هذه هي الصورة
الأولى لعلاقتي
بالكنيسة التي أبدو فيها عضوًا بين أعضاء كثيرة في جسد واحد.
المؤمنون أعضاء في
جسد واحد هو جسد المسيح: إن جماعة المؤمنين يُكوِّنون جسد
المسيح وأعضاءه. كما يقول
مُعلِّمنا بولس "وأمَّا أنتم فجسد
المسيح، وأعضاؤه أفرادًا" (1كو12: 27). فنحن
بالجملة نكوِّن جسد
المسيح وكأفراد نُعتبر أعضاءه، والمسيح رأس هذا الجسد كما
يقول أيضًا "(المسيح) هو رأس الجسد
الكنيسة" (كو1: 18). أمَّا كيف نكوِّن نحن جسد
المسيح الذي سماه
مُعلِّمنا بولس
الكنيسة فنحن نُشكِّل كيان هذا الجسد بامتزاجنا بعضنا مع بعض لكي يهتم كل واحد
منا بالآخر بشعور واحد ودون تمايز، تمامًا مثل تعاون أعضاء جسدنا اللحمي مع
بعضها البعض "الله مزج الجسد، مُعطيًا النَّاقص كرامةً أفضَلَ، لكي لا يكونَ
انشِقاقٌ في الجسد، بل تَهتَمُّ الأعضاءُ اهتمامًا واحِدًا بعضها لبعض. فإنْ
كان عضوٌ واحدٌ يتألَّم، فجميع الأعضاء تتألَّم معه. وإنْ كان عضوٌ واحدٌ
يُكرَّمُ، فجميع الأعضاء تَفرح معه" (1كو12: 24-26). وامتزاجنا مع بعضنا البعض يشبه امتزاج أعضاء جسدنا مع بعضها
البعض من حيث هو امتزاج عضوي مفصلي يبدأ من الرأس. هكذا امتزاجنا نحن يبدأ من
الرأس الذي هو
المسيح "الرأس
المسيح، الذي منه كل الجسد مُرَكَّبًا معًا،
ومُقترِنًا بمؤازرةِ كل مَفْصِلٍ، حسب عملٍ، على قياس كل جُزْءٍ" (أف4: 15،
16). وبهذه الصورة من الامتزاج يقوم كل عضو في
الكنيسة جسد
المسيح بوظيفته تحت قيادة فكر
المسيح كرأس لهذا الجسد، تمامًا كأعضاء جسدنا
التي يقوم كل منها بوظيفته حسب عمله الذي هيأه الله له كما يقول
مُعلِّمنا بولس
"فإنه كما في جسدٍ واحدٍ لنا أعضاءٌ كثيرةٌ، ولكن ليس جميعُ الأعضاءِ لها عَملٌ
واحدٌ، هكذا نحن الكثيرينَ (بالجملة) جَسدٌ واحدٌ في
المسيح (وكأفراد) أعضاء
بعضًا لبعضٍ، كل واحدٍ للآخر. ولكن لنا مواهبٌ مُختلفةٌ بحسبِ النِّعمةِ
المعطاةِ لنا" (رو12: 4-8). ووظائفنا في
الكنيسة جسد
المسيح هي
على مستويين:
1- الكنيسة جسد
المسيح
وهم يعملون كقادة للكنيسة حسب مواهبهم حيث "وضَعَ الله أُناسًا في الكنيسة: أولًا رُسُلًا، ثانيًا أنبياءَ، ثالِثًا مُعلِّمينَ، ثُمَّ قُوَّاتٍ، وبعد ذلك مواهب شفاء، أعوانًا، تدابيرَ، وأنواع ألسِنةٍ" (1كو12: 28). وهذه المواهب واضح أن بعضها كرازي والبعض خدمي، فالمعاونون والمدبِّرون كان يدخل في عملهم بعض الخدمات الطقسية مثل التعميد أو بعض الخدمات الرعوية مثل الافتقاد وخدمة المحتاجين. ويتضح هذا من كلام مُعلِّمنا بولس الذي تفرغ للتبشير أكثر وترك الأمور الطقسية مثل المعمودية وغيرها لآخرين كما يقول "لأنَّ المسيحَ لَمْ يُرسِلَنِي لأُعمِّدَ بل لأُبشِّرَ" (1كو1: 17).
