الباب الثالث: الروح القدس وتثبيت المؤمنين
:
1- الحاجة إلى الروح القدسبالبشارة بالتجسد الإلهي دخلت البشرية عصرًا جديدًا هو "العصر المسيّاني"، أو العصر الذهبي لخلاص العالم كله، حيث نُزع البرقع عن موسى، وانسحبت الرموز لتقدم المرموز إليه، وتحولت الظلال إلى الحق، وتحققت النبوات، وجاء المسيح مشتهى الأمم، كله حلاوة وحلقه مشتهيات.. أحبه المؤمنون، وحملوا اسمه، فصاروا "مسيحيين". أحب المسيح العالم كله وبذل نفسه من أجلهم، وأحب المؤمنون المسيح واشتهوا الموت من أجله كل يوم!
والعجيب أن مسيحنا هذا الذي أحبنا حتى الموت لكي يخلصنا ويدخل بنا إلى الاتحاد معه، يقدم لنا في ليلة آلامه معزيًا آخر، إذ يقول:
"وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزّيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحقّ الذي لا يستطيع العالم أن يقبلهُ لأنهُ لا يراهُ ولا يعرفهُ. وأمَّا أنتم فتعرفونهُ، لأنهُ ماكث معكم ويكون فيكم. لا أترككم يتامى...
وأمَّا المعزّي الروح القدس الذي سيرسلهُ الآب باسمي فهو يعلِّمكم كلَّ شيءٍ ويذكّركم بكلّ ما قلتهُ لكم". (يو 14: 16-18، 26)
"ومتى جاءَ المعزّي الذي سأُرسِلهُ أنا إليكم من الآب روح الحقّ الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي" (يو 15: 26).
"لكني أقول لكم الحقَّ أنه خير لكم أن أنطلق. لأنهُ إن لم أنطلق لا يأْتيكم المعزّي. ولكن لن ذهبت أرسلهُ إليكم.
ومتى جاءَ ذاك يبكّت العالم على خطيَّةٍ وعلى برٍّ وعلى دينونةٍ". (يو 16: 7-8).
"وأما متى جاءَ ذاك روح الحقّ فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنهُ لا يتكلم من نفسهِ، بل كلُّ ما يسمع يتكلَّم بهِ ويخبركم بأمورٍ آتية. ذاك يمجّدني، لأنهُ يأخذ ممَّا لي ويخبركم" (يو 16: 13-14).
يليق بنا أن نتوقف طويلًا عند الكلمات الوداعية التي تحدث بها السيد معنا ليلة آلامه، وكأنه يسلم كنيسته كل الميراث، أنه يقدم لها شخص الروح القدس يمكث معها ويكون فيها يعزيها ويعلمها ويرشدها إلى كل الحق، ويبكت كل ضعف يحل بأولادها ويمجدها بما للمسيح لتحمل مجده فيها.
كثيرون يتحدثون عن الصداقة الإلهية التي صارت لنا في المسيح يسوع، بكونه قد صار لنا الأخ البكر والعريس والصديق كما هو الرب والمخلص والملك... نحبه ونصادقه، نسأله ونتضرع إليه ونعاتبه، نشعر بالقرب الشديد إليه لأنه حمل طبيعتنا وصار كواحدٍ منا، أما عن الروح القدس إذ يظهر على شكل حمامة كما في عماد السيد المسيح، أو على شكل ألسنة نارية خلال هبوب ريح عاصف كما في يوم العنصرة، دُعي قوة الله وحكمته وروح الحب الإلهي. لهذا لا ينشغل البعض بالدخول معه في علاقات شخصية، بل ينظرون إليه مجرد سمة إلهية خفية. لقد أراد السيد المسيح وأكدت الكنيسة التزامنا بقبول الروح القدس لندخل معه في صداقة كشخص نعيش به ومعه: يتحدث معنا ونحن نحدثه (مر 13: 11)، نسمع صوته (رؤ 2: 7)، يعلن لنا ويرشدنا (أع 13: 2)، يقوم بالشهادة معنا (أع 5: 32)، ويشهد لحسابنا (رو 8: 6)، يقدم لنا المعرفة (1 كو 2: 10-11) يهبنا الحياة (يو 6: 36) ويحزن أيضًا (أف 4: 30)، ويدبر أمور الخدمة ويقيم الخدام (أع 20: 28).
فالروح القدس المعزي الذي أرسله لنا الابن من عند الآب ليس مجرد سمة إلهية، لكنه أقنوم إلهي نصادقه ونحبه ونعيش به ومعه، ونسأله أيضًا كما تفعل الكنيسة في تسبحة الساعة الثالثة يوميًا: "أيها الملك السماوي المعزي، روح الحق، الحاضر في كل مكان، والمالئ الكل، كنز الصالحات ومعطي الحياة، هلم تفضل وحل فينا، وطهرنا من كل دنس أيها الصالح وخلص نفوسنا".
إن كانت الكنيسة قد تعلقت بالسيد المسيح كعريسها الذي أحبها وأسلم نفسه لأجلها، فإنها تعلقت بروحه القدوس فتذكر حلوله عليها يوميًا في تسبحة الساعة الثالثة، واهتمت بعيد البنطقستي الذي هو عيد حلول الروح القدس على التلاميذ بكونه عيد ميلادها بالروح القدس، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. إنها تدرك تمامًا أنها تحت قيادة الروح القدس الذي يعمل فيها، في ليتورجياتها كما في كرازتها، وفي تبكيت النفوس كما في تبريرها وتقديسها، حتى يدخل بها إلى ملء قامة المسيح.
إننا نلتقي مع الروح القدس في مياه المعمودية كمجدد لنفوسنا، وواهبنا الغفران من الخطايا، والولادة الجديدة والعضوية في جسد السيد المسيح السري. ثم نعود فنقبله في داخلنا خلال سرّ التثبيت، نقبله كسرّ حياتنا، يلازمنا كل أيام غربتنا، لكي ينمّي فينا الإنسان الجديد ويقويه ويسنده، كما يرشدنا ويعزينا ويقدسنا، إلى أن يدخل بنا إلى الأمجاد الإلهية في أروع صورة، باتحادنا المستمر مع المسيح ودخولنا إلى حضن الآب.
في هذا يقول القديس إكليمنضس السكندري: [إن المربي يخلق الإنسان من تراب، ويجدده بالماء، وينميه بالروح [218].]
الروح القدس هو الروح الناري الذي يُلهب الإنسان الجديد بالنار الإلهية، ليجعله مؤهلًا على الدوام لاتحاد أعمق مع الله -النار الآكلة (تث 4: 24، 9: 3، عب 12: 29)- في المسيح يسوع، فيشترك مع الشاروبيم الملتهبين نارًا في تسابيحهم.
وإنني أرجو في المسيح يسوع أن أقدم فكرة مختصرة وبسيطة عن عمل هذا الروح الناري في حياة المؤمنين.
_____
[218] المؤلف: الحب الإلهي، ص 866.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/holy-spirit/need.html
تقصير الرابط:
tak.la/dag92yq