محتويات |
7- الروح القدس والتعزيات الإلهية:
قبيل الصليب أعلن السيد المسيح لتلاميذه أنه لا يتركهم يتامى (يو 14: 18)، وإنما يرسل لهم الروح القدس المعزي (يو 14: 16، 16: 7). وقد وصف سفر الأعمال الكنيسة الأولى وسط آلامها وأتعابها كيف كانت تنمو وتتكاثر مملوءة سلامًا داخليًا وتعزيات الروح: "وأما الكنائس في جميع اليهودية والجليل والسامرة، فكان لها سلام، وكانت تُبنَي وتسير في خوف الرب وبتعزية الروح القدس كانت تتكاثر" (أع 9: 31). هكذا كانت الكنيسة كجماعة مقدسة تجد في الروح القدس سرّ سلامها وتعزيتها وشبعها الروحي الحقيقي.
* يستحيل أن ينال أحد نعمة الله ما لم يكن له الروح القدس، الذي فيه كل عطايا الله [262].
* يسمى (الروح القدس) المعزي، لأنه يعزي ويفرح الذين في الشدائد [263].
الروح القدس في محبته اللانهائية للبشر يهب المؤمنين الشركة مع الثالوث القدوس، هذه الشركة تقوم على تمزيق الخطيئة التي تحجب بيننا وبين الله، وعوض ثمار الخطيئة ينعمون بثمار الروح. فكما اقتطف الإنسان من روح الظلمة ثمار الخطيئة، التي هي بغضة ومرارة واضطرابات وخصام وغضب وسخط وشر وجحود ونجاسة الخ. هكذا يقدم الروح القدس ثمره للمؤمن: "محبَّة فرح سلام طول أناةٍ لطف صلاح إيمان وداعة تعفُّف..." (غل 5: 22) هذه الثمار أساسية في حياة المؤمن المجاهد ليحيا بها ويشبع ويتعزّى أثناء عبوره الباب الضيق والطريق الكرب، وتنفيذه الوصايا الصعبة من صلب وإنكار ذات وعطاء واحتمال الخ. إنها ثمار داخلية يقدمها الروح القدس كغذاء مجّاني يسند النفس وينعشها خلال الطريق الوعر.
هذه التعزيات الإلهية يقدمها الروح القدس للمجاهدين العاملين، لكن لا ببرّ ذاتي، بل في اتكال وتسليم وانسحاق بين يدّي الروح الساكن فيهم والعامل بهم.
في وسط الطريق المملوء مضايقات خارجية يهبنا الروح "حبًا" لله والناس، يُقدم للنفوس المجاهدة ليجعل النير حلوًا وهيّنًا.
وفي وسط الطريق المملوء أحزانًا كثيرة، يهب الروح القدس "فرحًا" داخليًا يسند النفس ويهبها روح الشكر.
وهكذا يقدم الروح حبًا وفرحًا وسلامًا... عطايا روحية داخلية مجانية تملأ حياة المكافحين قوة روحية للعمل لحساب السيد المسيح.
النفس التي خُلقت على صورة الثالوث القدوس لا تشبع إلا به ولا تفرح إلا بالوجود في أحضانه، لهذا فإن الروح القدس إذ يدخل بنا وسط آلام هذه الحياة إلى الشركة مع الله تفرح نفوسنا في الرب، ولا تستطيع أحداث الحياة أن تنزع فرحنا منا.
يوصينا الرسول بولس وهو في داخل السجن وسط آلام الجسد التي لا تطاق قائلًا: "أخيرًا يا إخوتي افرحوا في الربّ". (في 3: 1) ثم يعود فيؤكد: "افرحوا في الرب كل حينٍ وأقول أيضًا افرحوا" (في 4: 4). إنه يستحيل على الإنسان أن يفرح "كل حين"، لأنه مَنْ مِن الناس لا تمر به ضيقات وآلام وتجارب كثيرة؟! ولكن بولس المسجون يتكلم عن اختبار، إذ يكتب وهو مقيَّد اليدين، وتحت آلام جسدية كثيرة، لكنه يعيش في خبرة الفرح في الرب كل حين.
إن النفس التي تُدرك هذه الحقيقة أن فرحها لا يكمن في بركات أرضية، أو إشباع شهوات جسدية أو رغبات معنوية، ولا في ضحك أو تسلية زمنية، بل في الروح القدس نفسه، تفرح تحت كل الظروف. وقد شبّه الأب بيامون النفس المملوءة فرحًا (بالروح القدس) بالإناء الفخاري الذي به ماء يطفئ كل جمرة غضب تسقط فيه، بينما يشتعل وينكسر لو كان يحمل مادة قابلة للاشتعال.