كما يتضح هذا أيضًا من تنظيم الرُّسل للخدمة منذ البداية كما يذكر سفر الأعمال "وفي تلك الأيام إذ تكاثر التلاميذ (أي المؤمنون)، حدث تذمُّر من اليونانيين على العبرانيين أن أراملهم كُنَّ يُغفلُ عنهُنَّ في الخدمة اليومية. فدعا الاثنا عشر جمهور التلاميذ وقالوا: لا يُرضِي أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائدَ. فانتخِبُوا أيُّها الإخوة سبعة رِجال منكم، مشهودًا لهم ومملوِّينَ مِنَ الروح القدس وحكمةٍ، فنقيمهم على هذه الحاجة. وأمَّا نحن فنواظب على الصلاة وخدمة الكلمة. فحَسُنَ هذا القول أمام كل الجمهور، فاختاروا... الذين أقاموهم أمام الرسل، فَصَلُّوا ووضعوا عليهم الأيادي" (أع6: 1-6). ويبدو من هذا النص أن خدمة المحتاجين كانت متلازمة منذ البداية مع خدمة الكلمة والكرازة، وكان يقوم بها الرسل أنفسهم. ولكن لَمَّا حدث فيها ارتباك بسبب التزايد المستمر في عدد المؤمنين يومًا بعد آخر رأى الرُّسل أن يُخصِّصوا خُدامًا مُتفرغين لها لكي يجد الجميع رعايتهم من الكنيسة.
هذا هو دور الرُّعاة والخُدَّام كقادة في تكوين وتأسيس جسد المسيح وذلك بتنظيم الخدمة بينهم. فالبعض يخدمون الكلمة والبعض الآخر يخدمون الموائد وذلك بحسب مواهبهم متآزرين مع بعضهم البعض كأعضاء كل منهم يكمل عمل الآخر. وبتقديمهم الطعام الروحي ومعه الطعام الجسدي يكملون بالأعمال يقين الإيمان ليقدموا للمؤمنين نموذجًا للإيمان الحقيقي وهو الإيمان الحي العامل بالمحبة (غل5: 6) ويضعوا لهم أساسًا راسخًا لمستقبلهم الأبدي ليمسكوا بالحياة الأبدية (1تي6: 19) وهم في ذلك كرُعاة يمثلون شخص المسيح رأسًا للكنيسة الذي كان يشبع أرواح الجموع بكلام الحياة ثم يشبعهم بطعام الجسد (لو9: 10-17).
أمَّا دور المؤمنين كأفراد الرعية في تكوين وتأسيس الكنيسة جسد المسيح فهو ثباتهم في المسيح الذي قبلوه وآمنوا به وحرصهم على الخلاص الذي صنعه لهم، وحفظهم للإيمان الذي غُرست فيهم بذارُه، واقتداؤهم بالمسيح في أعماله وتعاليمه، ثم عيشتهم معًا بالمحبة مُترجمين إياها عمليًا في حياتهم بتآزرهم مع بعضهم البعض في عيشة مشتركة كأعضاء في جسد واحد، كل منهم يخدم الآخر ويسد احتياجاته. فلا يكون محتاج واحد ولا عاطل واحد. فالكل يعمل والكل يخدم، الكل من أجل الواحد والواحد من أجل الكل، والذي عنده يهتم بالذي ليس عنده. لأنَّ هذه هي الصورة التي قدَّمها لنا سفر أعمال الرسل عن معيشة المؤمنين الواحدة المشتركة في الكنيسة الأولى حيث قال: جميع الذين آمنوا كان لهم قلب واحد ونفس واحدة وكانوا معًا. ولم يكن أحد منهم محتاجًا. لأنه كان عندهم كل شيء مشتركًا ولم يكن أحد يقول إن شيئًا من أمواله له. بل كل الذين كانوا أصحاب أملاك ومقتنيات من بيوت وحقول كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسل ويقسمونها بين الجميع وتوزع كما يكون لكل واحد احتياجه، وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات، وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة. وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب، مُسبِّحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب. وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع. وكان الرب كل يوم يَضُم إلى الكنيسة الذين يَخلصون (أع2: 44- 47، 4: 32 - 35).
