اهتمام الآباء الكبادوك بوالدة الرب يمكن أن يوجد له تفسير مُرَجَّح بالعلاقة الحميمة بينهم وبين كنيسة الإسكندرية، التي كانت تفتخر بتقليدها المريمي القديم والراسخ[2]. مع قلة عدد نصوص الكبادوك الخاصة بالفكر المريمي، تبرز أهميتها ولها تقديرها اللاهوتي حيث تتطلَّع إلى العلاقة التي بين القدِّيسة البتول وبين ابنها كلمة الله المتجسد بكونها أمرًا أساسيًا لا يمكن عزلهما.
إن كان تجسد الكلمة هو العمود الفقري لعمل الله الخلاصي على الصليب، وكشف عن قوة قيامته، وحملنا معه إلى السماء بصعوده، فإن هذا التجسُّد تمّ في أحشاء القديسة مريم.
يلذُّ للقدِّيس باسيليوس الكبير أن يُعطِيها لقبًا فريدًا لا تشاركها فيه خليقة ما في السماء وعلى الأرض، وهو "المَعْمَل الإلهي".
ما شغل قلب القدِّيس بولس هو سرُّ التجسد "عظيم هو سرُّ التقوى، الله ظهر في الجسد" (1 تي 3: 16). وإذ تحقَّق هذا السرُّ في أحشاء البتول دعاها "معمل التدبير الإلهي".
في معنى واقعي عميق يدعو القديس باسيليوس رحم القديسة مريم "معملًا". دُعِيَت القديسة مريم للتعاون مع قوة الله القديرة بتقديم جسدها. في هذا المعمل الفريد تحققت أعظم الأمور:
1.
الثالوث القدوس هو العامل فيها
2.
فيه
تتمُّ أعظم خطة إلهية، عمانوئيل: "الله معنا"!
3.
فيه يصير الكلمة الإلهي جسدًا، ويبقى الأقنوم الإلهي غير المتغير!
في البشارة بالتجسد الإلهي، قال الملاك للقديسة مريم: "الروح القدس يحلُّ عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يُدعَى ابن الله" (لو 1: 35). أي مَعْمَل أعظم من هذا؟! فيه تعمل قوة الله الآب القدير فتُظَلِّلها، ويحلُّ الروح القدس عليها، ويتجسَّد فيها كلمة الله القدوس.
* ما هو معمل هذا التدبير؟ جسم العذراء مريم القدِّيسة. وما هي الأُسس الفعَّالة في هذا الميلاد؟ الروح القدس وقوة العليّ المُظَلِّلة[3].
حدث عجبٌ في هذا المَعْمَل، حيث صار كلمة الله في أحشائها! صار الله معنا! أية نعمة أعظم من هذه؟ يرى القديس باسيليوس في العذراء المطوَّبة أُمّ عمانوئيل التي تنبأ عنها الأنبياء! إنه ذاك الذي في الأعالي نزل إلينا وبلغ إلى الأعماق ليحملنا من الجحيم ويدخل بنا إلى فردوسه!
* يرى الكاتب الله المتجسِّد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. يرى عمانوئيل، مولودًا من عذراء قديسة. معنى عمانوئيل "الله معنا". لهذا صرخ نبويًا: ربّ القوات معنا! هذا يكشف لنا أنه هو نفسه الذي ظهر للأنبياء القدِّيسين والآباء البطاركة[4].
* خلال مريم نزل الله إلى أرضنا، وصار واحدًا منّا، من بني جنسنا، وأقامنا أصدقاء له، ومُرافِقين ملتصقين به[5].
* هكذا تحقَّق السرُّ الذي رُسِمَ قبل كل العصور، والذي أُعلِن عنه قديمًا بواسطة الأنبياء: "هوذا العذراء تحبل في رحمها، وتلد ابنًا، وتدعو اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" (راجع إش 7: 14 LXX).
يحوي هذا الاسم القديم أيضًا الإعلان عن السرِّ كله، أن الله يكون مع البشر. إذ يقول: "عمانوئيل" الذي معناه "الله معنا".
