يظن البعض أن "التقليد" يعني "المحافظة" أو "الجمود" كما لو أنه يقف في وجه كل تطور في الحياة الكنسية. لكن التقليد في مفهومنا الأرثوذكسي هو حياة الكنيسة عبر التاريخ, يقودها الروح القدس ويجددها. والكنيسة لن تشبع حتى ترى كمال البشرية كلها.
يقول Bulgakouv: "التقليد ليس كتابا يسجل لحظة معينة في نمو الكنيسة يقف عندها, بل هو كتاب يكتب باستمرار بواسطة حياة الكنيسة. التقليد مستمر على الدوام, وهو اليوم ليس بأقل منه في الفترة السابقة, فإننا نعيش في التقليد ونوجده. ومع هذا فان التقليد المقدس الخاص بالماضي هو حاضر بالنسبة لنا, يعيش في حياتنا وفي شعورنا...
التقليد الكنسي لا يضع صوت الماضي كبديل لصوت الحاضر، فالماضي في التقليد لا يقتل الحاضر بل يعطيه كماله[78].
يلزم أن يكون التقليد "خلاقًا" وفي نفس الوقت "محافظًا" فإنه لا يوجد تناقض بين العنصرين بل هما جوهريان، لا ينفصلان عن بعضهما البعض. فالتقليد لا يمكن أن يكون متطورًا، ولا يمكن أن يكون متطورًا ما لم يستند على كتفي الماضي[79].
"التحفظ" و"التطور" هما سمتان لعمل واحد نسميه "التقليد".
جدير بالملاحظة أن تطور حياة الكنيسة لا يتحقق بعمل فردى بل هو عمل الكنيسة كشاهدة للروح القدس الحي فيها، ودون انحراف عن الفكر الرسولي الآبائي.
يواجه اللاهوتيون اليوم في دراستهم للحركة المسكونية من أجل البلوغ إلى وحدة الكنيسة الجامعة في العالم كله السؤال التالي:
إن عدنا إلى العصر الرسولي نلمس "تقاليد كنسية محلية كثيرة"، تحمل ثقافات متنوعة، هذه التقاليد يربطها فكر واحد هو فكر المسيح، وروح واحد هو روح الرب، وغاية واحدة هي خلاصنا. لهذا لم يتردد أساقفة الإسكندرية في الاشتراك مع أساقفة روما أو أنطاكية أو أورشليم في خدمة واحدة، على مذبح واحد، حتى وإن اختلفوا في تفصيلات طقوسهم وتقاليدهم، إذ أستلم الجميع شكلًا واحدًا للعبادة، بروح واحد بتقليد واحد.
هكذا عاش الرسل جميعًا بهذا الروح الكرازي المنفتح:
"فإني إذ كنت حرًا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين..." (1كو19:9). فعندما كرز مار مرقس في مصر قدم لهم المسيح الواحد، فعبده المصريون بثقافة مصرية لكن بروح رسولي حق. وقد حملت هذه العبادة ذات الهيكل الذي للأسقفيات الأخرى.
فكمثال جاءت الألحان القبطية تختلف عن السريانية واللاتينية... لكن الجميع "الروح الهادئ الوديع" روح التسبحة الجديدة السماوية، التي تشمل مفاهيم عقيدية وروحية صادقة وعميقة.
لنعط مثلًا أخر وهو "الأنوار في بيت الرب" فقد استخدمت الكنائس الرسولية جميعها الإضاءة أثناء العبادة في النهار كما بالليل، خاصة عند قراءة الإنجيل... هذا هو روح التقليد الذي يعلن أن "المسيح هو نور العالم". لكن برز الفن المصري في صنع السرج "القناديل" الخاصة بالكنيسة القبطية، بينما ظهر الفن السرياني واللاتيني واليوناني...في السرج الخاص بهم.
وهكذا بالرغم مما أتسم به المسيحيون في العالم من وحدة الإيمان وحفاظهم على التقليد كحقيقة حية، لكن عبرت كل كنيسة محلية عن هذا الإيمان الواحد.. بلغتها الخاص وطقسها الليتورجي وتسابيحها وملابسها الكهنوتية المقدسة...دون أن يفقد الإيمان وحدته. فلم تخف محلية الكنائس شخصية الكنيسة الجامعة.