كم هي جميلة هذه الصورة التي يعرضها سفر الأعمال وتقدَّم لنا كل نفس سعيدة وفرحة في معيشتها وسط جماعة المؤمنين سواء في عطائها لِمَن ليس لهم أو في أخذها مِمَّن لهم. وفي مواظبتها على تسبيح الله والصلاة وسماع التعليم وتناولها الطعام بابتهاج والحياة ببساطة. وبذلك صارت لهم نعمة لدى الجميع وكان عدد المؤمنين يزداد كل
من هُنا كان اهتمام مُعلِّمنا بولس بخدمة المعوزين التي سَمَّاها خدمة القديسين إيمانا منه بأنها الحارس القوي لاستمرار قوة الترابط العضوي والوحدة بين المؤمنين. حتى أنه وهو الذي أوكل خدمة التعميد بالرغم من أهميتها لخدام آخرين ليتفرَّغ هو لعمل الكرازة نجده في زحمة خدمته الكرازية لم ينس الاهتمام بالجمع من أجل المحتاجين فيُخاطب أهل كورنثوس بقوله "من جهة الخدمة للقديسين... رأيت لازمًا أن أطلب إلى الإخوة أن يسبقوا إليكم، ويهيئوا قبلًا بركتكم... لتكون هي مُعدَّة هكذا كأنها بركة... وافتعال هذه الخدمة ليس يَسُدُّ أعواز القديسين فقط، بل يَزيدُ بشكر كثير لله" (2كو9).
بل إن وصايا مُعلِّمنا بولس كثيرة بخصوص المعوزين ومنها "كونوا مواظبين على الصلاة، مشتركين في احتياجات القديسين، عاكفين على إضافة الغرباء" (رو12: 12، 13)، "أَوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر... أن يكونوا أسخياء في العطاء، كُرَماء في التوزيع" (1تي6: 17 - 18)، "لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأنه بذبائح مثل هذه يُسر الله" (عب13: 16)، "مَن يزرع بالشُّحِّ فبالشُّحِّ أيضًا يَحصُدُ، ومَنْ يَزرَع بالبركاتِ فبالبركاتِ أيضًا يَحصُدُ... المُعطي المسرور يُحبُّهُ الله. مكتوب: فَرَّقَ. أَعْطَى المساكين. بِرُّهُ يَبقى إلى الأبد" (2كو9: 6 - 9).
ولم يعظ مُعلِّمنا بولس بالكلمة فقط ويُنادي بالعطاء فحسب، بل قدَّم لنا مِثالًا حيًّا للعضوية الكنسية العاملة حيث كان نموذجًا عمليًا في التعليم والعمل معًا.
