St-Takla.org  >   books  >   fr-tadros-malaty  >   who-can-harm-you
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب مَنْ يقدر أن يؤذيك؟ (لا يستطيع أحد أن يؤذي إنسانًا ما لم يؤذِ هذا الإنسان ذاته)، للقديس يوحنا الذهبي الفم - القمص تادرس يعقوب ملطي

5- أنت بلا عذر!

 

محتويات: (إظهار/إخفاء)

أولًا: لا تحتج بعدم دعوتك!
يهوذا بلا عذر!
أمثلة
ثانيًا: لا تحتج بضعف إمكانياتك
هل انتفع اليهود قساة القلب بعطايا الله؟!
استعداد شعب نينوى للتوبة؟
موقف الثلاثة فتية

أولًا: لا تحتج بعدم دعوتك!

بعدما عالج القديس يوحنا الذهبي الفم عدم إمكان إصابتنا بضررٍ، لا من إنسان ولا من شيطانٍ ولا بإغراء للخطية ولا بالتهديد بالحرمان من أمور هذه الحياة، طالما كان القلب ملتصقًا بالله وساهرًا ومتيقظًا، يجاهد متمسكًا بالنعمة الإلهية والإمكانيات الإلهية المُعطَاة لنا، خشي القديس يوحنا الذهبي الفم أن يعتذر أحد قائلًا: إنني لست مدعوًا لملكوت السماوات لأنني أسقط في الخطية.

والحقيقة أن الله "يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4)، أما سقوطنا فليس لأن الله قد رفضنا، ولا لأنه سمح لنا بالتجارب، إنما لأن أساس قلبنا مبني على الرمل لا على الصخر... مبني على محبة العالم الواهية، لا على محبة ربنا يسوع الحقيقية.

دُعِيَ يهوذا ومات المسيح لأجله كما لأجل كل العالم، لكنه رفض بالرغم من كل الإمكانيات التي أُعطيتْ له أكثر من جميعنا. والشعب غليظ القلب رفض الله وعبد العجل الذهبي رغم المعجزات والبركات المعطاة له، بينما تاب سريعًا شعب نينوى الأممي[5].

 

يهوذا بلا عذر!

أخبرني ماذا كان حال الطوباوي بولس؟! لأنه لا يوجد ما يمنعني من الإشارة إليه مرة أخرى. ألم يعانِ من عواصف التجارب بلا حصر؟! في أي شيء أضرّته هذه التجارب؟! ألم يتوج بالنصرة بالأكثر إذ احتمل الجوع وعانى من البرد والعري، وتعذب بجلدات ورُجم وغرق في البحر؟!

لكن قد يقول قائل: إنه القديس بولس الرسول، المدعو من المسيح! وأيضًا يهوذا كان أحد الاثني عشر، ودعاه المسيح أيضًا، ولكن لم يكن مجرد حسبانه ضمن الاثنى عشر، ولا دعوته أفادته، لأن فكره لم يكن ثابتًا في الفضيلة.

فالقديس بولس الرسول بالرغم من مصارعته ضد الجوع وحرمانه من قوته الضروري مع تحمُّله لأتعاب كثيرة كهذه يوميًا، سلك في الطريق المؤدي إلى السماء بغيرةٍ عظيمة، بينما يهوذا رغم دعوته من الرب قَبْل القديس بولس الرسول وتمتُّعه بنفس المميزات، وتعلَّم أسمى شكل للحياة المسيحية، وكان له نصيب في المائدة المقدسة[6]، التي هي أعظم الموائد المرهبة، وأعطيت له مثل هذه الموهبة أن يقيم الميت ويُطَهِّر البرص ويُخرج الشياطين، كما سمع الكثير عن موضوع الفقر، وقضى وقتًا طويلاً في معية السيد المسيح نفسه، بل وكان موضع ثقة ليكون معه صندوق الفقراء، حتى تتلطف شهوته، إذ كان لصًا، ومع هذا كله لم يتحسن، رغم ما وُهب له من لطفٍ عظيمٍ كهذا. فإذ عرف المسيح أنه طماع وأنه سيهلك بسبب محبته للمال، لم يعاقبه للحال، بل وأعطاه. صندوق الفقراء ليلطف من شهوته، حتى تكون له بعض الوسائل لإبطال طمعه، لعله يخلص من السقوط في تلك الهوة المريعة للخطية، ويوقف الشر العظيم...

