسبب الإدمان، ومع هذا فإنه لم يقدر أن يتخلى عنه، فمثلا تسبب الإدمان في خلافه مع الزوجة، وفي إحدى المرات ضبط البوليس معه تذكرتين هيروين فدخل السجن لمدة عام، وعندما خرج من السجن عاد إلى الإدمان، وتراكمت عليه الديون فأغلق المحل، وانزوى على نفسه. ثم استغله أصدقاء السوء في تجارة المخدرات، وفي أول مرة خرج فيها ليتاجر في الهيروين هاجمت الشرطة المكان فأفلت منهم لأنه لم يكن معروفا لدى رجال الشرطة كتاجر مخدرات، وكل هذا لم يدفعه للتوقف عن الإدمان. إنما تعالج في مستشفي خاص مرة بعد إدمانه بخمس سنوات وأخرى بعد إدمانه بثمان سنوات، ولكن لأنه لم يكن صادقًا مع نفسه فلم يتماثل للشفاء.
أما الموقف الذي دفعه لاتخاذ قرار التوقف فهو تعاطيه لجرعة زائدة، فأصيب بهبوط حاد في الدورة الدموية، وسقط على الأرض وتعرض للموت، فنقلوه على الفور للمستشفي وتم إنقاذه، وعندما رأى الموت بعينه اتخذ قرار التوقف، وظلت لحظة اختبار الموت عالقة بذهنه، وبدأ علاجه بعد إدمانه بنحو خمسة عشر عاما... كان جادًا ومصرًا على نوال الشفاء، وفعلًا أمضى علاج فترة الانسحاب في منزله تحت رقابة مشددة من أخوته. ثم أمضى رحلة التأهيل، وعاد يفتح محل الذهب، وعاد إلى نجاحه الأول ونجا من الموت إلى الحياة، ومن التعاسة إلى السعادة.
القصة الرابعة : يحكيها الأستاذ وجيه أبو ذكري في كتابه شباب في دائرة الموت(1) عن موظف في شركة الطيران من أسرة طيبة له شقيقان أحدهما ضابط شرطة والآخر طبيب، وتزوج هذا الموظف ورزقه الله ابنا وبنتًا، وفي إحدى رحلاته الجوية قضى ليلته في فندق بمدينة أستنبول (إسطنبول)، فجاءت إليه فتاة تركية وقدمت له مسحوقا وأخبرته أنه عندما يستنشقه يطير كالفراشة، ففعل هكذا مرة بعد الأخرى، وهو لا يدري أنه الهيروين، وعندما نفذ ما معه يقول "ثم جاء يوم واحد لم أتعاطى فيه... أحسست بألم شديد في كل مفاصلي، وشعرت بضيق أشد من الألم... ورغبة في الانتحار " فسافر في رحلة أخرى إلى إسطنبول ونزل في نفس الفندق فلم تأتِ إليه الفتاة التركية، ولكنه استطاع الحصول على الهيروين بسهولة.
وعندما لاحظ قائد الطائرة بأن علامات الإدمان بدأت تظهر على هذا الموظف، وسأله عن سر متاعبه تعلل بأنه مريض ولم يحصل على كفايته من النوم، وحصل على أجازة فأمضى اليوم الأول في النوم، واستيقظ فوجد ابنته بجواره فاستيقظ ضميره، وخشى النهاية المأساوية، فألقى بما معه من هيروين عبر النافذة إلى الشارع، وقرَّر التوقف عن التعاطي، وشعر بسعادة بالغة، وظن أنه تخلص من حمل ثقيل، ولكن بعد لحظات انتابته الآلام فنزل إلى الشارع واشترى الهيروين، واستمر في رحلة الموت حتى بدأ يستنفذ أمواله، وأهمل بيته وأولاده، وكان قد وضع وديعة في البنك لابنته فحولها إلى حساب جاري واستنفذها، وباع سيارته، وبدأ يسرق بعض محتويات بيته ويبيعها بثمن بخس، وتعرض للفصل من عمله، وعندما واجهته زوجته وأشقاءه أنكر، فأخذت الزوجة ابنها وابنتها ورحلت، وعندما استنفذ الزوج كل ما يمكن بيعه بالمنزل فكر في الاتجار بالمخدرات أو التسول، واختار التسول، وعندما بدأ مشوار التسول تعرض لموقف صعب قاده إلى اتخاذ قرار التوقف فيقول "وفي اليوم الأول من بداية التسول، وأمام واحد من محلات بيع المرطبات، اتجهت إلى سيارة بداخلها رجل وامرأة، ومددت يدي، وكنت فعلًا في شكل يرثى له... ونظر إلى الرجل طويلًا... ثم طلب مني الانصراف... تذكرت الرجل والفتاة... إنه زميل لي في شركة الطيران، وهذه زوجته، وتصورت أنه تعرف على شخصيتي، وعدت إلى البيت المهجور، وجلست وحدي، وبكيت لأول مرة منذ أن عرفت الهيروين، وقررت التوقف".. ولكن كيف؟ إنه نزل وطلب من بواب العمارة عشرة جنيهات وركب سيارة متجهة إلى الوادي الجديد حيث ساقه القدر إلى مهندس زراعي يزرع عشرين فدانا، ويحتاج إلى من يعاونه، وعرض المدمن العمل معه على إنه مزارع، غير أنه أمضى الأسبوعين الأولين (مرحلة انسحاب الأعراض) يعانى من آلام لا تطاق وكوابيس في النوم، وأصيب بالحمى، وكان المهندس كريمًا معه فأحضر له طبيبًا يعالجه ويهتم به، وعلم من الطبيب أنه مدمن هارب من الإدمان، وعن الآلام التي قاساها يقول "في اليوم الأول... ما أن أغلقت الباب حتى فُتِحت أبواب السجن بكل الآلام الحبيسة خجلًا. وانطلقت في كل جسدي تعربد فيه... وأنا حبيس صرخاتي... وأمزق جسدي بأظافري... ولا تمهلني الآلام لحظات أدعو فيها الله أن ينقذني... مرت لحظات قليلة بين الجولة الأولى لانقضاض الآلام على جسدي الضعيف... كنت أشعر أن جسدي ساحة معركة شرسة لا تهدأ أبدا... (وعن الكوابيس التي كان يعانى منها يقول) رحلة مخيفة في باطن الأرض. شاهدت خلالها وحوشًا غريبة. كبيرة الحجم. لها عيون واسعة كبيرة، ورؤوس كثيرة تحملها رقبة واحدة. شاهدت حيوانات صغيرة مفزعة ومفترسة. كل هذا الجيش من تلك الوحوش يطاردني خلال رحلة نومي... لا أدرى كم قضيت مع تلك الكوابيس التي تتلاحق واحدًا بعد الآخر " والذي ساعده على الصمود تذكره لابنته وابنه وزوجته وأشقائه وعمله السابق... وبعد أن مرت أعراض الانسحاب نزل للأرض وأخذ يعمل لمدة عام وحصل على عشرة أفدنة أرض وبدأ يستصلحها ويزرعها وعاد إلى أسرته واصطحبها معه إلى الأرض الجديدة والحياة الجديدة.
القصة الخامسة: يحكيها الأستاذ وجيه أبو ذكرى في كتابه شباب في دائرة الموت(2) عن فتاة كان والدها مدرسًا فقيرًا فسافر إلى الكويت وتاجر في العملة وعاد إلى مصر وكوَّن شركة توظيف أموال بعائد شهري كبير، فتدفقت عليه الملايين فحولها إلى بنوك سويسرا، وتزوج بامرأة جميلة مطلقة لم ينجح في الزواج منها من قبل بسبب فقره. أما والدتها فقد طلبت الطلاق من أبيها بعد زواجه، وتزوجت من شاب وسافرت معه أمريكا ومعها عدة ملايين من ثروة زوجها. أما الابنة الضحية فقد عاشت في مصر بالدقي مع الخدم وحيدة بعد أن تركتها أمها إلى أمريكا، وأبيها مشغول عنها بملايينه وزوجته الجديدة، وعندما حصلت على مجموع منخفض في الثانوية العامة لم يمكنها من الالتحاق بكلية الطب سافرت إلى أمها في أمريكا، وهناك التحقت بكلية الطب كما كانت تأمل في هذا، وتعرَّفت على شاب مصري والده يعمل أستاذًا في نفس الجامعة التي تدرس فيها، فأحبته بشدة وفتحت له قلبها، فقادها إلى الهيروين دون أن تعرف إذ قال لها: "الليلة سنقوم بمغامرة جديدة ننسى همومنا ونعيش في عالم جديد " واستنشق البراون واستنشقت معه، فشعرت أنها تطير من الفرح فخرجت من السيارة إلى الحديقة ترقص وتغني وهى الفتاة المصرية الخجولة وتكرَّرت التجربة، وعندما علمت أثناء إحدى المحاضرات أن البراون هو الهيروين ومدى خطورته غضبت جدًا من زوج المستقبل وتمنت لو تقتله، وبعد انتهاء المحاضرة عوضًا عن أن تنفصل عن هذا الشاب ركبت معه السيارة وذهبت منقادة إلى الهيروين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وبدأ الفشل يدخل إلى حياتها واكتشف زوج أمها حقيقة إدمانها، ففضلت العودة إلى مصر مضحية بدراستها في كلية الطب، وعادت إلى أبيها تحتج بأن زوج أمها يعاملها بقسوة، فشجعها والدها على موقفها الكريم هذا وهو لا يعلم الحقيقة المرة... ظلت في القاهرة والخدم يحضرون إليها الهيروين، وفي أحد الأيام طرق الباب شاب هيوستن المصري، فاستقبلته إذ مازال قلبها متعلقًا به، وتم زفافها من هذا الشاب الذي لا يحمل أكثر من الثانوية الأمريكية، وأقام لها والدها الزفاف على مستوى ألف ليلة وليلة، وقبل الزفاف تناول كل منهما الهيروين ليتماسكا أمام مجتمع المليونيرات، وعمل العريس لدى والدها براتب شهري خمسة آلاف جنيهًا في الشهر، ومنحه سيارة بها تليفون.