الذي يريد أن يعرف النموذج المثالي للعضو العامل في جسد المسيح أي الكنيسة فليتأمَّل سيرة القديس بولس الرسول الذي لم يتأخَّر عن أن يفيد ويرشد وينذر كما يذكر سفر الأعمال "أَرْسَلَ إلى أفسس واستدعى قسوس الكنيسة (وقال لهم)... اسهروا متذكرين أني ثلاث سنين ليلًا ونهارًا لم أفتُر عن أن أُنْذر بدموع كل واحد" (أع20: 17-31). وكان يُصلِّي بلا انقطاع من أجل المؤمنين "الله الذي أعبده بروحي، في إنجيل ابنه، شاهدٌ لي كيف بلا انقطاع أذكُرُكُمْ" (رو1: 9). وكان يلاشي ذاته مع كل واحد لكي يربح الكل للمسيح "إذ كُنتُ حُرًّا من الجميع، اسْتَعْبَدْتُ نفسي للجميع لأربح الأكثرين... صرت للكل كل شيءٍ، لأُخلِّصَ على كُلِّ حَال قَوْمًا" (1كو9: 19 - 22). وكان يعمل على إرضاء الكل قبل أن يرضي نفسه "أنا أيضًا أُرْضِي الجميعَ في كُلِّ شَيءٍ غَيرَ طالبٍ ما يُوافق نفسي، بل الكثيرين لكي يَخْلُصوا" (1كو10: 33). وكان يهتم بالضعفاء والمعثرين والخطاة "مَنْ يَضْعُفُ وأنا لا أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وأنا لا ألتَهِبُ؟" (2كو11: 29)، "أخاف... أن يُذِلَّنِي إلهي عندكم، إذا جئتُ أيضًا وأنوحُ على كثيرين من الذين أخطأوا من قَبْلُ ولم يتوبوا عن النجاسة والزنا والعهارة التي فعلوها" (2كو 12: 20- 21). كذلك كان يعمل بيديه لكي يوفِّر طعامه لنفسه بنفسه "فإنكم تذكرون أيها الإخوة تَعَبَنَا وكَدَّنا، إذ كُنَّا نَكْرِزُ لكم بإنجيل الله، ونحن عاملون ليلًا ونهارًا كي لا نُثقِّلَ على أحدٍ منكم" (1تس2: 9). بل كان يخدم الذين معه "حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان" (أع20: 34). كل هذه تقدم لنا مُعلِّمنا بولس نموذجًا ومثالًا للعضوية الكنسية الباذلة المحُبة الخادمة متمثلًا بسيده الذي كان لا يفتُر عن تعليم الجموع وكان يجول يصنع خيرًا ويشفي المُتسلِّط عليهم إبليس وكان يتراءف بالخطاة ويتعب من أجل خروف واحد ضال. لذلك حق له أي لمُعلِّمنا بولس أن يوصينا "كونوا مُتمثِّلين بي كما أنا أيضًا بالمسيح" (1كو11: 1).
هذه العضوية العاملة بالمحبة هي التي تديم الترابط العضوي بين المؤمنين. ولكن هناك عوامل إلهية توحدهم.
أ
- الذبيحة: ما يُكَوِّن وحدة المؤمنين هو شركتهم في جسد المسيح الذي تُقدِّمه الكنيسة لهم قوتًا روحيًا سماويًا في صورة الخبز والخمر على المذبح المقدس فيشتركون فيه معًا ليأكلوا جميعهم من الخبز الواحد "الخبز الذي نَكْسِرُهُ أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خُبزٌ واحدٌ، جَسدٌ واحِدٌ، لأننا جميعنا نشترك في الخبز" (1كو10: 16، 17). هذا الخبز الواحد نحن نطلب في كل قداس إلهي أن نكون مستحقين لتناوله من أجل وحدتنا قائلين "اجعلنا مُستحقين كُلّناوتناولنا جسد المسيح عامل حي في وحدتنا لأننا به نكون قد أكلنا طعامًا واحدًا فيكون مصدر حياتنا واحدًا خصوصًا أنه جسد محيي يعطي حياة بالمسيح كما قال له المجد "مَنْ يأكُلني فهو يحيا بي" (يو6: 57). ولأننا بتناولنا إيَّاه ننال كل العطايا المكنوزة فيه من ثبات في المسيح وقيامة من الموت وحياة أبدية وذلك حسب وعد المسيح لنا "مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي... يَثْبُتْ في
َّ وأنا فيه" (يو6: 54-56). فهكذا نصبح متحدين معًا بسبب عطايا جسد المسيح الواحد لنا جميعًا.ب - المعمودية: لكننا ما كُنَّا مُستحقين لشركة جسد المسيح لنكون واحدًا معه وواحدًا مع بعضنا البعض إلا باعتمادنا له من قبل على اسمه الواحد وبعمل روحه الواحد في معموديتنا "لأننا جميعنا بروُحٍ واحدٍ أيضًا اعتمدنا إلى جَسدٍ واحِدٍ، يهودًا كُنَّا أمْ يونانيين، عبيدًا أمْ أحرارًا" (1كو12: 13).