على أي الأحوال، لا يمكن لأحد أن يؤذي إنسانًا لم يختر لنفسه أن يؤذي نفسه. ولكن إن كان الإنسان غير راغب في ضَبْطِ نفسه ولا يُعين نفسه من الداخل... لا يقدر أحد أن يعينه.

St-Takla.org Image: Coloring picture of Saint John Chrysostom - Courtesy of "Encyclopedia of the Saints' Colouring Images" صورة في موقع الأنبا تكلا: صورة تلوين للقديس البابا يوحنا ذهبى الفم (يوحنا فم الذهب) ، بطريرك القسطنطينية - موضوعة بإذن: موسوعة صور القديسين للتلوين

St-Takla.org Image: Coloring picture of Saint John Chrysostom - Courtesy of "Encyclopedia of the Saints' Colouring Images"

صورة في موقع الأنبا تكلا: صورة تلوين للقديس البابا يوحنا ذهبى الفم (يوحنا فم الذهب) ، بطريرك القسطنطينية - موضوعة بإذن: موسوعة صور القديسين للتلوين

تلك القصة العجيبة الواردة في الكتاب المقدس، التي كما لو كانت في صورة شاهقة ضخمة متسعة، ترسم حياة رجال العهد القديم، ابتداء من رواية آدم حتى مجيء المسيح، هذه القصة تعرض لكم الذين هلكوا، والتي توجوا بالنصرة في المعركة. وهي تُعَلِّمكم أنه لا يوجد أحد يقدر أن يؤذي آخر، لو لم يضر هذا الآخر نفسه، حتى ولو شنَّ العالم كله حربًا قاسية ضده. فلا ضغط الظروف ولا اختلاف الأزمنة ولا شتائم البشر الذين لهم سطوة، ولا المكائد... ولا تجمهر الكوارث وتجمُّع الأمراض الكثيرة التي يخضع لها البشر، هذه كلها لا تقدر أن تقلق الإنسان الشجاع ضابط نفسه المتيقظ، ولو إلى درجة خفيفة. وعلى العكس الإنسان المتراخي المستلقي علي ظهره، الذي هو خائن لنفسه، لا يقدر أن يصير في حالة أحسن مما هو عليها، ولو قُدِّمَتْ له خدمات لا حصر لها.

 

أمثلة

هذا على الأقل وضُح لنا من مثل الرجليْن، اللذيْن أحدهما أقام بيتًا على الصخر، والآخر على الرمل (مت 7: 24.. الخ). ليس لنا أن نفكر في الرمل والصخر، أو في البناء أو الأمطار أو العواصف... بل أن نتنبه إلى الفضيلة والرذيلة كمعانٍ لهذه الأمور، مُدركين أنه لا يضر أحد إنسانًا لا يضر نفسه.

فلا المطر رغم سقوطه بغزارة، ولا العواصف التي تصد المباني رغم عنفها، ولا الرياح الشديدة التي تهاجم بعنف... استطاعت أن تهز البيت في أي درجة، بل بقي ثابتًا غير متزعزع. وهكذا نفهم أنه لا تقدر تجربةٌ ما أن تزعزع الإنسان الذي لا يخون نفسه.

أما منزل ذلك الرجل الذي سقط سريعًا، فإن سقوطه لم يكن بسبب قوة التجارب (لأن البيت الثاني عانى بنفس القدر)، لكن السبب هو غباوة صاحبه... لأنه بناه على الرمل، أي بالتراخي والشر. إنه قَبْل السقوط كان ضعيفًا ومستعدًا للسقوط. لأن المباني التي على الرمل ولو لم يضغط عليها شيء فإنها ستتدمر من نفسها وتتبدد في كل اتجاه...

فكما أن أنسجة العنكبوت تتمزق دون أية مقاومة (ملموسة) بينما لا ينكسر الماس حتى ولو طُرِقَ، هكذا أيضًا الذين لا يضرون أنفسهم يصيرون إلى حياة أقوى متى أصابتهم ضربات لا عدد لها. أما الذين يخونون أنفسهم، فإنهم يسقطون وينهارون ويهلكون ولو لم يثرهم أحد. هكذا هلك يهوذا مع أنه لم يتعرَّض لتجربة من هذا النوع (كالقديس بولس الرسول)، بل بالعكس أُعطيتْ له إمكانيات عظيمة.

