محتويات
من أهم الشخصيّات الكنسيّة في ولاية آسيا الصغرى في النصف الأول من القرن الثاني [247]، استحق لقب "معلّم آسيا، وأب المسيحيّين، ومحطّم الآلهة [248]".
كما نرى في رسالته ووقائع استشهاده هو إنسان وقور، ارتعب الجند من هيبته ووداعته وبشاشته عندما أرادوا القبض عليه، لم يخف عذابات الموت، وكان قلبه متّسعا بالحب نحو الغير يصلي لأجلهم في لحظات استشهاده.
لا نعرف شيئًا عن نشأته، إنّما حوكم حوالي سنة 155م وكان عمره حوالي 86 عامًا، لذا فقد وًلد حوالي سنة 69م، وتعمد في صباه.
يروي عنه كلارك C. P. S. Clarke أن سيّدة تقيّة تدعى كالستو Callisto اشترته بناءً على رؤيا، وأودعته منزلها، وعمدنا نمى جعلته مديرًا لممتلكاتّها. سافرت لأمرٍ ما وسلمت مخازنها له، فالتف حوله الأيتام والأرامل والفقراء فكان يعطيّهم بسخاء. وإذ رجعت السيّدة أخبرها العبد زميله بما حدث، لكنا إذ فتحت مخازنها وجدتها مملوءة كما كانت. أمرت السيّدة بعقاب العبد الزميل لكن بوليكاربوس St. Polycarp of Smyrna تشفع فيه وأخبرها بحقيقة الأمر فدهشت كالستو من عمل الله، وكتبت لبوليكاربوس وصيّتها أن يرث كل ما تملكه بعد وفاتّها، وأما هو فلم يشغله هذا الأمر.
يرى البعض أن بوكوليس Bucolus أسقف سميرنا سامه شماسًا، فشهد للمخلّص بالكلام كما بحياتهم، وكان يواجه الأمم واليهود والهراطقة، فسامه كاهنًا وهو صغير السن، وقد قال عنه الأسقف أنّه مستحق أن يكون مشيرًا ومشاركًا له في التعليم.
ويرى آخرون أنّه تتلمذ على يديّ القديس يوحنا الحبيب، وقد تعرّف على عدد ممّن عيَّنهم الرب، وربّما قام القدّيس يوحنا نفسه بسيامته أسقفًا على سميرنا (أزمير).
قال عنه تلميذه القديس إيريناؤس: [وأما بوليكاربوس ليس فقط قد تعلَّم بواسطة الرسل، وتحدّث مع كثيرين ممّن شاهدوا المسيح، بل وأيضًا تعلَّم بواسطة الرسل في آسيا، وأُقيم أسقفًا في سميرنا، هذا الذي رأيته في صغري [249].]
يقول العلامة ترتليان ان القديس يوحنا الحبيب هو الذي أقامه أسقفًا، وذلك قبل نفيه إلى جزيرة بطمس.
قيل أنّه ملاك كنيسة سميرنا الله أشار إليه في سفر الرؤيا (رؤ2: 8)، وهو الوحيد من بين الأساقفة السبعة الذي وشده بارًا، غنيًا في الإيمان، فقيرًا في ماديّاتهم، مقاومًا للمجدّفين، ينتظر دخوله في ضيق.
قال عنه القديس إيريناؤس: [أنّه إلى الآن لم يزل ثابتًا في مخيلتي نوع الاحتشام والرصانة الذي كان يتّصف به القدّيس بوليكاربوس مع احترام هيئته ووقار طلعته وقداسة سيرته، وتلك الإرشادات الإلهيّة التي كان يعلّم بها رعيّته. وبأبلغ من ذلك، كأني أسمع ألفاظه التي كان ينطق بها عن الأحاديث التي تمّت بينه وبين القدّيس يوحنا الإنجيلي وغيره من القديسين الذين شاهدوا يسوع المسيح على الأرض، وتردّدوا معه، وعن الحقائق التي تسلّمها وتعلمها منهم.]
سيم أسقفًا وهو في حوالي الثلاثين من عمره.
ارتبط اسم القدّيس بوليكاربوس بالقدّيس أغناطيوس، فقد توقّف الأخير وهو في طريقه إلى روما للاستشهاد في سميرنا، استقبله أسقف سميرنا بتكريم لائق به لمعلّم عظيم ومعترف في طريقه إلى الاستشهاد، وقد لحقه بعد حوالي 40 عامًا مقدّما حياتهم ذبيحة حب بالاستشهاد.
اهتم القدّيس بوليكاربوس برسائل القدّيس أغناطيوس فجمعها وأرفقها بخطابٍ من عنديّاته.
عندما بلغ القدّيس أغناطيوس ترواس بعث برسالة إلى القدّيس بوليكاربوس تكشف عن شخصيّة الأخير:
[أرحب بفرح بمشاعرك وأفكارك الثابتة في الله كصخرة لا تتزعزع، لذلك مجَّدتُ الرب بلا حدود لأنّه أهَّلني لرؤية وجّهك الذي بلا عيب، وأرجو أن أتمتّع به في الله [250].]