وباعتمادنا له صِرنا مُتحدين به "كل مَنْ اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموتهِ، فَدُفِنَّا معه بالمعمودية للموتِ... قد صِرنا مُتَّحِدِين معه بشبهِ موته" (رو6: 3-5). ومَنْ اتَّحَدَ بالمسيح بموته صار مُستحقًا الاتحاد به للحياة بقوة قيامته. كما يقول مُعلِّمنا بولس "إن كُنَّا قد صِرنا مُتَّحِدِينَ معه بشبهِ موته، نصِيرُ أيضًا بقيامته" (رو6: 5). وسر الحياة في المعمودية أنها تمحو خطية الإنسان التي هي سبب موته فتصير (أي المعمودية) سبب حياته. كما تُقدِّسه وتُطهِّره وتهيئه هيكلًا لروح الله القدوس المطهر والمنقي من كل دنس والمُعطي الحياة. إذًا المعمودية بفعاليتها هذه في المؤمنين هي عامل حي في وحدتهم في المسيح وبه، لأنها معمودية واحدة للكل بكل عطاياها من تطهير وتقديس ومحو للخطية وبنوة وحياة.
جـ - الإنجيل: وما كُنَّا نعتمد للمسيح على اسمه إلا بعد سابق إيماننا به ربًا واحدًا ومسيحًا واحدًا؛ إيمانًا استقيناه من نبع واحد لتعاليمه كما يقول مُعلِّمنا بولس "لأنَّنا جميعنا سُقينا روحًا واحدًا" (1كو12: 13). حيث دعانا هو لنرتوي منه عندما نادى قائلًا "إنْ عَطِشَ أحدٌ فليُقْبِلْ إليَّ ويشرب. مَنْ آمنَ بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهارُ ماءٍ حيٍّ" (يو7: 37). الأمر الذي سبق وتنبأ عنه إشعياء النبي "وتقول في ذلك اليوم أحْمَدُكَ يا رب... هوذا الله خلاصي... ياه يهوه... قد صار لي خلاصًا. فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص" (إش12: 1-3) والإنجيل هو الينبوع الحي الذي لا ينضب لتعاليم المسيح. لذلك فالإنجيل عامل حي في وحدة المؤمنين أيضًا.
وتعاليم المسيح مملوءة بالحياة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. كما قال له المجد "الكلام الذي أُكَلِّمُكُمْ به هو رُوحٌ وحياةٌ" (يو6: 63). وكما قال للسامرية "مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الماءِ الذي أُعْطِيهِ أنا فَلَنْ يَعْطَشَ إلى الأبَدِ، بل الماءُ الذي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فيه يَنبُوعَ ماءٍ يَنْبَعُ إلى حياةٍ أبدِيَّةٍ" (يو4: 14). وكلام المسيح روح وحياة لِمَن يعمل به لأنه يوصي بالمحبة والطهارة والأمانة والاتضاع وعفة اللسان وهذه هي طريق الحياة لأن الذي يعمل بها ويعيش بحسبها بإيمانه بالمسيح لا يعطش لحكمة بشرية ولا لتعاليم هي وصايا الناس، كما أنه يكون بعيدًا عن الخطأ وسالكًا في البِرِّ. لذلك لن يرى الموت بل إنه يحيا إلى الأبد. وإذا كانت حياة المؤمنين نابعة من تعليم واحد للحياة بالمسيح فهذا أيضًا سر وحدتهم في المسيح.
