عالج العهد القديم في شيء من التفصيل موضوع القروض المقدمة للإخوة، ليس للاتجار فيها، وإنما بسبب ما حلّ بهم من احتياج أو فقر، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فكان قانون هذه القروض الحب والترفق والتنازل حتى عن القرض نفسه إن أمكن.
"في آخر سبع سنين تعمل إبراء؛ وهذا هو حكم الإبراء: يبرئ كل صاحب دين يده مما أقرض صاحبه. لا يُطالب صاحبه ولا أخاه، لأنه قد نودي بإبراء للرب. الأجنبي تُطالب، وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئه يُدك منه" (تث 15: 1– 3).
"لم يُعطِ بالربا ولم يأخذ مرابحة، وكفَّ يده عن الجور" (حز 18: 8).
وقد أعلن السيد المسيح عن هذه المحبة المُقدمة للمدين الفقير، بقوله: "وإن أقرضتم الذين ترجون أن تستردوا منهم، فأي فضل لكم؟ فإن الخطاة أيضًا يقرضون الخطاة، لكي يرددوا منهم المِثل" (لو 6: 34).
هكذا أعد العهد القديم لناموس العهد الجديد، فلا يقف الأمر عند تحريم الربا، وإنما عدم الامتناع عن إقراض الأخ مع العلم بعجزه عن إمكانية السداد، وعدم المطالبة بسداد القرض.
في نهاية القرن الثاني هاجم أبولونيوس Apollonius الأسقف بآسيا المونتانيين بعنفٍ، لأنهم يقرضون مالًا بربا[69].
استخدم الآباء عبارات كتابية لدحض الربا، مثل (لا 25: 35؛ خر 22: 25؛ نح 5: 11؛ إر 9: 6؛ مز 34: 12). واضح أن هذه الكتابات الكتابية والآبائية هاجمت الفائدة الخاصة بقروض مقدمة لأشخاص في عوزٍ وفقرٍ، هذه الفوائد التي تحطم الفقراء لا تُقبل تقدمات لله.
* لماذا في جفافٍ تتظاهر بالصلاح وأنت تجرح الآخرين؛ ما تقدم منه هبة يبكي عليه آخرون يوميًا. ألا تعتقد أن الرب يرى هذه الأمور من السماء؟ يقول الكتاب المقدس: "لا يُسر العلي بتقدمات الأشرار".. هل يقدم الإنسان عطايا يجعل بها الغير فقراء؟ أو إن كنت تُقرض بفائدة تبلغ 24 في المائة، وتريد أن تقدم صدقة حتى تكفر عن شرٍ بتلك التي هي أيضًا في ذاتها شر. حتمًا يرفض القدير مثل هذه الأعمال. هبتك منتزعة من وسط الدموع.. أيها الشرير، أنت تخدع نفسك، وليس آخر[70].
كوماديانس
كثيرًا ما هاجم كل من لاكتانتيوس [71] Lactantuis والقديسون كبريانوس[72] وباسيليوس الكبير، وأمبروسيوس وأغسطينوس وغريغوريوس النزينزي وغريغوريوس النيسي ويوحنا الذهبي الفم وأثناسيوس الرسولي[73] الربا. يشير القديس كيرلس الأورشليمي إلى قائمة فخاخ إبليس منها: التهور والطمع والربا[74]. ويركز القديس هيلاري أسقف بواتييه (315 – 367) على الربا كأذية موجهة ضد المسيح نفسه في شخص الفقير. يقول أيضًا إن تقديم القرض الذي كان يجب أن يكون متسمًا بالفضيلة يتحول إلى لعنةٍ حين تُطلب فائدة عليه. عوض مساندة الفقير يقوم المرَّابي بمضاعفة احتياجه.
أكثر الآباء الشرقيين مقاومة للربا هما القديسان باسيليوس الكبير (330 – 379) وغريغوريوس النيسي (335 – 394)، إذ يتطلعان إلى الربا كمقاومة للفقراء وتعدي على وصية كتابية.
يحسب القدّيس أمبروسيوس الربا من بين الخطايا التي تقود إلى الموت فيقول: [إن أخذ أحد ربا، يرتكب لصوصية، ولا يستحق أن يعيش[75].] إن احتج أحد بأن الربا يُمارس منذ سنوات، يرد عليهم القدّيس أمبروسيوس: "هذا أيضًا خطية"[76].
