أخيرًا: العادة الجيدة والملل:
يجب الانتباه إلى أن تكرار العادة الجيدة دون فهم قد يؤدي إلى الملل والسآمة مما يدفع الإنسان إلى التحايُل عليها للتخلص منها، ويحدث هذا كثيرًا مع الطقس، فالطقس هو وضع الإيمان والعقيدة في قالب حركي، ولكل حركة طقسية بُعد روحي ولاهوتي، فإذا ما فقد العابِد هذا البُعد تحوَّلَت الليتورجية إلى طقس، مجرد ترتيب (كلمة طقس جاءت من اللفظة اليونانية τάξις تاكسيس وتعني ترتيب) وبذلك يفقد محتواه اللاهوتي وبالتالي حلاوته وتأثيره، ولذلك يقول الكتاب (رتلوا بفهم) ليس ذلك فقط بل إن الطقس يجب أن يكون متفقًا مع روح الكتاب المقدس وقد وبخ السيد المسيح الكتبة والفريسيين لأنهم أبطلوا وصية الله بسب عاداتهم وطقوسهم "وأنتم أيضا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم" (مت 3:15)... لأنكم تركتم وصيّة الله وتتمسكون بتقليد الناس... حسنًا رفضتم وصيَّة الله لتحفظوا تقليدكم... "مبطلين كلام الله بتقليدكم الذي سلمتموه" (مر 13،9،8:7).
إن العادة الجيدة تحتاج دومًا إلى تفّهم – تحتاج لاُن يكون الهدف منها واضحًا على الدوام، وفي كل مرة تمارس. ويعاتب مُعلمنا بولس الرسول اليهود المتنصرين، في رسالته إليهم، على ذلك قائلًا "غير تاركين اجتماعنا كما لقومُ عادة بل واعظين بعضنًا بعضًا وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يَقْرُبُ" (عب 25:10) (انظر نص السفر هنا في موقع الأنبا تكلا) ويبدو أن أولئك العبرانيين قد حافظوا على الشكل الخارجي فقط بينما راح المحتوى نفسه منهم.
وهكذا كثيرًا ما نحتفظ بالتركيب الخارجي للعبادة والعادة بينما يهرب منا الدافع الحقيقي خلفها. ومن هنا أيضًا يرى الكثير من الآباء والمرشدين أنة لا مانع -بين آن وآخر- أن يعاد صياغة التدبير الروحي للشخص حتى يتسنى له الإفلات من المسلك الناتج عن عادة فقدت مضمونها.
بل أنه من الضروري أن تتغير العادة ليس بسبب الملل فحسب وإنما من أجل أن الشيطان يرصد عادات الإنسان وسلوكياته الثابتة ومنها يتعرف على تدبيره وأفكاره وشخصيته، روى لي أحد الرهبان في دير ما أنه اعتاد لفترة أن يغسل يديه عقب عودته من العمل ومن ثمَ يدخل إلى مخدعه ليبدأ في الصلاة من الأجبية، ولكنه في كل مرة حالما يبدأ الصلاة يظهر ما يعوقه عن إتمامها، مثل مناداة آخر له من الخارج، وشعوره بصداع شديد وتذكر ما قد نسيه، وهنا انتبه أنه ولربما قد رصد الشيطان تلك العادة فربط فيما بين غسل الأيدي والصلاة، ومن هنا راح يحاربه في كل مرة ليمنعه من الصلاة، ولكن الأب تدارك ذلك، فقد بدأ يصلي قبل غسل اليدين!! ودفعة أخرى يغسل يديه دون أن يصلي ويغير مواعيده عمومًا، حتى نجا من مكيدة إبليس وحرمه من النيل منه.
يقول الأب نيلوس الناسك (ماذا يعني القانون الكنسي الذي يأمر أي شخص عند دخوله إلى الكنيسة ألاَ يعود -بعد الانتهاء من الصلاة- مِن نفس الباب الذي دخل منه، بل يخرج مباشرة من الباب المقابل بلا تغيير الاتجاه(24)، إن ذلك يعني أن نستمر في الطريق المؤدية إلى القداسة ولا نسمح لأي شكوك بأن تثنينا بالعادات القديمة فيما قد تركنا خلفنا، لا يُمكنا التقدم ونحن مُنجذبين إلى الاتجاه الخلفي نحو خطايانا القديمة، من المؤسف أن تُقيّدنا قوة العادة ولا تسمح لنا بالنهوض إلى المكانة السامية التي كانت لنا، لأن العادة تُغيّر السلوك وهذا بدوره يتغير إلى ما قد يُسَمَّى بـ"الطبيعة الثانية"، ومن الصعب تغيير الطبيعة الثانية. والتحولّ عنها ومع أنها يمكن أن تُذعن قليلًا للضغط إلاَ أنها تعود سريعًا وتفرض نفسها، أنها يمكن أن تتزعزع وتُجبر على إفساح الطريق ولكنها لا تتغير بصفة دائمة، إلاَ بجهد طويل، علينا أن نُتابع خطواتنا متخلين عن عاداتنا الرذيلة ونعود إلى وضعنا الأول عندما أقبلنا على الحياة مع الله(25).
وهكذا وفي اختصار شديد فإن العادات تنشأ من التكرار المنظم، سواء في الصغر وفي غفلة أثناء الكبر، والأمر يحتاج إلى يقظة مستمرة، فإن بعض العادات الضارة قد تهدد خلاص النفس، بينما تسهم العادات الجيّدة في النمو الروحي.
_____
(24) تقليد قديم.
(25) الفيلوكاليا - الجزء الأول / ص 236، 237.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/3n3cfxc