ومَنْ يُراجع هذه العوامل الثلاثة التي يشترك فيها المؤمنون بالمسيح ويحيون بها يجد أن وحدتهم في جسدٍ واحدٍ هو جسد المسيح لم تأتِ من فراغ ولا هي مُجرَّد عقيدة أو تصوُّر ذهني. بل هناك عوامل إلهية حَيَّة فاعلة ملموسة هي علة واقعية لهذه الوحدة، مُتمثِّلة في ولادتهم من الماء والروح بِاسم المسيح من بطن واحدة هي جُرن المعمودية، وارتوائهم من نبعٍ واحدٍ هو إنجيل المسيح، وعيشتهم بتعاليم وصاياه الواحدة واغتذائهم من قوت سماوي واحد من مائدة واحدة هي ذبيحة جسد المسيح ودمه الأقدسين.
وهذه الوحدة ترتسم بقوة على حياة المؤمنين ويُجْمِل عناصرها فيهم مُعلِّمنا بولس بقوله "جَسدُ واحدٌ، وروحٌ واحدٌ، كما دُعِيتُمْ أيضًا في رجاءِ دَعْوَتِكُمُ الواحدِ. ربٌّ واحدٌ، إيمانٌ واحدٌ، معموديةٌ واحدةٌ، إلهٌ وآبٌ واحدٌ للكُلِّ، الذي على الكُلِّ وبالكُلِّ وفي كُلِّكُمْ" (أف4: 3-6). فإذا كان المؤمنون تجمعهم الوحدة في الجسد والروح والرجاء والإيمان بربٍّ واحدٍ ومعمودية واحدة وإله وآب واحد للجميع، فماذا ينقصهم بعد كل هذه لكي يكونوا واحدًا في المسيح وواحدًا مع بعضهم البعض ومُتَّحِدِينَ برباط الصُّلح الكامل!
ولكن لعلنا نتساءل ما إذا كان لعوامل هذه الوحدة جذور تمتد في كيان كنيسة العهد القديم أي منذ اقتناء الله لشعبه. فنقول: نعم.
إن الله هو هو لا يتغيَّر، ونموذج كنيسته مرسوم عنده منذ الأزل وقد وضع عوامل وحدة مؤمنيه، ورسم ورتَّب ثباتها مع تطوُّر صورتها بتقدم عمر البشرية.
فكنيسة العهد القديم حملت النموذج الرمزي لكنيسة العهد الجديد وذلك في عوامل الوحدة بين أعضائها، بدءًا من اعتمادهم جميعًا من معمودية واحدة هي البحر الأحمر، ثم توجههم كلهم بشريعة واحدة تلك التي أعطاها الله لموسى، ثم بتناولهم جميعًا من مائدة واحدة هي مائدة المن والسلوى، وشرابهم جميعًا من نبع واحد هو الصخرة التي ضربها موسى بعصاه ففاضت مياهًا ورافقتهم في كل رحلتهم في البريَّة.
هذه العوامل أكَّدها داود النبي في قوله "أقام شهادة في يعقوب، ووضع شريعةً في إسرائيل... قالوا هل يَقْدِرُ الله أن يُرتِّبَ مائدةً في البَرِّيَّةِ هوذا ضَرَبَ الصخرة فجرت المياه وفاضت الأودية... أمْطَرَ عليهم مَنًّا للأكْلِ، وبُرَّ السَّماءِ أعطاهم. أكَلَ الإنسان خُبز الملائكة... وأمْطَرَ عليهم لحمًا... طيورًا ذوات أجنحةٍ... فأكلوا وشبعوا" (مز78: 5، 19-29).