بالفعل واجه القدّيس الاستشهاد كصخرة لا تتزعزع!
قاوم القدّيس بوليكاربوس الهراطقة، خاصة مرقيّون، ويشهد عنه القدّيس إيرناؤس أنّه ردَّ كثيرين ممّن انحرفوا وراء الهراطقة (أتباع فالنتينوس وأتباع مرقيّون) إلى الكنيسة الكاثوليكيّة (الجامعة) [251].
التقى القدّيس بوليكاربوس بمرقيّون، فسأله الأخير: "أتعرّفنا؟"، أجابه: "أعرفك، إنك بكر الشيطان".
ذهب مرقيّون إلى روما سنة 140م متخفيًا وبدأ ينشر بدعته، والتف حوله عدد من المسيحيّين، فطردته الكنيسة، وفي سنة 154م إذ كان القدّيس بوليكاربوس هناك ردّ كثيرين من أتباع مرقيّون [252]. ندم مرقيّون على ما فعله وارتضى الخضوع للكنيسة لكنّه مات قبل أن تتم عودته.
تقدّم لنا رسالة كنيسة سميرنا (عام 156م) إلى المسيحيّين في فيلوميليّون Philomelion بفريجيا العظمى تفصيلًا عن استشهاد القدّيس بوليكاربوس الذي تم بعد فترة قصيرة من عودته من روما. وتُعتبر هذه الرسالة أقدّم وثيقة عن استشهاد شخص وأول عمل من "أعمال الشهداء" acta martyrum وإن كانت لا تُصنف ضمن أعمال الشهداء، وإنّما ضمن الرسائل. يوقع على الوثيقة شخص يدعى مرقيّون، كتبها بعد استشهاد القدّيس بفترة وجيزة [253]. تكشف لنا الوثيقة عن موقف المؤمن من الاستشهاد والشهداء.
أضيف إلى هذه الوثيقة ملاحظات كُتبت في وقت متأخر، تقدّم لنا انطباعًا رائعًا عن سموّ شخصيّة بوليكاربوس.
وقد جاءت رواية استشهاده في اختصارٍ هكذا [254]:
إذ شرع مرقس أورليوس في اضطهاد المسيحيّين صب وإلى آسيا جامات غضبه عليهم، واحتمل مسيحيّو سميرنا الكثير. قرر الوثنيّون القبض على الأسقف، وتحت ضغط الشعب اضطر إلى الاختفاء... أخيرًا عرفوا الموضع، وجاء الجند يقبضون عليه.
طلب من الجند أن يمهلوه ساعة واحدة ليصلّي. وقد تعجبوا من هيبته ووداعته وبشاشته وعذوبة حديثه، حتى قال أحدهم: "لماذا هذا الاجتهاد البليغ في طلب موت هذا الشيخ الوقور؟"
حينما طلب من الوالي ستاثيوس كوادراتوس Statius Quadratus أن يحلف بحياة قيصر ويلعن المسيح فيطلقه أجابه: [لقد مضت ستّة وثمانون عامًا أخدم فيها المسيح، وشرًا لم يفعل معي قط، بل اقتبل منه كل يوم نعمًا جديدة، فكيف أجدف على ملكي الذي يخلّصني؟]
وحينما هدّده بالحرق وطرحه للوحوش، قال: [إني لا أخاف النار التي تحرق الجسد، بل تلك النار الدائمة التي تحرق النفس. وأما ما توعدتني به من أنك تطرحني للوحوش المفترسة، فهذا أيضًا لا أبالي به، احضر الوحوش، واضرم النار، فها أنا مستعدّ للحريق والافتراس.]
وحينما حاول الجند تسميره على خشبة حتى لا يتحرك من شدّة عذابات النار، قال لهم: [اتركوني هكذا، فإن ذاك الذي وهبني قوّة لكي احتمل شدة حريق النار، هو نفسه سيجعلني ألبث فيها بهدوء دون حاجة إلى مساميركم.]
أوثقوا يديه وراء ظهره واضعين إياه على الحطب، كما لو كان ذبيحة على مذبح، أمّا هو فصلى للرب، شاكرًا إياه أنّه سمح له أن يموت شهيدًا، وأن يشركه في شرب كأس آلام الابن الوحيد.
أوردت هذه الوثيقة أول شهادة عن تقدير الكنيسة لرفات الشهداء، إذ جاء فيها:
[أخذنا بعد الله رفاته الباقيّة، الثمينة أكثر من الحجارة الكريمة، والأسمى من الذهب، وأودعناها في مكانٍ لائق. ليسمح الرب لنا -قدر المستطاع- أن نجتمع بالفرح والحبور لنحتفل باستشهاده - يوم ميلاده [255].]
