خلق الله الإنسان على صورته كأكمل خليقة توجد على الأرض, ولم يكن في قصد الله أن يتركه في الفردوس وحده، إنما أراد أن يحتضنه كمحبوبة الخاص، واهبًا إياه الاتحاد معه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وقد اعتاد الله أن يدخل في حوار مع آدم وحواء محبوبيه، إذ قيل: "وسمع صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة" (تك 8:3). كما دخل الله في حوار مع أب الآباء إبراهيم ليعلن له عن قصده الإلهي، قائلًا: "لا أخفي عن إبراهيم ما آنا فاعله؟" (تك 17:18).
يعلن الله غير المدرك عن ذاته وعن طبيعته وأسراره وأرادته لأحبائه الذين يشتاق أن يكون على اتصال بهم.
يتحدث الله مع البشرية خلال خليقته، وكما يقول القديس بولس: [لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته، حتى انهم بلا عذر[(رو20:1). ويقول داود النبي: [السموات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه[(مز1:19) وكتب البابا أثناسيوس الرسولي: [أعطى الله بكلمته (اللوغوس) المسكونة أن تكون، وذلك لكي يتمكن أن يتعرف عليه البشر من خلال أعماله، هذا الذي بطبيعته غير منظور، لأن الفنان وإن لم ير يعرف من أعماله.]
إذ رفض البشر الاستماع إلى صوت الناموس الطبيعي الذي يعلن عن الله كخالق ومحب للبشر، قدم الله الشريعة المكتوبة خلال موسى. كما أرسل أنبياءه ليعدوا الطريق أمام )الكلمة) نفسه، ابن الله المتجسد الذي جاء أعلن لنا عن الأسرار الإلهية. يقول الرسول بولس: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب1:1، 2).
كتب روبرت م.جرانيت: [يتفق كل كتاب العهد الجديد على وجه الإطلاق أن الله يعرف خلال إعلانه الذاتي عن نفسه، هذا الإعلان الذاتي هو استعلان المسيح. ولمزيد من التأكيد فإن بولس في رومية (19:1) إلخ. لم يتحدث صراحة عن هذا الإعلان، لكنه أشار إلى مجد الله الذي لا يزول. ويمكننا مقارنة هذه الآيات بما جاء في (2كو6:4): "لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمته هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح". فالخلق والفداء والاستعلان أمور متلاحمة معًا في فكر بولس. ففي رومية (19:1) إلخ. لم يشر صراحة إلى المسيح، لأن مثل هذه الأمور لم تكن موضوع جدله. ونخلص من هذا انه بالنسبة للاهوت الكنيسة الأولى كل العبادات الخاصة بالكونيات (الخلقة) مرتبطة على وجه الإطلاق بالعقيدة الخاصة بالمسيح. فمعرفة الإنسان لله التي يستنبطها من الخليقة معرفة غير كافية، وخارج إعلان الله الذاتي في المسيح تقود إلى الوثنية. بمعنى أخر، ليست هناك معرفة حقيقية عن الله خارج الإعلان (الإلهي)، ولا معرفة عنه خارج النعمة وخارج الإيمان. "لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة" (1 كو 21:1).
كتب العلامة أوريجينوس: [كل الذين يؤمنون ويثقون أن "النعمة والحق ليسوع المسيح صارا" (يو17:1). والذين يعرفون المسيح أنه هو الحق، كما يعلن عن نفسه: "أنا هو الحق" (يو6:14)، يحصلون على المعرفة التي تحث البشر على حياة صالحة وسعيدة، ليس من نبع آخر (للمعرفة) غير كلمات المسيح وتعاليمه نفسها. لسنا نعني بكلمات المسيح فقط تلك التي نطق بها عندما صار إنسانًا والتحف جسدًا، لأنه قبل ذلك أيضًا كان المسيح هو كلمة الله معلنًا في موسى والأنبياء.[
ويقول القديس إكليمنضس الاسكندري: [اقبل المسيح، اقبل البصيرة، اقبل نورك، لكي تعرف الله والإنسان حسنًا.
"حلوً هو الكلمة الذي يهبنا النور، أنه [أثمن من الذهب والحجارة الكريمة، وأشهى من العسل وقطر السهاد" (مز 10:19).
[كل لقب من ألقابه لا يعبر بمفرده عنه، لكنها كلها معًا تشير إلى قدرة القدير]...
يتبقى لك بعد ذلك أن تدرك غير المدرك، وذلك بنعمته الإلهية، بواسطة الكلمة وحده الصادر عنه.
ويقول العلامة أوريجينوس: [مخلصنا هو صورة الله غير المنظور، إذا قورن بالأب نفسه فهو الحق؛ وإن قورن بنا نحن الذين أُعلن لنا عن الآب فهو الصورة التي بها نأتي إلى معرفة الآب، ذاك الذي لا يعرفه أحد كقول الابن: "إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له".
الآن، وقد قدم الله لنا من جانبه كل الإمكانيات لكي نعرفه، بإعلانه عن ذاته صرنا نحن من جانبنا ملتزمين أن نتمتع بهذه المعرفة الإلهية، لا بالدراسة والبحث وحدهما وإنما أيضًا بتنقية نفوسنا وقلوبنا، أي بتنقية بصيرتنا الداخلية.
يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [فلأجل هذه المعرفة والفهم الدقيق لسنا في حاجة إلى أي شيء آخر سوى نفوسنا. ليس لأن الله فوق الكل، الطريق إليه هو خارج عنّا وإنما هو في داخلنا؛ وفي قدرتنا أن نجده من أنفسنا. وذلك كما فكر موسى عندما قال: "بل الكلمة "كلمة الإيمان" قريبة منك جدًا، وفي فمك وفي قلبك" (تث14:30).
وهو نفس ما أعلنه المخلص مؤكدًا إياه بقوله: "لأن ها ملكوت الله داخلكم" (لو21:17). وإذ يكون لنا الإيمان وملكوت الله داخلنا يمكننا أن نعاين بسرعة وندرك ملك الكون وكلمة الآب المخلص.
عندما تتحرر (المعرفة) من كل رجاسات الخطية التي تغطيها، وتحتفظ فقط بمثال الصورة "المسيح" في نقاوتها تصير مضيئة تمامًا وترى النفس صورة الآب أي الكلمة، كما في مرآة.
كتب جوزيف ماكليلان: [فكما يعرف المثل بمثله حسب رأى الإسكندريين. (يقول القديس إكليمنضس: [أن الطريق اللامتغير هو عدم التغير نفسه.]
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/god/god.html
تقصير الرابط:
tak.la/nfh2a67