ويوضِّح مُعلِّمنا بولس رمزية هذه الصورة لوحدة مؤمني العهد الجديد بقوله "إن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة... وجميعهم أكلوا طعامًا واحدًا روحيًا، وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا، لأنهم كانوا يشربون من صخرةٍ روحيةٍ تابعتهم، والصخرة كانت المسيح" (1كو10: 1-4).
إذًا عوامل وحدة المؤمنين كجسد واحد هي هي كما في القديم هكذا في الجديد، حتى وإن تغيَّرت صورة هذه العوامل من مياه البحر إلى مياه المعمودية، ومن شريعة موسى إلى شريعة الإنجيل، ومن المن والسلوى والمياه الخارجة من الصخرة في البرية إلى جسد المسيح ودمه الأقدسين على مذبحه المقدس...
ونلاحظ أن هذه العوامل جميعها قديمها وجديدها تتمركز كلها في شخص المسيح. فالمعمودية هي شركة موت وقيامة مع المسيح، والإنجيل هو المسيح الكلمة المنطوقة لغذاء العقل والروح، وذبيحة الجسد والدم هي المسيح الكلمة المتجسد لغذاء الجسد والروح، وكلها عوامل وحدة للمؤمنين للحياة الواحدة لهم.
فالمعمودية هي للحياة لأنها قيامة من بعد موت. والإنجيل هو للحياة لأن من يعمل بوصاياه وتعاليمه لن يرى الموت، والذبيحة هي للحياة لأنها ذبيحة جسد حي أي مملوء بالحياة وجسد محيي لأنه قادر أن يعطي حياة لكل مَن يتناول منه. وإن كانت هذه العوامل محورها المسيح فتكون الحياة النابعة منها حياة من المسيح وبه.
وحيث كان السيد المسيح هو العامل في العهد القديم ناطقًا على ألسنة الأنبياء في كل ما كتبوا من أحداث وشرائع ونبوات عن شخصه المبارك، وهو العامل بنفسه أيضًا في العهد الجديد بصورة تجسده. لذلك كان قيام كنيسة العهد الجديد امتدادًا طبيعيًا لكنيسة العهد القديم بحيث تبدوان وكأنهما كنيسة واحدة لأن جسد المسيح لا ينقسم ولا يتجزأ، بل إنه مُمتد عبر الزمن ليس فقط على مستوى المؤمنين أعضاء الكنيسة المجاهدة المُتغرِّبة في العالم قديمًا وحديثًا بل على مستوى أعضاء الكنيسة المنتصرة الذين سبقونا للوطن السماوي والذين لا نحس أننا منفصلون عنهم. حيث الصِّلة بيننا وبينهم لا تنقطع إذ نذكرهم في كل حين وهم لا ينقطعون عن الطلب من أجلنا على الدوام أمام العرش الإلهي. ومن ثم فالمسيح يضم الكنيسة في شخصه في القديم والجديد. بل وما بعد حدود الدهر الحاضر إلى العتيد السماوي الذي يبقى إلى الأبد. وهذا هو مجد وكرامة الوحدة في جسد المسيح. إنه مجد أزلي أبدي، وكرامة ممتدة من الحاضر إلى المستقبل اللانهائي أيضًا.
هذه الوحدة تحمل قوة باطنية للمؤمنين وسورًا منيعًا لهم. تنميهم من الداخل وتحرسهم من الخارج. توطد ثباتهم في المسيح وتمنحهم شجاعة المواجهة والتصدي للتحديات والمقاومات. هي حماية لهم من العوز الروحي والمادي والنفسي. لأنها تسد كل هذه الاحتياجات ومن ثم فهيَ سر سعادة وسلام لهم. وهذا ما حفظ المسيحية والمسيحيين إلى هذا اليوم رغم المقاومة الشرسة التي واجهتها عبر الزمن من إبليس وجنوده ولا زالت تواجهها.