* لقد دَعي الروح القدس الذي سيرسله بالمعزي، ملقبًا إياه هكذا بسبب عمله، لأنه ليس فقط يعطي راحة لمن يجدهم مستحقين، ويخلصهم من كل غمٍ واضطرابٍ في النفس، بل في نفس الوقت يمنحهم فرحًا أكيدًا لا ينحل. يسكن في قلوبهم فرح أبدي حيث يقطن الروح القدس.
من المعلوم يا إخوتي أن كلًا منا يطلب راحته وفرحه، إلا أنه لا يطلب ذلك كما يجب ولا حيثما يوجد. فالأمر يتوقف على تمييز الفرح الحقيقي من الفرح الكاذب، وبالعكس فإننا غالبًا ما نُخدع بخيالات الفرح الباطل والخير الكاذب.
*فالبخيل والمتجبر والشره والشهواني، كل منهم يطلب الفرح، إلا أن هذا يصنع فرحه في جمع غنى وافر، وذاك في شرف الرتب والكرامات، وهذا في المآكل والمشارب اللذيذة، وذاك في إشباع شهواته النجسة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ليس منهم من يطلب فرحه كما يجب ولا حيثما يوجد، من ثَمَّ لا يجده أحد منهم بالرغم من أن الكل يشتهونه.
كل ما في العالم لا يقدر أن يُشبع النفس ويُخوِّل لها فرحًا حقيقيًا، فلماذا إذًا تتعب أيها الإنسان الغبي، وتطوف باطلًا في أماكن كثيرة متوقعًا أن تجد خيرات تملأ بها نفسك وتُرضي بها جسدك؟! أحبب خيرًا واحدًا يحوي جميع الخيرات، ففيه وحده تجد الكفاية.
استرح إلى الخير الواحد العظيم العام، ففيه الكفاية عن كل شيء.
وأما أنتِ يا نفسي فباركي الرب الذي يُشبع بالخيرات عمرك (مز 103: 2، 5).
* من طلب فرحه في ذاته يجد حزنًا. فإن جعلت سرورك في أن تباشر هذه الوظيفة وتسكن في ذلك المكان وما يشبه ذلك، فإنه يمكن لرئيسك أن ينزع سرورك منك، وبالنتيجة لا تكون مسرورًا قط...
إن شئت أن يكون فرحك ثابتًا باقيًا، التصق بالله السرمدي، ذاك الذي لا يعتريه تغيير، بل يستمر ثابتًا على حال واحد إلى الأبد.
* حينما تمتلئ النفس من ثمر الروح، تتعرّى تمامًا من الكآبة والضيق والضجر، وتلبس الاتساع والسلام والفرح بالله، وتفتح في قلبها باب الحب لسائر الناس.
* مملكة طاهر النفس داخل قلبه، والشمس التي تشرق فيها هي نور الثالوث القدوس، وهواء نسيمها هو الروح القدس المعزي، والسكّان معه هم طبائع الأطهار الروحانيين، وحياتهم وفرحهم وبهجتهم هو المسيح ضياء الآب...
* من نظر في ذاته إلى ربنا، وامتزجت نفسه بنوره، يمتلئ قلبه بالفرح.
كما أن الأشجار إن لم تشرب من الماء لا يمكنها أن تنمو، هكذا النفس إن لم تقبل الفرح السماوي لا يمكنها أن تنمو وتصعد إلى العلاء. أما النفوس التي قبلت الروح والفرح السماوي فهي التي تستطيع الارتفاع إلى العلاء... فقد انكشفت لها أسرار ملكوت السماوات وهي بعد في هذا الجسد، ووجدت دالة قدام الله في كل شيء، وكملت لها جميع طلباتها.
** النفس دائما تتربى بهذا الفرح وتسعد به، وبه تصعد إلى السماء، فهي كالجسد لها غذاء روحي.
بالروح القدس يتمزق حجاب الآثام الذي عزلنا عن صدر الله الحنون، فنعود نتكئ عليه مطمئنين مملوءين من السلام الخفي الحقيقي. إننا بالروح القدس نسمع صوت الرب، قائلًا: "سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم..." (يو 14: 27)، فيملك سلامه في قلوبنا (كو 3: 15)، فنعيش في مصالحة دائمة مع الله والناس أيضًا.
_____
[262] De Spir. Sanc. 9.
[263] عظة 1:17.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/holy-spirit/solace.html
تقصير الرابط:
tak.la/q24v5vv