2
القداس الإلهي ليس مجرد ممارسة تعبدية، لكنه عيد مفرح. مع كل قداس إلهي يدخل المؤمنون -كهنة وشعبًا- إلى الاحتفال بعيد قيامة ربنا يسوع، فيشعرون ببهجة القيامة العاملة في حياتهم... يعيدون بغير انقطاعٍ بالمسيح القائم من الأموات الساكن في قلوبهم!
أذكر في أول قداس إلهي احتفلت به في كنيسة الشهيد مارجرجس بإسبورتنج أن وقت القداس قد طال جدًا. وعندما التقيت بالمتنيح "عم صادق"، وهو إنسان بتول كرَّس حياته للشهادة العملية للإنجيل، قلت له إن القداس قد طال اليوم. وإذا بالدموع تنزل من عينيه وهو يقول: "كيف تقول هذا؟! من يستحق أن يشترك في القداس الإلهي؟! ليتنا نقضى عمرنا كله في القداس الإلهي!"
كان من عادة "عم صادق" أن يهرب بعد صرف ملاك المذبح إلى منزله ليغلق على نفسه في حجرته الخاصة لمدة ساعة أو أكثر لا يلتقي بأحد، لأنه حمل السيد المسيح في داخله!
هكذا كانت حياته كلها عيدًا لا ينقطع من أجل ارتباطه بالقداس الإلهي، الذي سكب عليها سلامًا فائقًا وفرحًا مجيدًا لا يُعبر عنه!
هذا الشعور كنا نشعر به في طفولتنا، إذ كان للقداس الإلهي بهجته في حياة العائلات، حيث كانوا يقومون بتنظيف منازلهم كل يوم سبت استعدادًا لبهجة العيد الأسبوعي: الأحد، أو الشركة في القداس الإلهي. يصحب الاستعداد الخارجي استعدادًا داخليًا للنفس لاستقبال عريسها كما في حفلٍ زيجي.
كما سبق أن قلت(13) خدمة الإفخارستيا هي رحلة فريدة من نوعها، يبدأها المؤمن منذ لحظة خروجه من بيته متجهًا نحو الكنيسة، مسلمًا نفسه تحت قيادة روح اللّه القدوس، لكي يمسك به ويسنده ويحتضنه ويرتفع به على سلم السماء، أي خلال صليب ربنا يسوع المسيح، خطوة فخطوة، حتى يدخل به إلى أعماق اللّه، فيلتقي بالثالوث القدوس. بهذا تفرح النفس باللّه ولا تريد مفارقته، إذ تقول مع القديس بطرس الرسول: "جيد يا رب أن نكون ههنا" (مت 4:17؛ مر5:9؛ لو33:9)...
يا لها من ساعات رهيبة، فيها تتحرك الكنيسة لكي تقف في حضرة اللّه مع الشاروبيم والسيرافيم وكل الطغمات السمائية، تقدم للآب مشتهَى قلبه، ذبيحة ابنه الوحيد، فداء عن العالم كله!
وكأننا في القداس الإلهي نأتي بهمومنا وأتعابنا الأسبوعية ونلقيها عند قدمي مسيحنا، الذي يملأ حياتنا بفرحه المجيد، ويدخل بنا إلى راحته.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
السؤال الذي كثيرًا ما يوجَّه إلينا:
أولًا: لا نستطيع عزل احتفالنا بالقداس الإلهي عن حياتنا اليومية. فإن كان لمسيحنا النصيب الأول في وقتنا وفكرنا؛ نبكر إليه كما نختم يومنا بلقائنا معه... نناديه دومًا خلال يومنا أينما كنا، وننشغل به حتى في أحلام يقظتنا وأثناء نعاسنا... عندئذ تتهلل نفوسنا بالقداس الإلهي، ونشعر باحتفالنا أنه رَفْع للقلب وكل إنساننا الداخلي إلى السماء.
