يستعرض القديس أغسطينوس في شرحه للموعظة على الجبل تطور علاقة الإنسان بأخيه، مبتدئًا من الإنسان البدائي الذي يبدأ بالشر، وينتهي بالإنسان الكامل الذي يفرح باحتمال ضعفات الآخرين، فيقول[27]:
[برّ الفريسيين الأصغر هو عدم تجاوز حدود الانتقام، أي لا ينتقم الإنسان بأكثر مما أصابه. ومع ذلك فليس من السهل أن نجد شخصًا يرغب في أن يرد الضربة بضربة واحدة، ويرد بكلمة واحدة على من أساء إليه بكلمة. فالإنسان يرغب دائمًا في الانتقام بصورة مغالى فيها جدًا، وذلك بسبب الغضب والشعور بأن المسيء يجب أن يُعاقب عقابًا مضاعفًا. فالشريعة الموسوية التي جاء فيها "عين بعين وسن بسن"، تحد من الروح السابقة لأنها تطالب بأن لا يزيد الانتقام عن مقدار الضرر الذي أصاب الشخص.
هذه الشريعة هي بداية السلام، أما السلام الكامل فهو في عدم الانتقام.
والشريعة الموسوية، أي انتقام الإنسان بقدر ما ناله من ضرر، تأتي متوسطة بين أسلوبين، الأسلوب الأول المتخلف عنها حيث ينتقم الشخص بشرٍ أعظم مما أصابه، والثاني هو ما جاء به رب المجد معلمًا تلاميذه عدم مقاومة الشر.
فبحسب ترتيب الأزمنة حدث تحول من الخصومة العظيمة (أي رغبة الإنسان في الانتقام بأكثر مما أصابه) إلى اتفاق عظيم بواسطة الشريعة (أي الانتقام بقدر ما أصابه).
1- الإنسان البدائي يبدأ بالاعتداء على أخيه.
2- والإنسان الذي لا يبدأ بالشر، لكنه يقاوم الشر بشرٍ أعظم، لا يكون بعد قد بلغ مستوى الشريعة الموسوية.
3- أما في الشريعة الموسوية فقد طُلب من الإنسان أن لا يتعدى انتقامه قدر الشر الذي أصابه، وبهذا يكون قد تنازل عن جزء من حقه، إذ العدالة تقتضي معاقبة البادئ بأكثر مما صنع.
لذلك فإن هذه الشريعة غير الكاملة، لم تستخدم القوة على من يصنع الشر بل استخدمت العدالة المصطبغة بالرحمة. هذه الشريعة كملت بواسطة من جاء ليكمل الناموس لا لينقضه.
لا تزال هناك خطوتان متوسطتان (الرابعة والخامسة)، تركهما الرب ليُفهما ضمنًا، متحدثًا بالحق عن أعلى مراتب الرحمة (المرحلة السادسة)، فيوجد من لم يصل بعد إلى تنفيذ وصية البر الأعظم، منفذًا إحدى الدرجتين المتوسطين وهما:
4- عدم مقاومة الشر بشرٍ أعظم أو مساوٍ له بل أقل منه فيقابل الضربتين بضربة واحدة أو فقء العين بقطع الأذن.
5- أما من يسمو على الدرجة السابقة، فإنه لا يقابل الشر بشرٍ، مقتربًا بذلك من وصية الرب دون أن يبلغها بعد.
6- أما درجة الكمال المسيحي، ففيها يأمر رب المجد بعدم مقاومة الشر، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فهو لا يأمر فقط بعدم مقابلة الشر بشرٍ بل بعدم مقاومته، قائلًا: "بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر". ولم يقل "من لطمك لا تلطمه" بل بالأحرى إن كان يرغب في لطمك مرة ثانية فقدم ذاتك له. وإن الذين يخدمون أبناءهم، أو أصدقاء أعزاء لديهم، أو أطفالًا صغارًا، أو أناسا معتوهين. هؤلاء يدركون قيمة احتمال ضعف الآخرين بفرح رغم ما يلحق بهم من أضرار. وإن نتج عن احتمالهم هذا نفع لمن يخدمونهم، فلا بد أنهم سيضاعفون خدمتهم واحتمالهم حتى يشفوا من ضعفهم.
إذًا ماذا يوصينا طبيب النفوس، الرب يسوع، بأقربائنا؟.. إنه لا يطلب منا سوى احتمال ضعفاتهم، لأجل خلاصهم. فإن شرور أقربائنا تنبع عن ضعف نفوسهم ومرضها.]
_____
[27] الموعظة على الجبل للقديس أغسطينوس، ترجمة: القمص تادرس يعقوب ملطي، ك 1، ف56، 57.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/patristic-social-line/jewish-law-levels.html
تقصير الرابط:
tak.la/2wyq4hb