ما دام عصب الأخلاقيات المسيحية هو الحب، فإنه لا يمكن لإنسانٍ يقبل الإيمان في قلبه ويشتهي الأذية لأخيه، أو يشمت لضرر أصابه، أو ينتقم لنفسه من إنسانٍ ما. حقًا لقد رأينا أن بعض الآباء سمحوا بالدفاع عن النفس، خاصة الدفاع عن الأسرة أو الوطن أو أي طرفٍ عاجز أو ضعيف. لكن في الدفاع يبذل كل الجهد ألا يضر من هو أمامه، بل وأن أخذ موقفًا حازمًا، فمع الحزم يقدم الحب، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى.
* كل من يسرع إلى أذية شخص آخر أو الإضرار به يكذب إن دعا نفسه مسيحيًا. إنه المسيحي بالحق من يقدر أن يقول بكل أمانة: لم أوذِ أحدًا، عشت في برٍ مع كل البشر.[71]
* أتعتقدون أنه إنسان مسيحي من لا يطعم المحتاج بخيره، ولا يسقي أي ظمآن بخمره، ولا يشاركه أحد مائدته، ولا يسكن تحت سقفه غريب أو عابر سبيل، ولا تكسو ثيابه شخصًا عاريًا، ومن لا تساعد يداه فقيرًا، ولا يذوق بركاته أي شخص، ولا يلمس أحد رحمته، ولا يتمثل بالصالحين بأي سبيل، بل يسخر منهم ويهزأ بهم ويضايق الفقراء على الدوام؟
ليتجنب كل المسيحيين هذا الاتجاه في أفكارهم، فلا يمكن تلقيب شخص من هذه النوعية باسم مسيحي وابنًا لله. فالمسيحي هو من يسلك طريق المسيح، ويتمثل به في كل شيءٍ، كما هو مكتوب: "من قال إنه ثابت فيه، ينبغي كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضًا" (1 يو 2: 6). المسيحي هو من يُظهر الرحمة تجاه الجميع.. ولا يسمح أن يُظلم الفقراء في حضوره، بل يساعد البائس ويسند المحتاج. يشفق على الحزين، ويشعر بأسى الآخرين كأنه حزنه هو شخصيًا. المسيحي هو من تبكيه دموع الغير، ويكون منزله ملكية عامة للجميع.[72]
* إن كنتَ عند الله غير مذنب فلا تغفر للمذنبين إليك، وإن كنتَ تعلم أنك مذنب فقدِّم الرحمة أمامك، فإنّ الله يضاعف الرحمة للرحومين.
* لقد جعَلَنا الله في منزلة أعضاء الجسد ورأسنا هو المسيح إلهنا كما يقول الرسول القديس: «كل أعضاء الجسد الواحد إذا كانت كثيرة هي جسدٌ واحدٌ .. ولكن أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح» (1 كو 12: 12؛ 11: 3). فإذا فعل أخوك شرًّا يكون تمامًا كأن يدك هي التي تتألّم أو كأن عينك مريضة. ومع ذلك فنحن وإن كنا نتألم لكننا لا نقطع اليد ونطرحها عنا، ولا نقلع عيننا، لأننا نعتبر هلاك هذه الأعضاء خسارة عظيمة جدًا. ولكننا بالعكس نرسم عليها ختم المسيح الفائق القدر، ونبذل جهدنا أيضًا في التشفُّع بالقديسين، ونرفع إلى الله الصلوات لأجل هذا الأمر، ونأتي بالعقاقير والمراهم لعلاج العضو المتألم. إذًا، فكما تصلِّي من أجل عينك أو يدك لكي تعود صحيحة سالمة من المرض، هكذا يجب عليك أن تفعل ذلك من أجل أخيك. ولكننا عندما نرى أعضاء المسيح تتألم لا نحزن من أجلها، وليس هذا فحسب بل ونشتمها. هذا هو صنيع الذين ليست لهم أحشاء رحمة.
* وقال أيضًا: مَنْ اقتنى أحشاء رأفة المحبة والتحنُّن يجلب الفرح والمنفعة لنفسه أولًا ثم للقريب. أمّا الشر فهو على النقيض من ذلك يُفسِد ويُهلِك كل مَنْ يسود عليه. ولعله من السهل أن ندرك أنّ مَنْ يضرّ قريبه في ممتلكاته أو في سمعته أو جسده فهو يبتعد عن الحياة.
* محب الصلاح هو الذي يحتمل البلايا بفرح. أستر على الخاطئ بدون أن تخسر (نفسك) منه لكيما تحملك رحمة الرب. إسند الضعفاء وعزِّ صغيري النفوس لكيما تسندك اليمين التي تحمل الكل. شارك الحزانى بقلب متوجع لكيما ينفتح لصلاتك باب الرحمة.