هكذا تطلّعت الكنيسة إلى الموت، خاصة الاستشهاد، كيوم ميلاد المؤمن، يستحق أن يُعيد له... ربّما لهذا السبب كان القديس يوحنا الذهبي الفم يقاوم فكرة الاحتفال بأعياد ميلاد الأشخاص متطلّعا إلى عيد ميلادنا الحقيقي هو يوم خروجنا غالبين ومنتصرين من هذا العالم لنلتقي مع مسيحنا وجها لوجّه.
تتحدّث الوثيقة التي نشير إليها هنا إلى تكريم الشهداء:
[نسجد له لأنّه ابن الله، ونحب الشهداء لأنّهم تلاميذ الرب يقتدون به، يستحقّون ذلك من أجل محبّتهم الفائقة لملكهم ومعلّمهم [256].]
لم يبدأ الاحتفال بالشهداء بواسطة أحبائهم وعائلاته كعلاقات شخصيّة تمس الشهيد بهم، وإنّما منذ البداية قامت الكنيسة ككل بالاحتفال بفرح وسرور كعمل كنسي مفرح يمجد نعمة الله العاملة في حياة الكنيسة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. اعتمد بعض الدارسين على ما ورد في وقائع استشهاد بوليكاربوس "لذكرى الشهداء الأولين [257]"، بأن عيد الشهيد بوليكاربوس الذي بدأ عام 156م في سميرنا حسبه المؤمنون "عيد الكنيسة [258]" أو عيد الشهداء.
أما سيرة بوليكاربوس Vita Polycarbi التي تُنسب إلى الكاهن بيونيوس Pionios فإنّها من نتاج القرن الرابع/الخامس، وقد نُسبت خطأ إلى بيونيوس الشهيد الذي نال إكليله سنة 250م في سميرنا بينما كان يحتفل بذكرى بوليكاربوس. وتنحصر خدمات هذا القدّيس الشهيد التاريخيّة في أنّه حفظ لنا نص الرسالة في استشهاد بوليكاربوس المشار إليها أعلاه لا سيرة بوليكاربوس [259].
يتطلّع القدّيس بوليكاربوس إلى الاستشهاد كهبة إلهيّة، إذ نراه يشكر الآب بفرح من أجل هذه العطيّة وغيرها، مثبّتا شكره بكلمة "آمين" التي استخدمت في الليتورچيّا المسيحيّة [260].
عُرف تعبير "كاثوليكيّة" أولًا في كتابات القديس أغناطيوس الأنطاكي، معلنًا: [حيث يوجد يسوع المسيح توجد الكنيسة الكاثوليكيّة.] وقد ورد هذا التعبير ثلاث مرّات في رسالة سميرنا التي وصفت استشهاد القدّيس بوليكاربوس، مرتان عُني بها "الجامعة" أمّا المرّة الثالثة قرب نهاية الرسالة فجاءت لتحمل معنيّين، جامعيّة الكنيسة وأرثوذكسيّة إيمانهما. لقد ميزت الرسالة بين جسد الكنيسة الجامعة تحت قيادة قادتها الأرثوذكس وبين الجماعات المنشقة تحت قيادة الهراطقة [261].
تكشف الوثيقة الخاصة باستشهاده عن شخصيّة القدّيس بوليكاربوس كرجل صلاة، فعند القبض عليه طلب من الجند إمهاله وقتًا للصلاة، وقبيل استشهاده صار يصلّي... لقد أدرك أن الصلاة هي مصدر القوّة.
[247] Eusebius; H. E. 5: 20; Irenaeus: Adv. Haer. 3: 3.
[248] الأصول المسيحيّة الشرقيّة: رسائل رعوية (1)، ص 155، المناهل المسيحيّة 10، استشهاد بوليكاربوس 10.
[249] Adv. Haer. 3: 3: 4.
[250] Plycarp 1:1.
[251] Eusb. H. E. 4:14.
[252] St. Irenaeus: Adv. Haer. 3: 4.
[253] Quasten: Patrology, vol. 1, p. 77.
[254] للمؤلف: الشهيدان أغناطيوس و بوليكاربوس، ص 89 الخ.
[255] 18: 2.
[256] 17: 3.
[257] H. Achelis: Die Martyrologien, p.. 17f. Texts in Lietzmann: Die drei aresten Martyrologien (Kl, Texte 2).
[258] Hanz Leitzmann: A History of the Early Church, 1974, vol. 2, p. 138.
[259] Eusbius: H. E. 4:15; E. Schwartz: De Pionio et Polycarbo Gottingen, 1905.
د. أسد رستم: آباء الكنيسة، ص 41.
[260] Martyr. Polyc. 14: 1-3.
Karl Baus: Handbook of church History vol. 1, From the Apostolic community to Constantine, 1965, p. 142.
[261] Kenneth Scott Latourette: A History of Christianity, 1953, p. 130.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/apostolic/policarp.html
تقصير الرابط:
tak.la/mnpj9s9