لذلك لا يليق بأحدٍ أن يضلَّ بواسطة افتراءات اليهود، الذين يقولون إن النبي يتحدَّث عن امرأة فتاة وليس عن عذراء. وإلا لكان النص: "ها المرأة الشابة تحبل في رحمها".
على أي الأحوال، إنه لأمر سخيف للغاية أن نتصوَّر أن ما قد أُعطِي لنا بواسطة الرب هو علامة لأمرٍ شائعٍ وعامٍ بالنسبة للطبيعة.
بالحقيقة ماذا يقول النبي؟ "ثم عاد الرب فكلم آحاز، قائلًا: اطلب لنفسك آية من الرب، عمِّق طلبك أو رفِّعه إلى فوق. فقال آحاز: لا أطلب، ولا أُجرِّب الرب" (إش 7: 10-22). بعد قليل يكمل: "لكن يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل في رحمها" (إش 7: 14).
وإذ لم يطلب آحاز آية لا في الأعماق ولا في الأعالي، يمكنك أن تدرك أن ذاك الذي نزل إلى طبقات الأرض السفلى هو نفسه قام فوق كل السماويات (أف 4: 9-10). الرب نفسه يعطي آية حقيقية غير عادية، عجيبة، أسمى جدًا من قوانين الطبيعة العادية: المرأة نفسها بتول وأم، ومع بقائها في حالة البتولية المقدسة نالت بركة إنجاب طفلٍ[6].
في جهاده ضد الأريوسية، يؤكد القديس باسيليوس ميلاد الرب الأزلي من الآب، وفي مقاومته للهراطقة الذين أرادوا إحياء خطأ فالنتينوس Valentinus الذي ادَّعى أن السيد المسيح لم يكن له جسد حقيقي بل خيالي، أكَّد دور القديسة مريم، أنه أخذ جسدًا حقيقيًا، وصار منسوبًا للجنس البشري، واحدًا معنا.
تحقَّقت معجزة التجسد في رحم القديسة مريم هذه الظاهرة التي لا يمكن وصفها، تحقَّقت بالروح القدس وقوة العليّ. بهذا الحدث الإلهي الفائق الصادر من الأعالي، صار كلمة الله إنسانًا حقيقيًا. لهذا لم يتردَّد القدِّيس في دعوة القديسة مريم "والدة الإله"[7].
في هذا المعمل صار كلمة الله جسدًا، أي صار إنسانًا حقيقيًا، ولم يزل هو أقنوم الكلمة غير المتغيِّر. ابن العذراء السرِّي والفائق في علوِّه، الذي يفوق أُمَّه التي أعطته الميلاد، يُظهر أنه أقنوم إلهي:
* أصله ليس من مريم، ولا ينتمي إلى زمانها. ماذا إذن؟ "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" (يو 1:1). كيانه أزلي، ميلاده غير قابل للألم، طبيعته ملوكي، واحد مع الآب[8].
* يتحطَّم (كل ما حَقَّقه المُخَلِّص لحسابنا) بواسطة القائلين إن الرب جاء في جسمٍ سماويٍ، إن كان الجسد حامل الله لم يؤخذ من عجينة آدم، فما الحاجة إذن للعذراء القدِّيسة؟[9]
_____
[2] Luigi Gambero: Mary and the Fathers of the Church, translated by Thomas Buffer, 1999, p. 142.
[3] On the Holy Generation of Christ, 3. PG 31:1464A.
[4] Commentary on Psalm 45:6. PG 29:425
[5] On the Holy Generation of Christ, 6. PG 31:1473B.
[6] On the Holy Generation of Christ, 4. PG 31:1465B-1468A.
[7] On the Holy Generation of Christ, 5. PG 31:1468B.
[8] Against Eunomius, 2:15. PG 29:601BC.
[9] Letter 261. PG 32:969BC.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/mary-5-laboratory/cappadocian.html
تقصير الرابط:
tak.la/btqb8hx