* قال أيضًا أبونا أنبا مقار: ”إنه مكتوبٌ: "لقد حبلنا بسبب مخافتك يا رب وتمخّضنا وقد ولدنا روح الخلاص" (إش 26: 18 الترجمة السبعينية). فاحذر من أن يفلت منك القول وأن لا تلد، ففي الحقيقة هذا هو لباس العرس (مت 22: 11)، هذه هي وزنات الذين ربحوا (مت 25: 20-22)، هؤلاء هم الذين بنوا بيتهم على الصخر (مت 7: 24)، أي الرحمة والإيمان اللذان يجعلان فيك المخافة وغصب النفس والتواضع والحزن، فتمسّك بهما. كونوا معافين في الرب أيها الذين تريدون أن تعيشوا في سلامٍ، آمين“.
* سأل الإخوة أنبا مكاري الكبير قائلين: ”هل أعمال الرحمة هي أهم جميع الأعمال“؟ فقال لهم: ”نعم“. فقالوا له: ”اِشرح لنا ذلك“. فلما رآهم أنبا مقار خجولين ومتراخين أراد أن يُثير انتباههم، فقال لهم: ”اُنظروا البائع عندما يبيع ويقول لمن يشتري منه: ’عندي منفعة لك‘. ثم إذا رآه حزينًا جدًا يردّ له بعضًا من النقود فيذهب المشتري فرحًا، هكذا في الأعمال، فإذا مثُل المرء وهو حزين أمام الله معطي الخيرات، فإنّ الحاكم العادل ربنا يسوع المسيح تتحرك أحشاؤه بمراحم كثيرة، وتصدر الأعمال بفرحٍ وابتهاجٍ وحرارة“.
* طلب أخٌ من أنبا مقار قائلًا: ”أرشدني بخصوص عمل الرحمة، كم هو قوي“. فقال له: ”كما أنّ رجال الملك الذين قد ينفيهم إلى بلدٍٍ غريبةٍٍ ونائيةٍٍ، ويقبل واحدٌ منهم مشورةً حكيمة من ذوي السلطان ويغصب نفسه ويُرسل هدايا لهذا الملك ولا يفعل الآخرون مثله، فبعد زمنٍ طويل يُرسل الملك باحثًا عن هؤلاء الرجال لكي يُرجعهم إلى مدينتهم ووطنهم، ألا يفرح هذا الذي أرسل هدايا من قبل أكثر لأنها تشفّعت له؟ وألا يجد دالةً أكثر من هؤلاء الذين لم يُرسلوا شيئًا؟ أو مثل قائدٍ له نعمة لدى ملك هذا العالم، هكذا أيضًا الرحمة عند المسيح الملك العظيم، فهي تجد دالةً عظيمة عنده، وتُبرِّر من كل تُهمة“.
بستان الرهبان
* جاء إلى أنبا بيمين علماني تقي، وكان عند الشيخ إخوةٌ آخرون يطلبون أن يسمعوا منه كلمةً، فقال الشيخ للعلماني: ”قُل كلمة للإخوة“. فقال: ”اغفر لي يا أبي من فضلك لأنني أنا أيضًا أتيتُ لأتعلّم“. ولكن الأب أصرَّ واستحثه أن يتكلم، ولما زاد ضغطه عليه قال: ”أنا علماني أبيع خضروات، ولأنني لا أعرف أن أتكلم من الأسفار المقدسة، فأنا أقول لكم مثلًا: إنسان له ثلاثة أصدقاء، فقال لأحدهم: ’أريد أن أقابل الإمبراطور فتعال معي‘. فقال له: ’سأذهب معك إلى منتصف الطريق‘. ثم قال للثاني: ’تعال معي لمقابلة الإمبراطور‘، فأجاب: ’سأذهب معك حتى القصر، ولكنني لا أستطيع أن أدخل‘. ثم طلب نفس الشيء من صديقه الثالث، فأجاب: ’سأذهب معك وأدخل معك القصر بل وأقف معك أمام الإمبراطور، وأكلِّمه نيابةً عنك‘“.
فسأله الإخوة عن معنى هذا المثل، فقال لهم: ”الصديق الأول هو الزهد الذي يقود الإنسان حتى منتصف الطريق، والثاني هو العفة والطهارة التي تأخذه إلى السماء، أما الصديق الثالث فهو الرحمة التي تُحضره أمام الله ملكنا وتتكلّم نيابةً عنه بدالةٍ عظيمة“. فانصرف الإخوة منتفعين[73].
بستان الرهبان
_____
[71] The Christian Life, 6.
[72] The Christian Life, 14
[73] Apoph., Poemen, 109.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/patristic-social-line/harming-others.html
تقصير الرابط:
tak.la/8f446vv