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ثانيًا: لا تحتج بضعف إمكانياتك

سِرّ سقوط الكثيرين عدم معرفتهم للإمكانيات القوية الممنوحة لهم من قِبَل الرب لكي يتوبوا ويعيشوا في حياة القداسة. فلا يصيبنا ضرر لا من الشهوات الجسدية أو العالم بمغرياته وتهديداته أو الشيطان بمكره. بقدر ما يعمل العدو باستمرار أن يجعلنا ننسى حقيقة أنفسنا، خاصة نحن أبناء العهد الجديد الذين قد أُعطيَ لنا الروح القدس ساكنًا فينا، وربنا يسوع مصلوبًا حبًا فينا، والكنيسة مثل أم تُقَدِّم لأولادها عمل الله في الأسرار...

إن عمل الشيطان في تجربته ضد ربنا يسوع كانت في محاولته تشكيكه في بنوته للآب. "إن كنت ابن الله..."، وهذه هي المحاولة المستمرة التي يصنعها معنا، وكثيرًا ما ينجح فيها... لذلك فإن صلوات الرسول من أجل شعبه هي لكي تكون مستنيرة عيون أذهانهم ليعلموا "ما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب شدة قوته" (أف 1: 19).

فالسقوط هو من تراخينا وكسلنا وتهاوننا في استخدام الأسلحة الروحية القوية التي بين أيدينا بل في داخلنا، وليس في ضعف إمكانياتنا. إن شعب نينوى الأممي الذي لم يتذوق شيئًا مما سمعناه ورأيناه وتذوقناه سيكون مُوَبِّخًا لنا في يوم الدينونة[7].

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

هل انتفع اليهود قساة القلب بعطايا الله؟!

(قَارَنَ القديس يوحنا الذهبي الفم بين الشعب اليهودي العنيد رغم ما قُدِّمَ له من إمكانيات، وبين أهل نينوى سريعي التوبة رغم أنه لم تعطَ لهم عطايا كالأولين).

العطايا الإلهية لم تُلَيِّن عناد قلوبهم.

أتريد أن أوضح لك هذا بأمثلة من جميع الأمم؟! أية عطايا قُدِّمتْ لليهود (عند خروجهم من مصر)؟ ألم تقم المخلوقات المنظورة كلها بخدمتهم، وأُعطيتْ لهم وسائل جديدة وفريدة للحياة؟ فإنهم (في البرية) لم يكونوا يذهبون إلى سوق، إنما يأخذون ما يُشترَى بمال مجانًا، ولم يفلحوا أرضًا، ولا استخدموا محراثًا ولا مهَّدوا الأرض للزراعة، ولا ألقوا بذورًا، ولم يحتاجوا إلى أمطارٍ ورياحٍ أو فصول للسنة للزراعة، أو أشعة شمس أو شكل معين للقمر أو طقس معين، ولا شيء من هذا القبيل. إنهم لم يعدّوا الأرض لدرس الحنطة، ولا درسوا حنطة، ولا استخدموا مذراة لفصل الحنطة عن القش، ولا طاحونًا ولا فرنًا ولا أحضروا خشبًا أو نارًا في بيت. ولم يحتاجوا إلى أدوات للعجن... ولا أي نوع آخر من الأدوات الخاصة بالنسج والبناء وصنع الأحذية، بل كانت كلمة الله هي كل شيء بالنسبة لهم.

لقد كانت لهم مائدة لم تعدها يد بشرية، أُعدتْ بدون جهادٍ أو تعبٍ. لأنه هكذا كانت طبيعة المن، إنه جديد، وطازج، ولا يحملهم أية مشقة أو جهاد.

