بجانب ما لضغط الأصدقاء من أثر على المراهقين للانشغال بالمظاهر الخارجية عوض النمو الداخلي للنفس، فإن رغبة المراهق الداخلية أن يحمل مظهر الاعتماد على نفسه واستقلال شخصيته عن والديه لها أثرها أيضًا. ليس شيء أقسى على نفسية المراهق (أو المراهقة) من أن يدعى ابن أمه أو ابن أبيه. فلا عجب إن انشغل المراهق لا بنمو شخصيته في الداخل بل بأمور خارجية تبدو في نظر البالغين أحيانًا تافهة. فالشاب يرى في سؤال أبيه عن سبب تأخيره في الوصول إلى المنزل أو تأخره في الدراسة أو التعرف على أصدقائه أو تدخل الأم في اختيار موديل لملابس ابنتها أو تصفيف شعرها الخ... إهانة كبرى يمّس رجولة الشاب أو أنوثة الشابة، ويعتبر المراهقون مثل هذه التصرفات مثابة تحطيم لشخصياتهم.
قدم الدكتور دوبسون مثلين واقعيين في حياته الخاصة. الأول حين بدأ يتراخى في دراسته ولم يركز مع المدرسين حتى نزل مستواه، جلست معه والدته وأخبرته أنها لن تعاقبه بحرمانه من الخروج إلى بعض الرحلات الترفيهية أو من أخذه مصروفه الخاص الخ... إنما كل ما تعمله أنها ترافقه في المدرسة لتراقب تصرفاته، إن لم يَعُد إلى تفوقه الدراسي. لقد حسب هذا كارثة، أو كما دعاها "انتحرًا اجتماعيًا"، خلاله يفقد شخصيته أمام التلاميذ زملائه، لذا قرر فورًا أن يهتم بدراسته بطريقة أدهشت المدرسين والزملاء دون معرفتهم للسبب الحقيقي. أما المثل الثاني فهو أن والده حضر حفل نجاحه فجاء يصوره فيلمًا سينمائيًا (movie) وسط زملائه. لقد حسب ذلك إهانة إذ لا يقبل أن يكون الطفل "ابن أبيه" الذي يريد والده أن يلتقط له صورًا.
هذه المشاعر وأمثالها أمر طبيعي في حياة المراهقين، وهي علامة صحية على الرغبة في التمتع بالنضوج والاستقلال إلى حد ما. لكن الخطورة أن تقف الرغبة عند المظاهر الاجتماعية الخارجية دون الدخول إلى أعماق النفس للتمتع بنمو الشخصية.
اكتشاف الإنسان لأعماقه الداخلية بروح الله الساكن فيه، وإدراكه لمركزه الجديد كابن لله، وتعرفه على خطة الله من جهته يهبه اعتزازًا بكيانه "core self" وليس بالوقوف عند المظاهر الخارجية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. يدرك المراهق أن نمو شخصيته لا يقف هند جمال جسده أو قوته الجسمانية، أو تفوقه الدراسي أو غناه أو ملاطفته للغير خاصة للجنس الآخر، إنما يتحقق بشبع نفسه وتعرفه على حقيقة أعماقه وفاعليته في حياة الجماعة باتساع قلبه للكل. من يهتم بالمظهر الخارجي يبقى دائمًا في عوز وفراغ يستجدي عاطفة الغير أو مديحهم أو عطاءهم المادي، أما من يهتم بالداخل فيملأ فراغه الداخلي بالله نفسه مالئ الكل، فيفيض على الغير من ينابيع الحب الداخلي، إذ يتحقق فيه قول السيد المسيح: "من آمن بي... تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو38:7).
المراهق الذي ينعم بنمو داخلي يتفهم كلمات المرتل: "مجد ابنة الملك من الداخل" (مز13:45)، عندئذ يدرك مع الرسول بولس سمو غاية الله منه، فيقول: "اختارنا للتبني بيسوع المسيح نفسه حسب مسرة مشيئته" (أف4:1، 6). هكذا يشعر المراهق أنه موضع سرور الآب!
أدرك إرميا وهو صبي دوره في الحياة، الذي تقبَّله من يدي الله نفسه، إذ قيل له: "قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيًا للشعوب... لا تقل إني ولد..... لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب" (إر5:1-8). هكذا تسلّم النبي رسالته وهو صغير السن ليمارس ما لم يستطيع الرجال القيام به. أعطي لحياته طعمًا خاصًا وعذوبة بالرغم مما واجهه من متاعب في الطريق. لقد تحمل المسئولية بكل مصاعبها فنمت شخصيته بتحقيق هدف سامٍ تقبله من يدي الله نفسه.
هذه دعوة موجهة لكل إنسان خاصة في مرحلة المراهقة - أن يدخل إلى أعماقه، ويكتشف أمجاد الله فيه، ويدرك رسالته، ومساندة النعمة الإلهية لتحقيقها، فيقول باعتزاز: "أنا ما أنا ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة" (1كو10:15).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/grow/understand.html
تقصير الرابط:
tak.la/354txyr