ذكر الكتاب المقدس لفظتي الحياة والموت كثيرًا، ولعل أشهر الآيات الرائعة هي: "أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ،" (تث 30: 19). واضح من هذه الآية وكثير من الآيات أن الحياة والموت لا يُقصد بهم مجرد التواجد أو الفناء البيولوجي، بل ما هو أبعد من ذلك بكثير. لذلك فإن هذا التمهيد سيركز على مفهوم الحياة والموت في الكتاب المقدس، ثم يضع إجمالًا لأقوال الآباء لشرح الآية محل البحث.
في البداية نجد أن " الرَّبُّ الإِلهُ جَبَلَ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً" (تك 2: 7)، إذن فعندما نفخ الله، فإنه وهب الإنسان حياة، ماهية هذه الحياة ليست واضحة حتى الآن ولا يجب أن نضع لها تعريفًا من ذاتنا، بل نكتفي فقط حتى الآن بأن كاتب سفر التكوين صَرَّح أن آدم صار لديه حياة. ثم قال الله لآدم: "وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّر فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ» (تك 2: 17) ونحن متيقنين أن هذا الموت هو عكس الحياة. بمعنى "إنك يا آدم، عندما ستعصي الوصية، ستخسر الحياة التي كنت قد أعطيتها لك." وهنا نحتاج أن نفكر ماذا خسر آدم بعد أن أكل. آدم خسر أمرًا واحدًا وفيه خسر كل شيء. لا نقدر أن نقول إن "موتًا تموت" معناها أن آدم في الأساس خسر سلطانه على الحيوانات مثلًا، أو أن آدم في الأساس خسر الفردوس وطُرد. كل هذه الأمور كانت موجودة بسبب أمر واحد، وعندما خسر هذا الأمر فَقَدَ كل شيء. فما هو الأمر الذي كان بمثابة حياة ثم فَقَدَهُ آدم فأصبح ميتًا؟
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
نستطرد حديثنا عن بدايات الكلام حول الحياة والموت، فنجد أن الله يقول قبل الطوفان: «لاَ يَدِينُ[1] رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ، هُوَ بَشَرٌ (تك 6: 3) بمعنى لا يَسكُن أو لا يَحكُم روحي في الإنسان. واضحٌ إذًا أن روح الله كان يسكن في الإنسان ثم أعلن الوحي الإلهي أنه لم يعد يسكن فيه. ثم حاول الله أن تتجدد الخليقة كلها بنوح من جديد، فكما خُلِقًتْ في آدم وحده، تبدأ بنوح البار وأسرته، ولكن يقول الكتاب: "وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الأَرْضِ، وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ، أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا. فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ، هُوَ بَشَرٌ." (تك 6: 3) فهذا الإعلان الإلهي ينادي بأن روح الله فارق البشر. إذن ماذا خسرنا هنا؟ نفهم بوضوح أن الإنسان خسر روح الله الساكن فيه.
فالله في خلقته لآدم -بحسب تعليم القديس غريغوريوس النيصي- لم يخلق عروسة من طين ثم نفخ فيها فأدخل فيها النفس؛ هذا التعليم يرفضه كافة الآباء. ويشرح النيصي السبب في رفضه لهذا الأمر، حتى وإن ظهر ترتيب للأحداث من خلال قراءة الكتاب. فالترتيب في الخلق، أي خلق الجسد ثم نفخ النفس فيه يشير -فلسفيًا- إلى أهمية المخلوق الأول عن المخلوق الثاني. بمعنى أنه من قراءة ترتيب أحداث الخلق، يمكن للقارئ البسيط أن يفهم أن الله خلق الجسد أولًا لأهميته الأعلى، ثم بعد ذلك نفخ فيه النفس الأقل أهمية، وبذلك يجعل النفس تابعة للجسد ومخلوقة لأجل الجسد.[2]
ولكن إلهنا الآب شَكّل آدم بذراعيه، اللذين هما الكلمة والروح القدس بحسب تعبير القديس إيرينيؤس. فالابن هو صورة الآب التي شُكّل على صورتها الإنسان، والروح القدس هو نفخة القدير التي أعطت للطين نفسًا عاقلة تقبل سكنى الروح القدس فيها.
_____
[1] كلمة "يدين" في أصلها العبري יָדוֹן تعني: يبقى أو يظل أو يحكم.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-pakhomius-marcos/breath-of-life/preface.html
تقصير الرابط:
tak.la/n3py738