أما ثيابهم وأحذيتهم وأبدانهم فقد فقدت ضعفها الطبيعي. فثيابهم وأحذيتهم لم تبلَ بعامل الزمن وأرجلهم لم تتورم رغم كثرة السير. ولم يذكر قط أن بينهم كان أطباء أو دواء أو أي شيء من هذا القبيل. وهكذا قد انتُزع كل ضعف من بينهم. فقد قيل: "فأخرجهم بفضة وذهب ولم يكن في أسباطهم عاثر (هزيل)" (مز 105: 37)... أشعة الشمس في حرارتها لم تضربهم، لأن السحابة كانت تظللهم وتحيط بهم كمأوى متحرك يحمي أجساد الشعب كله. ولم يحتاجوا إلى مشعل يبدد ظلام الليل، بل كان لهم عمود النار كمصدر إضاءة لا يُنطق به، يقوم بعمليْن: الإضاءة بالإضافة إلى توجيههم في طريق رحلتهم... قائدًا هؤلاء الضيوف الذين بلا عدد في وسط البرية بدقة أفضل من أي مرشد بشري. ولم يرحلوا فقط على البرّ بل وفي البحر كما لو كان أرضًا يابسة... فقد قاموا بتجربة جريئة تخالف قوانين الطبيعة. إذ وطأوا البحر الثائر، سائرين فيه كما على صخر يابس صلب. فإذ وضعوا أقدامهم فيه صارت مادته كالأرض اليابسة... وإذ وصل إليه الأعداء عاد إلى ما كانت عليه طبيعته، فصارت للأولين مركبة وللأعداء قبرًا... فقام البحر الذي لا يفهم بدور مُحكَمٍ كأعقل وأذكى إنسان، قام مرة بدور حارس، ومرة أخرى بدور منتقم، مُعلِنًا هذا العمل المتناقض في يوم واحد.

وماذا أقول عن الصخرة التي أخرجت ينابيع ماء؟ وسحاب الطيور الذي غطى الأرض بكثرته؟ وماذا عن العجائب التي حدثت في مصر؟...

إن هذه العجائب جميعها لم تكن لمجرد إشباع احتياجاتهم، إنما لكي يحفظ الشعب التعاليم المُسلَّمة لموسى عن معرفة الله بدقة زائدة...

ومع ذلك فإنه بعد عناية ملموسة عظيمة هكذا، وبركات لا يُنطَق بها، ومعجزات قوية، واهتمام زائد، وتعليم مستمر، وتحذيرات تارة بالكلام وأخرى بالأعمال، ونصرات مجيدة ونجاح غير طبيعي وشبع زائد لاحتياجاتهم من الطعام وفيض مياه غزيرة، ونظرهم مجد غير منطوق به في أعين الطبيعة البشرية (موسى). مع ذلك فقد تذمروا وبلا أي إحساس عبدوا العجل وكرموا رأس الثور، رغم تذكرهم بركات الله... بل وكانوا لا يزالون يتمتعون بها.

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

استعداد شعب نينوى للتوبة؟

وأما أهل نينوى فبالرغم من كونهم شعب بربري وغريب، ليست له أي شركة في البركات، صغيرة كانت أمْ كبيرة، لا بكلمات ولا بمعجزات ولا بأعمال، هؤلاء عندما رأوا إنسانًا منقذًا من الغرق، لم يلتقِ بهم من قَبْل ولا سبق لهم أن عرفوه، يدخل مدينتهم قائلًا: "بعد (أربعين) يومًا تنقلب نينوى" (يونان 3: 4 رجعوا وتابوا... ونزعوا شرورهم القديمة وتقدَّموا في حياة الفضيلة بالتوبة، حتى جعلوا العبارة (الخاصة بالغضب الإلهي) ينتهي مفعولها... "فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه" (يونان 3: 10).

كيف تغير هؤلاء رغم شرهم العظيم وقسوتهم غير المنطوق بها وقروح أخلاقهم المستعصية العلاج، إذ مكتوب: "قد صعد شرهم أمامي" (يونان 1: 2) مشيرًا إلى العلو المكاني كتعبيرٍ عن مقدار عظمة شرهم، إذ قد تكدَّس إلى علو هذا قدره، حتى بلغ إلى السماء...؟!

انظر إذن كيف يمكن للإنسان الساهر الضابط لنفسه المتيقظ ليس فقط لا تمتد إليه أيادٍ بأذى بل ويستطيع أن يرفع الغضب السماوي!...

فشعب نينوى رغم أنه لم يكن لهم أي نصيب من المعجزات التي للشعب اليهودي (القاسي القلب)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لكن بقدر ما كان لديهم من استعداد داخلي حسن، فإنه إذ أُعطيتْ لهم فرصة بسيطة استفادوا منها ليصيروا إلى حالة أحسن، رغم جهلهم بالوحي الإلهي وابتعادهم عن فلسطين!