بمعنى آخر: اختلاف التقاليد في التفصيل دون الجوهر لا يقف حائلًا دون تحقيق وحدة الكنيسة الجامعة، متى بنيت على وحدة الإيمان والحياة.
1- الكنيسة الأرثوذكسية -خاصة كنيسة الإسكندرية- قد حافظت أكثر من غيرها على التقليد المقدس في تفاصيله كما في روحه. ولعل سر هذا ما تتمتع به كنيستنا من عدم التدخل في السياسة، وعدم توليها أي سلطان زمني. لقد عاشت الكنيسة بروحانياتها بعيدة عن روح العالم. وقد حفظت ظهور الحركة الرهبانية تقليد الكنيسة بروح خشوعي إنجيلي نسكي...
2- قدمت وحدة الكنيسة الأرثوذكسية غير الخلقدونية في هذا العصر لعلماء اللاهوت المتخصصين في دراسة "الحركات المسكونية" درسًا عمليًا غاية في الدقة عن مفهوم الوحدة، فإن هذه الكنائس مع اختلافها في تفاصيل بعض التقاليد فإنها تنعم جميعها بالإيمان الواحد والتقليد الواحد. وقد ---- العالم كله أكثر من مرة في السنوات الأخيرة اشتراك بطارقة وأساقفة وكهنة وشمامسة وعلمانيين من هذه الكنائس في خدمة واحدة، ويشتركون معًا في تقدمة واحدة عن الجميع.
بقى لهذه الكنائس أن تقوم بدور فعال مع أخواتها الكنائس الأرثوذكسية الخلقدونية للاتفاق معًا في صيغة واحدة للإيمان الواحد من جهة طبيعة السيد المسيح، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. مادامت وجهات النظر -في جوهرها- قد تقاربت...لكي تتفرغ الكنيسة الأرثوذكسية للعمل بكل طاقتها للكرازة على صعيد العالم كله.
3- يليق بنا -ككنيسة أرثوذكسية- أن نفكر بصورة جادة عما نقدمه للعالم في كرازتنا عندما يقبل الرجل الفرنسي مثلًا الإيمان الأرثوذكسي. فمن صميم رسالتنا أن نقدم له عبادته بفكر أرثوذكسي إلهي آبائي، بالروح الواحد، لكن في ثقافة تتناسب معه.
في هذا تحدث نيافة الأنبا غريغوريوس مطران نيو دلهي بالهند مع قادة الكنيسة الأرثوذكسية بملبورن في يونيو 1976 قائلًا بأنه يجب أن يلقى الأرثوذكس ببذار الأرثوذكسية، في التربة الأسترالية حتى تنتج شجرة أرثوذكسية أسترالية.
4- إذ انفتحت كنيسة الإسكندرية على العالم الخارجي، وخرج الألوف إلى أرض المهجر، يليق بالكنيسة الأم أن تدرس رسالتها، إذ يلزمها أن ترشدهم وتعينهم في تقديم الفكر الأرثوذكسي للغير دون الانحراف عن روح التقليد أو الطقس.
يليق بها ألا تنغلق على جماعة محلية أو ترتبط بلغة دون سواها...بل تحمل مسئولية مسكونية.
حقًا إنها مهمة غاية في الدقة أن تقدم التقليد الحي للمسكونة بانفتاح قلب، وفي نفس الوقت بغير انحراف ولا تهاون! هذا من أهم أعمال اللاهوتيين المعاصرين.
_____
[78] Epist. Ad Serapion 1:28.
[79] O’ Brien, p 24.
[80] Bulgakov: The Orthodox Church. P 38, 36.
81- cf. J.P. Mackey: tradition & Change in the Church, p24.
82- Meyendorff: Orthodoxy & Catholicity.
83- He visited Melbourne on 1977.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/tradition/life.html
تقصير الرابط:
tak.la/9aa7tww