* [الإنسان الذي يطلب الله، ويبحث عن الحق] لا يسرق ولا يطمع فيما للغير، ولا يعطي ماله بالربا (لأنه يأخذ فائدة من آخرين في محنة)، ولا يذل إنسانًا يطلب قرضًا عن ضرورة ملحة[77].
* أي شيء لا يمكن احتماله أكثر من تقدَّم منفعة لفقيرٍ تجعله أكثر فقرًا مما هو عليه، أو يُقدم له قرضٌ يُزيد من بؤسه؟
إن كنت مسيحيًا، أية مكافأة تتوقعها من الله، إن كنت لا تسعى لكي تعين أناسًا وإنما لتؤذيهم؟
إن كنت مسيحيًا لماذا تخطط لكي يكون لمالك العاطل ربحًا يعود عليك يجعل أخاك في عوزٍ، هذا الذي مات المسيح عنه، ويكون مصدرًا لغناك؟..
تذكر أن الشخص الذي تطلب منه الربا هو فقير محتاج، من أجله صار المسيح فقيرًا محتاجًا. لذلك عندما تفعل صلاحًا أو شرًا لفقيرٍ لتعرف أنك تفعله للمسيح[78].
* أخبرني، هل تطلب المال والغنى من إنسانٍ فقيرٍ؟
لو أنه قادر أن يجعلك أكثر غنى لماذا يقف على بابك؟
يأتي يطلب عونًا فيجد عداوة.
إذ يبحث عن ترياقٍ يأتي إلى سمومٍ.
من واجبك أن تلطّف من الفقر المدقع لإنسانٍ، لكنك تطلب أن تشرب من برية قاحلة، فتزيد من عوزه. وذلك مثل طبيب يزور المرضى، لا ليرد لهم الصحة، وإنما يفسد ما تبقى لهم من قليل من العافية الجسدية. هكذا أنت تستغل كوارث البائسين كفرصة لنوال عائدٍ[79].
* لا يفرح الآباء بميلاد أطفالهم قدر ما يفرح المرابون في نهاية الشهر (بجمع الربا)[80].
* لو لم يوجد جمع عظيم من المرابين، لما وجدت جمهرة كبيرة من الفقراء[81].
* بماذا تجيب حين تُتهم بواسطة الديان الذي لا يُرتشى، عندما يقول لك: معك الناموس، والأنبياء، ووصايا الإنجيل. لقد سمعت هذه جميعها معًا تصرخ بصوتٍ واحدٍ من أجل المحبة والإنسانية "لا تقرض بربا" (تث 23: 20)، "لا يُقرض بربا" (راجع مز 15: 5)، "إن أقرضت أخاك لا تضغط عليه" (راجع خر 22: 25)[82].
* إنسان آخر ينجس الأرض بالربا والفائدة، حيث يجمع ما لم يزرع، ويحصد ما لم يغرس؛ يحصد ربحه لا من الأرض بل من عوز الفقراء[83].
* الربا الفاحش يستحق لومًا أكثر، والإنسان العظيم هو الذي يمتنع عنه[84].
* حتى الإنسان الفقير يقدم لكم فائدة.. هل أنتم أناس رحومون حيث تستعبدون من قمتم بتحريرهم من آخرين.
يدفع الربا من هو في عوزٍ إلى طعامٍ؛ أي شيء أكثر رعبًا من هذا؟
يطلب خبزًا، فتقدم له سيفًا.
يتوسل إليك من أجل التحرر، فتلزمه بالعبودية لك.
يسألك الحرية، فتضع له عقدة لفخٍ رهيبٍ[85].
* لقد جاء أول الشهر، وأصل الدين أنجب نسبة مئوية (الربا). كل شهر يأتي يوَّلد ربا، والنسل الشرير يُولد من آباءٍ أشرارٍ. هذا هو جيل الأفاعي. النسبة المئوية تتزايد، يُطلب دفعها، لكنها لا تُسد، فتضاف إلى أصل الدين.. وبالتالي تتزايد الفائدة حيث يُضاف الربا على الأصل، فلا تعود تصير فائدة، بل تصير أصلًا، لا تعود نسبة مئوية على فائدة، بل فائدة على النسبة المئوية[86].