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

موقف الثلاثة فتية

مرة أخرى أسألُ: هل فسدت فضيلة "الثلاثة فتية" بسبب المتاعب التي حلَّت بهم؟ فرغم صغرهم، بل صغرهم جدًا من جهة السن... ألم يخضعوا للأسر المؤلم الخطير؟ ألم يُقصوا بعيدًا جدًا عن بلدهم؟... ألم يُحرَموا من بلدهم وبيوتهم وهيكلهم ومذبحهم وذبائحهم وتقدماتهم حتى من أدوات الترتيل بالمزامير؟!... كنتيجة حتمية قد حرموا من كل أشكال العبادة. ألم يُسلَّموا في أيادٍ همجية هم ذئاب أكثر منهم بشر؟ وحاقت بهم كوارث أعظم من الكل... محتملين الأسر الخطير بلا مُعَلِّم ولا نبي لا مرشد... علاوة على هذا حُمِلُوا إلى القصر الملكي وصاروا كمن هم بين الشقوق والصخور، مبحرين في بحر مملوء بالشعاب والصخور، مجبَرين على الإبحار في بحر من الغضب بلا مرشد أو عامل للإشارات أو طاقم أو بحارة، محبوسين في القصر الملكي كمن في سجن؟! ولكن بقدر ما عرفوا الحكمة الإلهية وسموا بالأمور الإلهية، واحتقروا كل كبرياء بشري، وصارت لهم أجنحة لأرواحهم يُحَلِّقون بها عاليًا، معتبرين أن غربتهم هناك كأنها تشديد لمتاعبهم.

لو كانوا خارج البلاط يقطنون في مسكن خاص، لكانوا أكثر استقلالًا، لكنهم بهذا أُلقوا كما في سجنٍ... خاضعين لأي أمر أو تدبير قاسٍ مباشرة. فإذ طلب الملك منهم أن يشاركوه في مائدته وترفه وأطايبه الدنسة، الأطعمة المُحَرَّمة عليهم، كان هذا بالنسبة لهم أرعب من الموت. كانوا كحملان وسط ذئاب كثيرة، مُجبَرين إما أن يُعدَموا أو أن يأكلوا الطعام المُحَرَّم...

إنهم لم يبالوا بالسلطان القاسي المطلق، مع إنه كان لديهم ما يبررون به طاعتهم له، لكنهم قدَّموا نصيحة ورأيا مناسبًا حتى يتجنبوا الخطية رغم تجريدهم من كل شيءٍ. إذ لم يكن ممكنًا أن يغروا (رئيس الخصيان) بمالٍ، فكم بالأكثر وهم أسرى لا يملكون مالًا؟! ولا بصداقات أو صلات اجتماعية أن تتشفع لهم أمامه، فكم وهم غرباء؟ وما كان يمكن أن يتحسن موقفهم حتى وإن كان لهم سلطان، فكم وهم عبيد؟ وما كانوا يسيطرون عليه بكثرة العدد، فكم يكون موقفهم وهم ليسوا إلا ثلاثة؟!

ومع ذلك اقتربوا إلى الخصي المُوَكل إليه بهذا العمل، وأقنعوه بحججهم، إذ رأوه خائفًا ومرتعبًا... إذ يقول: "إني أخاف سيديّ الملك الذي عيَّنَ طعامكم وشرابكم. فلماذا يرى وجوهكم أهزل من الفتيان الذين من جيلكم، فتدينون رأسي" (دا 1: 10). أنقذوه من هذا الرعب، وأقنعوه أن يعطيهم مُهْلَة... إذ عملوا بكل قوتهم، ساهم الله أيضًا بقوته... وإذ أعلنوا نُبْلَهم وشجاعتهم ربحوا لأنفسهم العون الإلهي، وهكذا تحققت أهدافهم.

هل تدرك أن أي إنسان لا يضر نفسه لا يقدر أحد أن يضره؟ أنظر على الأقل إلى حداثة سن هؤلاء وأَسْرَهم الخ. فإن هذا كله لم يضرهم، بل على العكس صار لهم بسببه سمعةً أفضل مما كانت لهم قبل حرمانهم.

