10- الصلاة الدائمة
بخصوص هذا التدبير (نظام الصلاة الدائمة)، إذا قارنته بتعليم الأطفال (الذين ليس لهم القدرة أن يتلقنوا الدروس الأولية الخاصة بالحروف الهجائية، لكنهم يتعرفون على شكلها، ويتدربون على رسمها قدر ما يستطيعون، حيث تقدم لهم نماذج منها على الشمع...) هكذا يلزمني أن أقدم لك شكل التأمل الروحي لتضعه نصب عينيك على الدوام... وتتدرب على التأمل فيه باستمرار لأجل نفعك... حتى تصعد إلى نظرة أعلى.
سنعرض عليك طريقة خاصة لبلوغ هذا التدبير الذي ترغب فيه، وتلك الصلاة التي يجدر بكل أحد أن ينفذها لأجل تقدمه الروحي في تذكر الله، متذكرًا هذا التدبير في قلبه بغير انقطاع، طاردًا كل أنواع الأفكار الأخرى. لأنه لا يقدر القلب أن يتمسك به ما لم يتحرر من كل اهتمامٍ خاص بالجسد.
لقد سُلمت إلينا هذه الطريقة بواسطة قليلين تسلّموها عن آباء شيوخ حاذقين... فلكي تحتفظ بتذكر الله الدائم ضع قدام عينيك هذه الصلاة الورعة: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني" (مز 1:70).
اُختيرت هذه الآية من الكتاب المقدس كله ليس جزافًا، إنما تحمل كل المشاعر التي يمكن أن توجد في الطبيعة البشرية، وتتفق مع كل الظروف والأخطار التي تحلّ بنا. فهي تحمل تضرعًا إلى الله من أجل كل الأخطار، وتحمل اعترافًا ورعًا مملوء انسحاقًا واهتمامًا يقظًا ومخافة دائمة.
إنها تحمل إحساس الإنسان بضعفه، مع ثقة في الاستجابة، وتؤكد بأن المعونة حاضرة وسريعة، لأن الإنسان إنما يدعو الله الحاضر معنا على الدوام لكي يعينه.
إنها تحمل تأجج حب ومحبة، وتحمل فهمًا بخصوص مؤامرات الأعداء (الشياطين) ومهالكهم. فمن يرى نفسه محوطًا بهم ليلاً ونهارًا يعترف بعجزه عن التحرر منهم بغير مساعدة معينة.
هذه الآية حصن منيع للذين يتعبون من هجمات الشياطين، ودرع حصين، فهي لا تسمح للذين يسقطون في اكتئاب وقلق فكري أو المتضايقين بالحزن أو المهمومين بالقنوط وكل أنواع الأفكار المشابهة، أن ييأسوا من وجود علاجٍ شافٍ، إذ تُعلن أن الله الذي نتضرع إليه ناظر إلى صراعنا على الدوام، وليس ببعيد عن سائليه.
إنها تنذرنا نحن الذين نصيبنا هو النجاح الروحي وبهجة القلب، فلا ننتفخ قط لسعادتنا، إذ تؤكد لنا أنه لا يمكننا أن نعيش بدون الله حافظنا...
هذه الآية هي معين، ونافعة لكل واحد منا مهما كانت أحواله، لأن الإنسان يحتاج في كل أموره إلى معونة. محتاج إلى مساعدة الله، ليس فقط في الأحزان والضيقات، بل وأيضًا في النجاح والأفراح، حتى يُنقذْ من الأولى ويستمر في الثانية. لأن الضعف البشري يعجز عن أن يحتمل كليهما بغير معونة الله.
فإذا ما ثارت فيّ شهوة النهم، وطلبت الطعام الذي ليس في البرية، وسبحت في رائحة الولائم الفاخرة، ووجدت نفسي منسحبًا بغير إرادتي، أسرع قائلاً: "يا الله التفت إلى معونتي. يا رب أسرع وأعني". وإذا ما طلبت الطعام في غير ميعاده، وحاولت في مرارة شديدة صادرة من القلب أن أحفظ حدودًا ملائمة ومنتظمة خاصة بالقوت الزمني، يلزمني أن أصرخ متنهدًا: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني". وإذا ما بدأ الخِوار يدب في أعضائي ليعوقني عن الاستمرار في قانون صيامي، ويثور جسدي محتجًا، ويجف جوفي، وتهدد طبيعتي بالإمساك المخيف، فلكي ما تنطفئ رغبات الجسد... أصرخ: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني".
عندما أجيء إلى العشاء في الساعة المناسبة حسب النظام الموضوع، واشمئز من الطعام وأمتنع عن أكل أي شيء لأجل الاحتياجات الضرورية لطبيعة الجسد، أصرخ متأوهًا: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني".
حينما يطير النوم من عيني وأقضي الليل تباعًا وأنا مسهدًا وقد دبّ فيّ الهزال من الأرق بفعل الشيطان، حارمًا أجفاني من الهدوء والراحة الليلية، عندئذ يجب عليّ أن أصلي متنهدًا: "يا الله التفت إلى معونتي. يا رب أسرع وأعني"
عندما أكون في جهادي ضد الخطية، وقد التهب جسدي بالشهوة، وسرى في أعضائي إحساس باللذة، جاذبة إيّاي إلى مراضاتها أثناء نومي، فلكي لا تحرق النار الثائرة من الخارج زهور العفة الذكية الرائحة يجدر بي أن أصرخ: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني".