لذلك يوصينا مُعلِّمنا بولس بحفظ هذه الوحدة بقوله "مُجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام" (أف4: 3) ثم ينبهنا إلى ضرورة السلوك كما يليق بمجد هذه الوحدة وكرامتها بقوله "لا تسلكوا في ما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضًا بِبُطْل ذهنهم. إذ هم مظلمو الفكر ومُتجنّبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم. لا تكونوا شركاءهم. اسلكوا كأولاد نور. كونوا مُتمثِّلين بالله كأولاد أحباء" (أف4، 5).
ولحفظ هذه الوحدة أيضًا علينا مراعاة عوامل تثبيتها التي سبق توضيحها والتي كما كانت في القديم هي هكذا في الجديد.
ولكن ماذا عن مَن لا يحفظون كرامة وحدتهم مع بعضهم البعض ومجد وحدتهم مع المسيح؟ يجيب داود النبي عن أصحاب القديم أنهم عندما "لم يحفظوا عهد الله وأَبَوْا السلوك في شريعته، ونسوا أفعاله وعجائبه. صعد عليهم غضب الله. أفنى أيامهم بالباطل وسِنِيهِمْ بالرُّعْبِ" (مز78: 10، 31، 33). أمَّا مُعلِّمنا بولس فإنه يعيد لذهن مؤمني كنيسة العهد الجديد هذا المثال لإنذارهم فيقول "إني لستُ أرِيدُ أيُّها الإخوة أن تجهلوا أنَّ آباءَنا جميعهم كانوا تحت السحابة، وجميعهم اجتازوا في البحر... ولكن بأكثرهم لم يُسَرَّ الله، لأنهم طُرِحوا في القفر... لا نكون نحن مُشتهين شرورًا كما اشتهى أولئك... فأهْلَكَهُمُ المُهْلِكُ. فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالًا، وكُتِبَتْ لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور" (1كو10: 1-11).
قدَّم لنا هذا الفصل الصورة الأولى لوحدة المؤمنين وهى الصورة العضوية التي اتضح لنا فيها أن المؤمنين أعضاء في جسد واحد مرتبطون مع بعضهم البعض ارتباطًا عضويًا مفصليًا ويقوم كل عضو بوظيفته حسب موهبته لخدمة هذا الجسد تحت قيادة فكر المسيح. والمؤمنون يُشكِّلون الجسد بأعضائه ورعاتهم يمثلون الرأس المنظور لهذا الجسد.
والمؤمنون يبنون الجسد بالمحبة وأعمال الرحمة، ووحدتهم في الجسد الواحد تثبتها عوامل أهمها تناولهم من ذبيحة واحدة وولادتهم من معمودية واحدة وتعلمهم من إنجيل واحد. وترجع جذور هذه العوامل إلى كنيسة العهد القديم بإطعامهم جميعهم من المن والسلوى وشربهم من الصخرة وعبورهم جميعهم البحر الأحمر وتوجههم كلهم بشريعة موسى. ومحور هذه العوامل كلها هو شخص المسيح.
والوحدة قوة للمؤمنين تثبتهم في الداخل وتحرسهم من الخارج لذلك لا يصح أن يستهينوا بها وعليهم ألا يهملوا عوامل تثبيتهم فيها.
يا ربي يسوع المسيح قُدني بفكرك الذي هو وصاياك، وقوِّني بنعمتك لكي أعمل بها أعمالًا صالحة من أجل خدمة وسعادة كل أهل بيتي والقريبين مني وكل بشر أعرفه، حتى أحقق كمال عضويتي في جسدك الذي هو الكنيسة، وأمتلئ فرحًا بفرحهم، وتدوم لي الحياة بك ومعك.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-salaib-hakim/church-heaven/body-of-christ.html
تقصير الرابط:
tak.la/sx36ha5