وفي إحدى المرات ضبطت الشرطة هذا الزوج وهو يحقن نفسه بالهيروين بالسيارة، وفي حوزته كمية أخرى يحملها إلى زوجته، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، وكان في أحشاء هذه الزوجة جنينًا، فطلب منها والدها أن تتخلص منه، وعند خروج زوجها سيتولى هو مهمة الخلاص منه، فهذا أمر سهل وميسور، فرفضت هذه الابنة، وحافظت على ما في بطنها حتى وضعت طفلًا هزيلًا مريضًا، وأحضرت له أعظم أطباء مصر لإنقاذ حياته، وطلب أحد الأطباء منها أن ترضعه من ثدييها لأن لبن الأم فيه الحماية، وعندما أباحت له أنها مدمنة هيروين تأثر الطبيب وبكى، ووضعها أمام خيارين إما أن تتوقف عن تعاطي الهيروين ويعيش الطفل، أو أن تستمر في إدمانها ويموت الطفل، وعليها أن تبدأ رحلة العلاج من أجل ابنها، وتقول هذه الزوجة " كم من مرة حاولت من قبل وفشلت... وكم من مرة دخلت مستشفيات أمريكا وخرجت وقد شفيت، ولكن عندما أرى زميلي الذي أصبح زوجي أعود فورا... ولكن الآن حياة ابني في يدي... نظرت إليه وهو يرقد بجواري شبه جثة وبكيت... هذه أول مرة أبكي فيها منذ سنوات... هل أقتل ابني من أجل جرعة هيروين؟ وهل يمكن لي الحياة بعد أن أقتله، وأنا أعرف جيدًا إن تعاطي حقنة من هذا السائل القاتل سوف يقتل ابني... أعلم أنه سيقتلني يوما ما، وأعلم أنه سيرسلني في أحسن الفروض إلى مستشفي المجانين، وأعلم أنه قد دفعني إلى الانتحار! ولكن... أن يقتل ابني وأنا أعلم ذلك..!! أن يقتل ابني، وأكون الوعاء الذي يشرب منه السم!!.. أن يقتل ابني، وأنا الذي أقدم له الموت..!! لا... وألف لا.
وجاء الخادم كعادته بالهيروين، وألقيت به من النافذة، وطلبت منهم أن يخبروا والدي... وأن يرفضوا إعطائي هذا السم، حتى لو أمسكت بمسدس وطلبته منهم... توسلت إلى كل الخدم لمساعدتي في التوقف... فلم تعد المسألة حياة أو موتًا بالنسبة لي... إنما هي حياة أو موت بالنسبة لابني.
قاومت بشدة... كان الله معي في هذه المحنة... كنت أضم ابني وهو يرضع من ثديي بقوة من الحب والألم، وأبكي وبعد أسبوع واحد فقط... أحسست ولأول مرة بالجوع الذي لم أكن أحس به.
ولأول مرة أتناول طعامًا أعرف مذاقته... ولأول مرة يبتسم رضيعي لي... ولأول مرة... يصدر طفلي صوتًا أحلى من تغريد البلابل... ولأول مرة أدخل مرة أخرى حياة الأصحاء... لقد دفعني الخوف على ابني إلى الإقلاع عن السم الأبيض، ولقد ساعدني الله من أجل طفلي على تحمل الآلام لخروج السم من جسدي، وعاش ابني، وبلغ من العمر الآن أكثر من عام وكرست حياتي له بعد أن شفاني الله من موت محقَّق على يدي هذا الطفل الصغير".
_____
(1) ص 41-45
(2) ص 119 - 133
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/addiction/stop.html
تقصير الرابط:
tak.la/ratn36n