وهكذا بعدما نفذوا عملهم خضعوا لأعداء آخرين، ومرة أخرى كانوا هم نفس الرجال، وقد خضعوا لتجربة أقسى من الأولى، إذ أُشعل لهم أتون، وتصدَّى لهم جيش من المتبربرين يصحب الملك، وكل طاقة الفُرّس قد وجهت لتمكر بهم وتضايقهم... ومع ذلك بقدر ما هم لم يخونوا أنفسهم، بل قدموا كل ما في طاقتهم، لم تصبهم أية خسارة، بل ربحوا لأنفسهم أكاليل نصرة مجيدة لم ينالوها من قبل. ربطهم نبوخذنصر، وألقى بهم في الأتون، لكنه لم يحرقهم، بل بالعكس أفادهم وردهم ممجدين. وبالرغم من حرمانهم من الهيكل والمذبح. مع إلقائهم في الأتون وقد التف حولهم كثيرون جبابرة والملك نفسه الذي سمح بهذا يتطلع إليهم؛ فإنهم شيدوا نصبًا تذكاريًا مجيدًا، ونالوا نصرة ملموسة، مرتلين بتسبحة عجيبة وغريبة، التي من ذلك اليوم إلى الآن ينشد بها في العالم، وستبقى إلى مدى الأجيال...

فإن كان السبي والعبودية... لم يقدرا أن يفسدا الفضيلة الداخلية للثلاثة فتية المأسورين، المستعبدين، الغرباء... بل صارت مقاومة الأعداء بالنسبة لهم بالحري فرصة لنوال ثقة (إيمان) أعظم، فأي شيء يمكن أن يضر الإنسان الضابط لنفسه؟ لا شيء يضره، ولو قام العالم كله في جيوشٍ ضده. لكن قد يقول قائل: إنه في حالة هؤلاء الفتية كان الله واقفًا معهم، وحماهم من النيران. بالتأكيد هذا حدث، فإن قمتَ أنت بواجبك قدر قوتك، فإن العون الإلهي حتمًا سيرافقك.

ومع ذلك فإن السبب الذي لأجله أتعجب من هؤلاء الفتية، وأدعوهم طوباويين وأشتهي أن نقتدي بهم، ليس لأنهم تغلبوا على اللهيب، وأطفأوا حرارته، بل لأنهم رُبطوا وطُرحوا في الأتون... لأجل الإيمان المستقيم، فإن هذا هو الذي شيَّد كمال نصرتهم. وُضع على رؤوسهم إكليل النصر في اللحظة التي اُلقوا في الآتون، قبل أن تتم تلك الأحداث... بل وبدأت تضفر لهم هذه الأكاليل منذ اللحظة التي نطقوا فيها بتلك الكلمات المملوءة شجاعة وحرية في الحديث مع الملك، إذ كانوا في حضرته. "لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر. هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة، وأن ينقذنا من يدك أيها الملك، وإلا فليكن معلومًا لك أيها الملك، إننا لا نعبد آلهتك، ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته" (دا 3: 16- 18). بعدما نطقوا بهذه الكلمات أعلن نصرتهم. إذ أمسكوا بإكليل المكافأة وأسرعوا إلى إكليل الاستشهاد المجيد ملحقين شهادتهم بكلامهم بشهادتهم بأعمالهم...

ماذا إذن تقول عن هذه الأمور؟ هل أنت نفيت وأقصيت بعيدًا عن بلدك؟ انظر فإن هؤلاء أيضًا حدث لهم هذا.

هل أنت أُخِذتَ أسيرًا (في حرب) وصرت عبدًا لسادة متبربرين؟... أو هل ربطت وأحرقت وقدمت للموت؟ لأنك لا تستطيع أن تذكر لي أمورًا مؤلمة أكثر من هذه؟ ومع ذلك فإن هؤلاء الرجال اجتازوا هذا كله، وصاروا أكثر مجدًا بسبب كل ألم من هذه الآلام، نعم وأعظم شهرة وازدادت مخازن كنوزهم في السماء[8]...

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(5) هذا التقديم من وضع المعرب.

(6) يرى بعض آباء الكنيسة أن يهوذا خرج قبل التناول من الإفخارستيا، هذا الرأي تميل إليه الكنيسة، وترفض رأي الذهبي الفم.

(7) هذا التقديم من وضع المعرب.

(8) لم أترجم بعض الفقرات لعدم التكرار.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/who-can-harm-you/no-excuse.html

تقصير الرابط:
tak.la/fw5ystm