15- الخوف من الموت: من مشاكل المسنين

قصة مُسِن:

عمارتي رائعة التكوين.. أتخيلها أحيانًا مجموعة من الصناديق المتجاورة.. صناديق من الورق المقوي.. سميك بما يكفي ليمنع الرؤية.. قوية بما يكفي ليمنع الانتقال لكن سهل انتقال الأصوات.. لذلك تستطيع أن تتعرف علي الجيران بأصواتهم.

منال وسعيد زوجان في الدور الثاني.. يتشاجران أحيانًا علي أتفه الأسباب.. توقعت أن يفشل زواجهما سريعًا.. لكنهما خالفا توقعي.. رزقا بثلاثة من الأبناء فأصبح بيتهما أكثر ضجيجًا.

إبراهيم ومني في الدور الثاني أيضًا.. اسمع ضحكاتهما وهما يسخران من منال وسعيد.. معهم حق.. اعني ما الداعي للشجار علي أين اختفي القميص؟ ولماذا لم تحضر معك الصابون عند عودتك؟

أحببتهم كثيرا لكنهما لم يرزقا بأطفال.. مع الوقت قلت ضحكاتهما بل وأصواتهما أيضًا.. لجأوا إلي الصمت.. اعتقد أنهما يحقدان علي منال وسعيد الآن ويتمنون لو كانا يتشاجران مثلهما ويرزقا بأبناء.

رمزي شاب وحيد في الدور الأول.. لا ادري سبب وحدته.. لكنه يذكرني بنفسي في أيام شبابي بالرغم من أنني لم أره.. يستمع إلي أغان رومانسية حزينة بصوت عالي حتى منتصف الليل.. يتشاجر معه سعيد حتى يتوقف عن ذلك.. يهيئ لي أن فتاة ما قد جرحت قلبه في الماضي.. اعتقد في بعض الأحيان انه يبكي وحيدا في الظلام.. استطيع أن اسمع بكاءه.. بالطبع لا ادري إن كان في الظلام أم لا ولكن لم لا يبكي والنور مضاء!!؟

بجواره في الدور الأول ماجدة وأمها العجوز.. اعلم أنها تعمل.. اسمع صوتها وهي تخرج من شقتها في الصباح الباكر.. وصوت عودتها في المساء.. اسمع صوت الأثاث وهي تحركه في محاولات مستميتة لتنظف المنزل وهي تغني.. صوتها حلو سلمي.. أحببتها علي الفور.. هي ليست ملاكا أحيانا اسمعها تتشاجر مع أمها.. سئمت من طلباتها المتكررة.. اعتقد أنها تتمني موت أمها في السر أحيانا.. لو كان لي أبناء لتمنوا موتي بالتأكيد.. ليس من المتوقع أو الطبيعي أن يعيش شخص ما لهذه السنوات العديدة.

ماجدة أرادت أن تتأكد أن هناك من سيعتني بأمها في حالة غيابها.. فقد أخذت ماجدة في العمل لفترات طويلة.. هل تفعل ذلك لحاجتها للمال؟ أم لتهرب من أمها؟علي أي حال بدأت ماجدة بالتعرف علي الجيران.. أخذت في زيارة منال وسعيد.. أحبتها منال كثيرا.. خاصة أنها تبقي ساعات وحيدة مع الأطفال.. تتمني منال أن تتحدث مع شخص آخر غير زوجها.

أما إبراهيم ومني فلم يقبلا ماجدة كثيرا.. ربما امتلأ قلبهما بالحزن ولم يوجد مجال لشيء آخر.. وربما شعرت مني بالتهديد من هذه المرأة التي ستقتحم حياتها.. وقد تستولي علي زوجها أيضًا.. لو كانت مني تشعر كم يحبها إبراهيم لما راودتها مثل هذه الشكوك.. ولكن كيف يمكنها أن تعرف وهو يلتزم الصمت معظم الوقت!؟ أنا اعرف لأني اختلف عن الآخرين.

رمزي وسعيد بعد فترة من الشجار المتواصل قررا إعلان هدنة.. وفي أثناء هذه الهدنة تحولا إلي أصدقاء.. كما قد يتواعدون جميعا.. ماجدة ورمزي تقابلا كثيرًا بعد ذلك في ضوء هذه الظروف الجديدة.. وبعد ذلك بفترة طويلة تزوجا.

ماجدة وأمها ورمزي يعيشون جميعا في شقة رمزي.. رفض رمزي أن يسكن في شقة ماجدة بالرغم أن الأمر لن يختلف كثيرًا.. الشقق جميعها متشابهه كما أخبرتكم من قبل.. مجموعة من الصناديق.

أم ماجدة رفضت الانتقال في البداية.. أخذت تقول:

هذا بيتي وان خرجت من هذا البيت سأموت.

لم يصدقها احد.. اعتقدوا أنها تلقي بعبارات أخذتها من الأفلام القديمة.. لكنها ماتت فعلا بعد ذلك بفترة قصيرة.. علي أي حال استمرت الحياة.

وأما أنا فاسكن في الدور الثالث وحيدا.. رجل عجوز تجاوز عمره الثمانون.. لم يلحظني احد فانا لا اصدر صوتا يمكن تمييزي به.

حتى ولو تمكنت فلن يلحظني احد.. كلهم مشغولون في حياتهم.. لا احد يستمع إلي الأصوات الخارجة من الصناديق سواي.. هذه هي متعتي الوحيدة.

لم يدعني احد للاحتفال بمواليد أطفال منال وسعيد.. لم يدركا وجودي.. لم يدعني احد للاحتفال بزواج رمزي وماجدة.. لم يعرفا أني هناك في انتظار دعوتهما.

لم يعني احد في جنازة أم ماجدة العجوز.. ربما لأنني قد اتبعا قريبا.

حتى مني وإبراهيم لم يدعواني لزيارتهما ولم يأتوا لزيارتي..

مشغوليات الجميع حالت دون أن ينتبهوا لوجودي كما حالت دون أن يلاحظوا أني قد توفيت بين مجموعة من الأشياء.

لم يلاحظوا ذلك إلا بعد مرور الكثير من الوقت.

نسيت أن أخبركم أن الصناديق لا تمنع الروائح أيضًا من الانتشار.

قررت ألا اتركهم علي أية حال بالرغم من أنهم لم يلاحظوا وجودي.. ألا أني أراقبهم. ومن قد يفعل ذلك سواي!؟

سابقي حتى يتوقفوا عن إصدار كل هذه الأصوات.. أو عندما يلاحظونني.