يشَّبه (الرجل الكامل) في الكتاب المقدس بالأشول، إذ وُصف أهود في سفر القضاة (15:3) بأنه يستخدم يده اليسرى كما لو كانت يمنى. ويمكننا أن ننال هذه القوة (أي تكون يدنا اليسرى قوية كاليمنى) باستخدامنا الأشياء السارة استخدامًا سليمًا ومفيدًا هذه التي هي "لليمين"، واستخدامنا الأشياء المؤلمة التي هي "لليسار" استخدامًا حسنًا "سلاحًا للبرّ" كقول الرسول.
الإنسان الداخلي له جانبان، أو بمعنى آخر "يدان". فلا يستطيع أي قديس أن يعمل من غير أن يستعمل يده اليسرى، وبهذا يظهر كمال الفضيلة. الإنسان الماهر يستطيع أن يحوّل كلا يديه إلى "يدين يمينيتين". ولكي نوضح ذلك نقول بأن القديس له يد يمينية للأعمال الروحية، وذلك بحصوله على الرغبات الصالحة والأهواء الحسنة بغيرة روحية، متحررًا من هجمات الشيطان بدون أي مجهود أو صعوبة في بغضه وقطعه للخطايا الجسدية، وعندما يكون مبتهجًا على الأرض، ناظرًا إلى الأمور الزمنية والأرضية كبخارٍ وظلٍ باطلٍ، مزدريًا بها كأمور زائلة. وبقلبه الفياض لا يشتاق بغيرة زائدة نحو الأمور العتيدة فحسب، بل بالحق يراها بوضوح، مقتادًا بالتأمل الروحي، مدركًا الأسرار بوضوح، ومقدمًا صلواته أمام الله بنقاوة واستعداد، ملتهبًا بغيرة روحية نحو العبور إلى الأمور غير المنظورة الأبدية، حتى يصعب الاعتقاد بأنه لا يزال باقيًا في الجسد.
ويكون للإنسان يد يسارية عندما يسقط في أشراك التجربة ويحترق بنيران الشهوة ويكون كما لو كان جالسًا على نيران بسبب التهيج والغضب، مغلوبًا من الكبرياء والافتخار، متضايقًا من الحزن العامل للموت، متزعزعًا نحو قطع الرجاء، مُهاجمًا بالفتور، فاقدًا كل دفء روحي، ناميًا في نوع من الفتور والغمّ الذي بلا سبب، حتى أنه ليس فقط تتركه الأفكار الصالحة، بل والترنم بالمزامير والصلاة والقراءة وينهزم من النوم، وتبدو كأن جميع التداريب قد فقدت طعمها بكراهية مريعة لا تطاق، فإذا ما اضطرب (الراهب) بهذه الناحية فليعلم أنه مهاجم من الجانب اليساري.
فإذ لا ينتفخ الإنسان بالكبرياء بسبب ما بلغه من الجانب الأيمن مما سبق ذكره، ويقاوم ببسالة الهجمات التي تأتيه من الجانب الأيسر من غير أن يترك مجالاً لليأس، ممسكًا بأسلحة الصبر متدربًا على الفضيلة، فإن هذا الرجل يكون مستخدمًا كلا يديه كيدين يمينيتين. فينال نصرة في كل عمل ويحصل على الجعالة بسبب الجانب الأيسر كما من الجانب الأيمن.
فإننا نقرأ عن المكافأة التي نالها الطوباوي أيوب والذي توج بالنصرة من الناحية اليمينية، لأنه إذ كان أبًا لسبعة بنين وكان غنيًا وصاحب ثروة طائلة كان يقدم كل يوم ذبائح لله لأجل تطهيرهم، وذلك لشغفه أن يكونوا مقبولين وأعزاء لدى الله أكثر منه. وكان يفتح بابه لكل غريب إذ كان: "عيونًا للعمي وأرجلاً للعُرج" (أي 15:29)، وكسى أكتاف التعابى بصوف غنمه. وكان أبًا للأيتام وزوجًا للأرامل، ولم يكن يفرح قط لسقوط عدوٍ له.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وقد بقي نفس الرجل في حياة الفضيلة بصورة أعظم عندما انتصر على المصائب من الناحية اليسارية، عندما أُخِذ منه أولاده السبعة في لحظة، فإنه كأب لم يتغلب عليه الحزن المرّ، بل كخادم حقيقي لله ابتهج بإرادة خالقه. وإذ صار فقيرًا بعدما كان صاحب ثروة، ومُعدمًا بعد أن كان غنيًا، وهزيلاً بعدما كان قويًا، ومؤدبًا ومرذولاً بعدما كان مشهورًا وصاحب شرف، في كل هذا احتفظ بثبات عقلة من غير أي اضطراب. وأخيرًا إذ تجرد من كل شيء جلس وسط الرماد وكان يحُك جسده بسبب ما أصابه، زافرًا بتنهدات حارة، ومع هذا لم يسقط في اليأس ولا جدف أو تذمر على خالقه.
أستطيع أيضًا أن أقول بأن يوسف كان أشولاً. ففي أفراحه كان عزيزًا جدًا عند والديه، محبًا لإخوته، مقبولاً لدى الله. وفى ضيقاته كان عفيفًا، مؤمناً بالله. في سجنه كان أكثر شفقة على المسجونين، متسامحًا مع المخطئين، صافحًا عن أعدائه (امرأة فوطيفار). وبالنسبة لإخوته الحاسدين له، فإنه بمقدار ما سقطوا تحت سلطانه إذ كان في إمكانه أن يقتلهم أثبت محبته لهم بل وسخاءه الحقيقي تجاههم.
إن هؤلاء الرجال وأمثالهم بحق يدعى كل منهم "أشولاً" إذ يقدرون أن يستخدموا كلا يديهم كأيد يمينية قائلين بحق: "بسلاح البرّ لليمين ولليسار. بمجدٍ وهوانٍ، بصيتٍ رديء وصيتٍ حسن إلخ." (2كو 6: 7، 8).
يتحدث سليمان في سفر نشيد الأناشيد عن اليد اليمنى واليد اليسرى في شخص العروس قائلاً: "شمالهُ تحت رأسي ويمينهُ تعانقني" (نش6:2). وبينما يظهر أن كليهما مفيد، إلا أنها تضع إحداهما تحت الرأس، لأنه ينبغي أن تخضع الضيقات لمراقبة القلب، فتصير نافعة لأنها تهذّبنا إلى حين، وتؤدبنا لأجل خلاصنا، وتهبنا الكمال في الصبر. أما اليمنى فتأمل أن تلتصق بها لكي ما تلاطفها، فتنال المعانقة المباركة التي للعريس، وفى النهاية تضمها إليه.
وهكذا يحسب كل منا أشولاً عندما لا يؤثر فينا الرخاء ولا العوز. فلا يغوينا الرخاء، ولا يدفع بنا نحو الإهمال الخطير، كذلك لا يجذبنا العوز إلى اليأس والشكوى (التذمر)، بل نقدم الشكر لله في كل شيء.
وقد أظهر الرجل الأشول، معلم الأمم، أنه هو نفسه كان هكذا بقوله: "فإني قد تعلَّمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيهِ. أعرف أن أتَّضع وأعرف أيضًا أن استفضل. في كل شيء وفى جميع الأشياءِ قد تدرَّبت أن أشبع وأن أجوع وأن استفضل وأن أنقص. أستطيع كل شيء في المسيح يسوع الذي يقوّيني" (في11:4-13).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/john-cassian/conferences-6-left-handed.html
تقصير الرابط:
tak.la/wnh2gx6