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
عندما أشعر بأن دافع الشهوة قد نُزع عني، ولهيب الخطية في أعضائي قد مات، فلكي ما تبقى هذه الحالة الحسنة المكتسبة أو بالأحرى لكي ما تستمر هذه النعمة الإلهية يجب علىّ أن أقول بغيرة: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني".
حينما تسري فيّ لدغات الغضب والطمع والكآبة، وأجد نفسي قد فقدت سلامي المحبب إليّ، فلكي لا يحملني الغضب إلى مرارة الحقد، يلزمني أن أعلن بأنات عميقة: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني".
وإذا ما تآمرت عليَّ نفسي ومجدت ذاتي وطلبت المديح والمجد الباطل والكبرياء، وتملقني ذهني بأفكار مراوغة بأن الآخرين باردون ومهملون، فلكي لا تتسلط عليّ هذه الأفكار التي يقترحها العدو، يلزمني أن أصلي بكل انسحاق قلب قائلاً: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني".
وإذا ما أشرقت عليّ نعمة الاتضاع والبساطة، وتتحرر نفسي من نفخة الكبرياء .. فلكي "لا تأْتِني رِجلُ الكبرياء، ويد الأشرار لا تزحزحني" (مز11:36)، وحتى لا أهلك هلاكًا خطيرًا بالزهو في نجاحي، يجدر بي الصراخ بكل طاقتي: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني".
وعندما تحرقني أفكار طائشة بلا عدد، ويتوه قلبي، وتتشتت أفكاري، ولا أستطيع ضبطها، ولا أقدر أن أجمع نفسي للصلاة بغير اضطراب أو تصورات باطلة، أو أمتنع عن تذكر الأحاديث والأحداث أثناء الصلاة، وأشعر بأن نفسي قد أُثقلت بالجفاف والعقم، ولا أستطيع أن أنجب أي فكر روحي، فلكي ما يوهب لي التحرر من حال فكري البائس هذا... يجب عليّ أن أصرخ: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني".
مرة أخرى إذا شعرت بفاعلية الروح القدس، وصار لنفسي هدف وثبات في الفكر، وحذاقة قلب، مع فرح غير موصوف، وتغيير في الذهن وفي غزارة المشاعر الروحية، أدركت بإنارة ربانية مفاجئة تعلن لي أفكارًا مقدسة وفيرة كانت مخفاة عني، ولكي ما يوهب لي أن استمر على هذه الحال طويلاً يلزمني أن ألح على الدوام قائلاً: "يا الله التفت إلى معونتي، يارب أسرع وأعني".
وإذا ما داهمني رعب الليل... فاضطربت، وأفزعتني خيالات الأرواح النجسة حتى تطغيني بخوفها وتفقدني رجائي وخلاصي، فإنني أطير إلى الملجأ الآمن لهذه الآية وأصرخ بكل قوتي: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني".
مرة أخرى حينما أكون منتعشًا بتعزيات الرب، ومبتهجًا بمجيئه، شاعرًا كما لو كنت محاطًا بربوات الملائكة غير المحصيّين، وأجد في نفسي شجاعة وغيرة لكي أقتحم حرب (الشياطين) وأدخل المعركة مع الذين كنت منذ قليل أخافهم أكثر من الموت، وكنت أرتجف ذهنيًا وبدنيًا لمجرد الاقتراب منهم، ولكي ما تستمر معي هذه الجرأة بنعمة الرب أصرخ بكل طاقاتي: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني".
إذن يجب علينا أن نصلي بهذه الصلاة بغير انقطاع، سواء في شدة بلوانا حتى تزول، أو في نصرتنا لكي تدوم علينا ونحفظ من سقطة الكبرياء. ليكن فكر هذه الآية موجهًا دفة صدوركم بلا انقطاع. أيَّا كان العمل الذي في أيدينا، أو المهمة الملقاة علينا، وفي أي موضع تسير إليه، لا تكف عن التغني به. فكر فيها وأنت على سريرك لتنام، وفي أثناء الأكل، وفي كل الأعمال الضرورية.
ليكن هذا الفكر في قلبك لينقذك ويحفظك من أذية هجمات الشياطين، بل ويقيمك من كل الأخطاء والوصمات الأرضية، ويقودك إلى التأمل السماوي غير المنظور، ويحملك إلى حرارة الصلاة القوية التي لا يختبرها إلا القليلون.
ليته يأتيك النوم وأنت مشغول بها، فتنطبع في قلبك من كثرة استخدامها، حتى أنه من كثرة تكرارها ترددها حتى في أثناء نعاسك. وعندما تستيقظ، لتكن هي أول ما تفكر فيه، فتسبق جميع أفكارك. وعندما تقوم من سريرك تدعوك للركوع، وتشع في عملك، وترافقك طوال اليوم.
يلزمك كما أوصى المُشرع (تث7،6) أن تفكر فيها في بيتك وفي رحيلك، في نومك ويقظتك. تكتبها على مدخل فمك وبابه، تنقشها على حوائط منزلك وفي داخل قلبك، حتى متى ركعت للصلاة تتغنى بها، وإذ تقوم بالأعمال الضرورية في الحياة تكون صلاتك الدائمة أينما كنت.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/john-cassian/conferences-10-continious-prayer.html
تقصير الرابط:
tak.la/stg84c5