أظهر القديس إيريناؤس -في النصف الأخير من القرن الثاني- أهمية التقليد الشفوي، وذلك كما يظهر من عباراته التي أستخدمها وهو يذكر صديقه فلورانس بأيامهما الأولى مع القديس بوليكربس في سميرنا [23]، إذ قال:
"إني أتذكر أحداث تلك الأيام بوضوح أكثر من تلك الأحداث القريبة، لأن الأمور التي نتعلمها في الطفولة تنمو مع النفس وتصير واحدًا معها. فإني أستطيع أن أصف حتى المكان الذي جلس فيه بوليكربس ونطق فيه مقاله، وأصف مجيئه وخروجه، وطريقة حياته وملامحه الشخصية، والمقالات التي وعظ بها الشعب، وكيفية مفاوضاته مع يوحنا "الإنجيلي" وغيره ممن عاينوا الرب، وتلاوته الكلام الذي سمعه من أفواههم عن الرب وأعماله العظيمة وتعاليمه، كيف أن بوليكربس تقبل "Paralambano" هذه الأمور عن شهود عيان لكلمة الحياة، ووضع تقريرًا عن كل شيء في تطابق مع الكتاب المقدس. لقد أصغيت لهذا الأمور بشغف بواسطة مراحم الله التي وهبت لي، وكتبت عنها ملاحظات، لا على ورق بردى بل في داخل قلبي. وبنعمة الله أتأمل فيها بحق على الدوام[24]".
في القرن الثاني أساء الغنوسيون فهمهم للكتاب المقدس لخدمة أغراضهم الخاصة، مستخدمين بعض عباراته منعزلة عن الفهم الكلى للكتاب وتقليد الكنيسة. هذا بجانب ادعائهم استلام تقليد خفي من الرسل[25]، يدعون أنهم يفهمونه أفضل من الأساقفة أو حتى الرسل[26]!! وقد قام آباء للكنيسة أولون يواجهون الغنوسيين ويفندون آراءهم، من بينهم القديس ايرنياؤس، والذي لقب "أب التقليد الكنسي".
1- بقى التقليد المنحدر إلينا من الرسل محفوظًا خلال تتابع الشيوخ "الكلمة اليونانية Presbyters تعنى كهنة ويقصد بها الأساقفة" في الكنيسة بغير انقطاع[27].
2- يحفظ التقليد في الكنيسة بواسطة الروح القدس الذي يجدد شباب الكنيسة[28].
3- التقليد الرسولي ليس بالأمر السري، بل يستطيع أن يتعرف عليه كل الراغبين في قبول الحق. إنه معلن في كل كنيسة من العالم كله[29].
4- أساء الهراطقة تفسير الكتاب المقدس إذ تمسكوا بعبارات عزلوها عن الكتاب وأعادوا ترتيبها بما يناسب أفكارهم الخاصة[30]، متجاهلين وحدة الكتاب المقدس. لقد استخدموا نصوص الكتاب لكنهم لم يقرأوها خلال الكنيسة ولا بحسب تقليد الرسل.لهذا فإن الفهم الحقيقي للكتاب يوجد داخل الكنيسة حيث يحفظ التقليد المقدس وتعاليم الرسل. "غرست الكنيسة كفردوس في هذا العالم، كما يقول الروح القدس: من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا (تك16:2) أي تأكل من جميع كتب الرب المقدسة، لكن لا تأكل بذهن متكبر ولا تلمس أي فكر هرطوقي مضاد. لقد أعترف هؤلاء "الهراطقة" أن لديهم معرفة الخير والشر، وارتفعوا بأذهانهم الشريرة فوق الله صانعهم[31]".
* كما سبق أن أوضحت، الكنيسة وقد تقبلت هذه الكرازة وهذا الإيمان، بالرغم من انتشارها في العالم كله إلا أنها كمن تقطن في بيت واحد، تحافظ على هذه الأمور بكل عناية...
ومع تباين لغات العالم، لكن معنى التقليد واحد في كل موضع. فالكنائس التي قامت في ألمانيا لا تؤمن ولا تسلم أمرًا مغايرًا، ولا الكنائس التي في أسبانيا أو بلاد الغال أو التي في الشرق أو في مصر أو في ليبيا أو تلك التي قامت في مركز العالم[32].
* إذ نشير "للهراطقة" عن التقليد المنحدر إلينا من الرسل والمحفوظ خلال تتابع الشيوخ "Presbyters أي رجال الكهنوت" في الكنائس نقول أنهم يقاومون التقليد مدعين أنهم أكثر حكمة من الأساقفة "الشيوخ" بل ومن الرسل أنفسهم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وأنهم قد وجدوا الحق الأصيل، "ويؤكدون" أن الرسل قد خلطوا الأمور الخاصة بالشريعة بأقوال المخلص... من هذا يظهر أنهم لم يتفقوا لا مع الكتاب المقدس ولا مع التقليد.
أن مثل هؤلاء المقاومين، يا صديقي العزيز، ينبغي أن نقاومهم لأنهم مثل الحيات الملساء يحاولن أن يفلتوا دائمًا من كل جانب. يليق بنا إذن أن نحاصرهم من كل ناحية لعلنا إذ نقطع عليهم كل راحة نستطيع أن نجتذبهم إلى الحق مرة أخرى.