في القديم كان اليهود يستعدون أسبوعًا كاملًا لعيد الفصح، ممتنعين عن إدخال الخمير إلى بيوتهم. هكذا يليق بنا أن نستعد كل أيامنا للتمتع بالاتحاد بالمسيح فصحنا ممتنعين عن خمير الشر. يقول القديس بولس الرسول: "إذًا لنعيد ليس بخميرةٍ عتيقةٍ، ولا بخميرة الشر والخبث، بل بفطير الإخلاص والحق" (1 كو 8:5).
ثانيًا: بممارستنا التوبة اليومية نشعر بالحاجة إلى المخلص، ويتحول القداس الإلهي إلى متعة الثبوت في المخلص. بهذا يصير فكرنا وأحاسيسنا ومشاعرنا ممتصة فيه.
التوبة كقول السيد المسيح هي طريق الملكوت؛ إنها تهبنا نحن الخطاة الاستحقاق للتناول! أما عدم التوبة فيقف عائقًا عن دخولنا الطريق الملوكي المفرح!
ثالثًا: المؤمن الذي يفتح الكتاب المقدس في بيته كل يوم ليجد نفسه ترتفع كعروسٍ تتحد بعريسها الكلمة المتجسد، تفرح وتتهلل بالاحتفال بالقداس الإلهي، إذ تجد فيه عرسًا حقيقيًا يبتلع كل أحاسيسنا!
رابعًا: شركة الشعب مع الكهنة في الاحتفال بالقداس الإلهي. فالقداس الإلهي هو خدمة الكنيسة كلها، كهنة وشعبًا، يصلون معًا بالروح كما بالذهن، كقول الرسول بولس (1 كو 14:14). لهذا يليق ممارسة القداس بلغة مفهومة، خاصة بالنسبة للجيل الجديد في المهجر.
يليق بالمؤمن في القداس أن يشترك في التسابيح والتشكرات والطلبات، فيدرك أنه يلتقي مع السمائيين تسابيحهم، كما يحمل في قلبه العالم كله -المؤمنين وغير المؤمنين- مصليًا لأجل خلاص الجميع وبنيانهم الروحي ووحدتهم في الإيمان والحب.
خامسًا: بالصوم، فقد اعتادت الكنيسة الأولى في الشرق والغرب على الاحتفال بالقداس الإلهي وهم صائمون، كاستعداد روحي لاستقبال جسد الرب ودمه وتناولهما.
ربما يتساءل البعض: هل كان السيد المسيح وتلاميذه صائمين؟
إذ صار كلمة اللّه إنسانًا حقيقيًا خضع للناموس الطبيعي كما للناموس المكتوب بإرادته، حتى قبل الختان في جسده، ومارس العبادة كواحدٍ منا، وحفظ السبت ممارسًا إياه لا بالحرف القاتل وإنما بعمل الخير وإعلان تحننه على الغير.
كان السيد المسيح وتلاميذه صائمين في يوم الخميس الكبير حيث أسس السيد المسيح سر الإفخارستيا للأسباب التالية:
1. منذ أيام عزرا كان الخميس يوم صوم وصلاة(14)، لأن موسى بدأ صومه على جبل سيناء يوم الخميس لاستلام الوصايا العشرة والناموس(15).
كان الشعب كله بقياداته يصوم كل خميس تذكارًا لاستلام الشريعة في القديم، أفلا يليق بنا نحن أن نصوم استعدادًا لقبول الكلمة ذاته، جسده ودمه المبذولين فينا؟! إننا لا نستلم حجري الشريعة بل الكلمة ذاته!
2. كان السيد المسيح وتلاميذه صائمين، ليس فقط لأنه كان يوم خميس، ولكن كان يلزم على كل يهودي لم يستطع الاشتراك في خدمة الهيكل أن يصوم لمدة أربعة أيام قبل الفصح، لا يأكل ولا يشرب حتى الغروب(16).
3. كتذكار لخلاص أبكار الشعب عندما قتل الملاك المهلك أبكار المصريين في ليلة الخروج من العبودية، كان كل بكر عبراني يلتزم بصوم يوم الفصح بطريقة حازمة. وإذ يُحسب السيد المسيح بكرًا، لهذا بحسب التقليد اليهودي كان صائمًا.