* ها أنت فقير، أذكر صعوبة تسديد الدين.. فإن الفقر لا يُعالج بدفع الربا. فالشر لا يُصلح بشرٍ، ولا الجرح بجرحٍ، بل يصير إلى حالٍ أردأ بالقروح[87].
يطالب القدّيس أمبروسيوس الأغنياء ألا يحجموا عن مساعدة الفقراء لعجزهم عن السداد:
* كثيرون إذ يخشون فقدان مالهم يحجمون عن الإقراض، خشية الخداع. هذا ما اعتادوا أن يقولوه للذين يسألونهم قروضًا. لنقل لكل واحدٍ منهم:
"لتفقد مالك من أجل أخيك وصديقك، ولا تخفهِ تحت حجرٍ فتفقده.
ضع كنزك في وصايا العلي، فيصير لك أفضل من الذهب".
لكن إذ أن الناس صارت صماء لمثل هذه الوصايا المكرمة، خاصة الأغنياء فإن آذانهم قد انسدت بضجيج أموالهم النحاسي. بينما هم يحصون أموالهم لا يسمعون كلمات الكتاب المقدس.. ولكن متى جاء ذكر الربا أو الضمان يبتسم المقرض في جهالة[88].
* الربا هو نوع من الحرب، حيث يضرب شخص عدوه دون استخدام السلاح[89].
* خذ فقط قدر ما أعطيت، ولا تجعل من أعطيته يبكي حتى لا تُفسد عملًا من أعمال الرحمة. وإذ استحق موعد السداد، ولم يكن في متناول يده، انتظر لأنه ليس معه، فسيدفع لك حين يكون معه. لا تسبب له متاعب جديدة ذلك الذي خففت من أعبائه ذات مرة.[90]
* لا يوجد ما هو أدنى وأكثر قسوة من الربا، الذي يتأتى من الاقتراض، لأن مثل هذا المُقرض يتاجر بكوارث الأشخاص الآخرين، وينتفع من أحزان الغير، ويطلب أجرًا عن الشفقة لمن يخشى أن يكون رحيمًا. وتحت قناع الحنو يحفر قبر فقرهم أكثر عمقًا. عندما يمد يده للعون، يدفعهم إلى أسفل، وعندما يستقبلهم كما في مرفأ، يتعامل معهم كما في سفينة تحطمت على صخرة، في مياه ضحلة أو قرب سطح الماء[91].
_____
[68] Robert P. Maloney: Teaching of the Fathers on Usury (Everett Ferguson: Studies in Early Christianity, vol. 1, p. 345 ff.)
[69] Eusebius: H. E 5: 18 PG 20: 48; st. Jerome: De viris illus.
[70] Commadianus: Qui de malo domant, instructiones 65. PL 5: 251.
[71] Lactantius: Institutiones divinae 6: 18 PL 6: 698- 699.
[72] St. Cyprian: Testimoniorum Libri 3.
[73] Expositio in Ps 14 (15): 2- 5 PG 27: 100.
[74] Catech. Lect. 4: 37 PG 33: 501.
[75] De bono mortis 12: 56 PL14: 566.
[76] De Tobia 88 PL 14: 792.
[77] Lactantius: Epitome, 64 PL 6: 1076.
[78] Tractatus in Ps 15 (14) PL 9: 307.
[79] Homily 2 on Ps 15 (14) PG 29: 264 f.
[80] Contra usurarios PG 46: 446. Trauslatecl by R. P. Maloney.
[81] C. usurarias PG 46: 446.
[82] C. usurarios 46: 447.
[83] Oratio 16: 18 (R. Maloey).
[84] On Tobit, 8.
[85] De Tobia 11 PL 14: 763.
[86] De Tobia 42 PL 14: 775.
[87] De Tobia 82 PL 14: 790.
[88] De Tobia 9,10 PL 14: 762- 763.
[89] De Tobia 14: 51.
[90] Sermons, 239:4
[91] Homilies on Matthew, 5:9.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/patristic-social-line/usury.html
تقصير الرابط:
tak.la/8h65cq3