* أنه في قدرة الجميع، في كل كنيسة، أن يرى الراغبون في رؤية الحق وأن يتأملوا بوضوح تقليد الرسل معلنًا في العالم كله...
لو كان الرسل قد عرفوا أسرارًا خفية وكان عليهم أن يعلموها للكاملين في الخفاء بعيدًا عن الآخرين، لسلموها بوجه خاص للذين استأمنوهم على الكنائس ذاتها. فأنهم كانوا يرغبون في خلفاءهم الذين يحتلون مركزهم في رعاية البشر، أن يكونوا هم أيضًا كاملين وبلا لوم في كل شيء، لأن سيرتهم الحسنه يكون لها نفع عظيم "للكنيسة"، أما الفشل في ذلك الأمر فيسبب خسارة عظمى.
* بهذا الترتيب وخلال التتابع "منذ الرسل"، وصل إلينا التقليد الكنسي من الرسل وأيضًا الكرازة بالحق. وهذا هو برهان قوى أنه يوجد إيمان واحد محيى، حفظ في الكنيسة منذ الرسل إلى يومنا هذا، وسلم بالحق.
* إذ لدينا مثل هذه البراهين، لا نطلب الحق من الآخرين "الخارجين عن الكنيسة" إذ يسهل الحصول عليه من الكنيسة. لأنه في الكنيسة أستودع الرسل وديعتهم كما يصنع الرجل الغنى "مودعًا أمواله" في مصرف، إذ سلموها كل ما يتعلق بالحق. بهذا فأنه يستطيع كل إنسان يريد أن يشرب مياه الحياة (رؤ17:22). أنها مدخل الحياة! وكل الآخرين هم سراق ولصوص. لهذا يلزمنا أن نجتنبهم، وأن نسعى بكل غيرة واجتهاد في التمسك بما يخص الكنيسة، متمسكين بتقليد الحق. فانه ماذا يكون الموقف لو ثار نزاع فيما يخص أمرًا هامًا يقوم بيننا؟ أما نلجأ إلى أكثر الكنائس قدمًا، التي أودع فيها الرسل حديثهم الدائم، ونتعلم منها ما هو أكيد وواضح في ذلك الأمر؟! فإنه ماذا لو أن الرسل لم يتركوا لنا كتبًا مكتوبة؟ أما كان يلزمنا أن نتبع "قانون التقليد" الذي سلموه إلى الذي استأمنوهم على رعاية الكنائس؟!
إلى أي شيء يلتجئ كثير من البرابرة "الذين لم يترجم الكتاب المقدس إلى لغتهم حتى ذلك الحين" الذين يؤمنون بالسيد المسيح، وقد كتب الخلاص في قلوبهم بالروح وليس على ورق وبحبر، حافظين التقليد القديم بكل حرص.
* ما دام التقليد المنحدر إلينا من الرسل موجودًا في الكنيسة وهو دائمًا بيننا، فلنرجع إلى البرهان الكتابي الذي أقامه الرسل، الذين كتبوا الإنجيل، وسجلوا فيه التعليم الخاص بالله، مشيرين إلى ربنا يسوع المسيح على أنه الحق (يو6:14) وليس فيه كذب.
* لقد وهبت عطية الله هذه "أي الأيمان بالمسيح الذي تقبلناه خلال التقليد" للكنيسة، وكأنها النسمة التي أعطيت للإنسان الأول، لكي يتمتع الأعضاء جميعهم بالحياة بقبولهم هذه العطية وينالوا "وسائط الشركة مع المسيح" التي هي: الروح القدس، الغيرة لنوال عدم الفساد، وسائط الثبوت في الإيمان، السلم المرتفع نحو الله. فقد قيل إن الله أقام في الكنيسة رسلًا وأنبياء ومعلمين (1كو28:12). وقدم كل الوسائط الأخرى التي من خلالها يعمل الروح. أما الذين ليست لهم شركة في الكنيسة ولا هم منتمين إليها فيحرمون أنفسهم من الحياة بآرائهم المضادة وسلوكهم المشين. لأنه حيث توجد الكنيسة، وكل نوع من النعمة، أما الروح فهو الحق[33].
_____
[23] F.F. Bruce, p111.
[24] Eusebius: H.E. 5:20:4 –7.
[25] Irenaeus: Adv. Haer 3:3:1
[26] G.L. Prestige: Father and Heretics, London 1958, p16.
[27] Irenaeus: Against heresies 3:2:2, 3:3:1, 3:4:1.
[28] Ibid 3:24:1.
[29] Ibid 3:3:1.
[30] Ibid 1:8:1.
[31] Ibid 5:20:2.
[32] Probably referring to the in Palestine(ante Nicene frs, vol1, p 331).
[33] Irenarus: Against Heresles 1:10:2;3:2,2:3, 3L:3:1; 3:3:3; 3:4:1, 2; 3:5:1;3:24:1. Ante-Nnicene F.thers, vol 1. j. Stevenson: A new Eusebius, London, 1974,p 115 – 117.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/tradition/irenaeus.html
تقصير الرابط:
tak.la/p9629gz