على أي الأحوال إن كان السيد المسيح قد طلب من تلاميذه أن يصوموا ويصلوا لأجل الغلبة على الشياطين (مت21:17) أفليس بالأولى أن نصوم لنستعد بالتمتع بواهب الغلبة والنصرة؟!
إذن إن كان الصوم هو أحد العناصر الرئيسية للاستعداد للفصح (الصوم، الصلاة، الاعتراف بالخطايا مع توبة القلب، تقديم ذبائح وتقدمات للرب) فإنه يليق بنا أن نصوم استعدادًا للتمتع بجسد الرب ودمه فصحنا الذي ذبح لأجلنا.
لقد كان السيد المسيح وتلاميذه صائمين... ولهذا نجد جميع الكنائس الأولى تؤكد ضرورة الصوم مع التوبة استعدادًا لهذا السر العظيم، ولا يُعْفَى منه إلا المرضى وغير القادرين!
سادسًا: يليق بنا أن نخرج من بيوتنا مع أبينا إبراهيم لنذهب إلى الأرض التي يرينا إياها، أي إلى مذبحه المقدس. نترك وراءنا أرضنا وعشيرتنا وبيت أبينا، أي نطرد عن قلوبنا كل اهتمام زمني وارتباك، لكي تنفتح أحاسيسنا الداخلية لمعاينة أسرار اللّه السماوية الفائقة، ويتسع القلب بالحب للعالم كله في المسيح يسوع.
ما أجمل أن نصلي قبل خروجنا من بيوتنا، وأثناء ذهابنا إلى الكنيسة، طالبين من اللّه أن يطرد عنا كل تشتيت للفكر، لكي يتجه كياننا كله نحو اللّه بفكر مضبوط(17).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
سابعًا: يليق بنا أن نبكر إلى الرب كما بكر إبراهيم صباحًا ليقدم ابنه الحبيب الوحيد إسحق محرقة للرب. لنسرع إلى بيت الرب بغير تأخير فإنه في انتظارنا وقد أعطانا موعدًا. حقًا هو طويل الأناة ينتظرنا حتى إذا تأخرنا، لكن بهذا نُحسب مستهترين ما دمنا بلا عذر حقيقي(18).
ثامنًا: إذ ندخل بيت الرب نصعد مع موسى النبي، لا إلى الجبل لنتسلم شريعة مكتوبة على ألواح حجرية، بل إلى بيته لنتناول جسد الرب ودمه المحيين، ونبقى هناك حتى يأمرنا بالانصراف، فلا نهين الجالس معنا.
* قد دخلت الكنيسة يا إنسان، وتأهلت أن تكون في صحبة المسيح، فلا تخرج منها قبل أن يسمح لك، وإلا فإنك تُسأل عن السبب وتُحْسِب هاربًا(19).
تاسعًا: جاء في قوانين الكنيسة:
* لا يخرج أحد من الكنيسة بلا ضرورة بعد قراءة الإنجيل المقدس إلا بعد رفع القربان وبركة الكاهن والتسريح(20).
* أن نصلي برهبة وخوف، لا بعجب ولذة (حب الظهور)(21).
* أن نقف في الكنيسة بهدوء وعفاف لسماع كلمة اللّه(22).
* ألا يتكلم أحد في الكنيسة(23).
_____
(13). Fr. T. Malaty: Christ in the Eucharist, Alexandria 1973, p. 279.
(14). Palastine in Days of Christ p. 38; Fr. James L. Meagher: How Christ sad the First Mass?, Illinios 1984, p. 321.
(15) Babyl. Talmud: Baba Kamma, vol. 82-1; Edersheim: Life of Christ, ii, 291, Lev. 16:29; Joel 1:1c; Acts 12:2 etc.
(16). Edersheim: The Temple, p. 300.
(17). Christ in the Eucharist, p. 281.
(18). Ibid 283.
(19). PG. 63:623-632.
(20). بس 98.
(21). Basil, 67.
(22). Didache, 10.
(23). Basil, 17.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/liturgy/celebrate.html
تقصير الرابط:
tak.la/rt39dgn