وحتى إن كان ذلك اليهودي يعجز عن أن يقدم أي دفاع من نبوتيّ حزقيال وإشعياء، كما قارنا نحن انفتاح السماوات ليسوع والصوت الذي سمعه بالحوادث المماثلة المدونة في حزقيال وإشعياء، أو في نبوات أخري أيضًا، فإننا نؤيد المناقشة علي قدر الاستطاعة بالقول إنه واضح بأن كل الذين يقبلون عقيدة العناية الإلهية يتفقون في الاعتقاد بأن الكثيرين من الناس في الأحلام يصورون صورًا في عقولهم، البعض يصورون صورًا روحية، والآخرون يعلنون عن حوادث في الحياة المستقبل، سواء كانت واضحة أو غامضة.
فلماذا يعتبر غريبًا القول بأن القوة التي تحدث تأثيرًا علي العقل في الحلم تقدر أن تفعل هذا أيضًا في النهار من أجل منفعة الإنسان الذي يحدث فيه التأثير، أو منفعة الذين يسمعون منه عن هذا التأثير؟
وكما إنَّا نتأثر في الحلم الذي نسمعه، والذي تتأثر به جسديًا حواس السمع، والذي تراه عيوننا، رغم أن هذه التأثيرات لا تحس بها عيوننا الجسدية أو آذاننا، لكنها فقط تعمل في دائرة العقل (وقت الحلم)، هكذا أيضًا لم يكن هنالك شيء خارق للطبيعة إن كانت مثل هذه الأمور قد حدثت للأنبياء، عندما رأوا رؤى مذهلة، أو سمعوا أقوالا من الرب، أو رأوا السماوات مفتوحة، أو أن شكلها المادي انشق، عندما دّون حزقيال هذه الحوادث.
لذلك فلعل قارئ الأناجيل الحصيف يفسر ما يتعلق بالمخلص تفسيرًا مماثلًا، حتى ولو أحدث هذا الرأي عثرة للبسطاء، الذين يحركون -في بساطتهم المتناهية- العالم، ويمزقون كبد السماء الفسيح.
إن كل مَن يتأملون في هذا الموضوع بعمق لا بد أن يقولوا إن هنالك حاسة روحية شاملة لا يجدها علي هذه الأرض إلا الإنسان المُبارَك، هكذا قال سليمان: "إنك تجد حاسة روحية"(17) (أم 2: 5). وهنالك أشكال مختلفة لهذه الحواس: بصيرة تقدر أن تري الأشياء التي تسمو فوق الكائنات المادية، الشاروبيم والسرافيم، وحاسة السمع التي تقدر أن تتقبل مؤثرات الأصوات التي ليس لها كيان مادي في الهواء، وحاسة الذوق التي تتغذي بالخبز الحي "النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ" (يو 6: 33).
هكذا أيضًا توجد حاسة الشم التي تشم الروحيات، كما يتحدث بولس عن "رَائِحَةُ الْمَسِيحِ الذَّكِيَّةِ للهِ" (2 كو 2: 15)، وحاسة اللمس وفقًا لما قاله يوحنا إنه لمس بيديه "كَلِمَةِ الْحَيَاةِ" (1 يو 1: 1). لقد وجد الأنبياء المباركون هذه الحواس الروحية، فكانت بصائرهم وأسماعهم روحية، وبهذه الكيفية ذاقوا وشموا بحواس غير محسوسة ولمسوا "الكلمة" بالإيمان، فجاءهم منه فيض شفاهم من أمراضهم.
بهذه الطريقة رأوا ما كتبوا بأنهم رأوه، وسمعوا ما قالوا إنهم سمعوه، وكان اختبارهم مماثلًا عندما أكلوا درج الكتاب الذي أُعْطِيَ لهم، وذلك كما كتبوا في (حز 2: 9 - 3:3). هكذا أيضًا شم إسحق رائحة ثياب أبنه الروحية، وبعد البركة الروحية قال "رَائِحَةُ ابْنِي كَرَائِحَةِ حَقْل قَدْ بَارَكَهُ الرَّبُّ." (تك 27: 27). بنفس هذه الطريقة، التي نجدها في هذه المناسبات، لمس يسوع الأبرص، بطريقة روحية، لا بطريقة محسوسة، ليشفيه - علي ما أعتقد - بطريقتين، ليخلصه ليس فقط من البرص المحسوس بلمسة محسوسة كما اعتقد الجماهير، بل أيضًا من برص آخر بلمسته الإلهية الحقيقية.
علي هذا المثال "شَهِدَ يُوحَنَّا قَائلًا: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ»." (يو 1: 32 - 34). لقد انفتحت السماء ليسوع، ولم يذكر أن أحدًا غير يوحنا رأي السماء مفتوحة في ذلك الوقت.
لكن المخلص تنبأ بأن السماء سوف تنفتح بهذه الطريقة لتلاميذه -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- وقال إنهم هم أيضًا سوف يرون هذا يحدث: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ." (يو 1: 51)، هكذا أيضًا اختطف بولس إلي السماء الثالثة، بعد أن رآها مفتوحة، لأنه كان تلميذًا ليسوع. وليس هذا هو الوقت المناسب لنفسر لماذا قال بولس: "أَفِي الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللهُ يَعْلَمُ." (2 كو 12: 2).
وعلاوة علي هذا فإنني أضيف إلي بحثي النقطة التي ذكرها كلسس عندما ظن بأن يسوع نفسه تكلم عن انفتاح السماوات ونزول الروح القدس عليه في هيئة حمامة عند نهر الأردن. فالكتاب المقدس لم يبين في الواقع أنه قال إنه رأي هذا. وهذا الأخ الصادق لم يدرك أن هذا لا يتفق مع صفات مَن قال لتلاميذه وقت الرؤيا التي ظهرت علي الجبل "اَ تُعْلِمُوا أَحَدًا بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ" (مت 17: 9)، أن يكون قد أعلم تلاميذه بما رآه يوحنا وسمعه عند نهر الأردن.
ومما نلاحظه أيضًا أنه كان من عادة يسوع في كل مكان أن يتجنب الحديث عن نفسه. وهذا هو السبب في أنه قال "إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا." (يو 5: 31). وطالما كان قد تجنب الحديث عن نفسه، وأراد أن يبين أنه هو المسيح، وذلك بأعماله لا بأقواله، فعلى هذا الأساس قال له اليهود "إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جَهْرًا" (يو 10: 24).
وكما أن هذا يهودي ذاك الذي الذي تحدث ليسوع -في هجوم كلسس- عن نزول الروح القدس مثل حمامة قائلًا «ليس هنالك برهان سوي كلامك والدليل الذي قد تقدمه عن أحد الذين عوقبوا معك»، فإننا نعلمه بأن هذه الأقوال التي وضعها في فم اليهودي لا تتفق مع صفاته. فاليهود لم يروا هنالك علاقة بين يوحنا ويسوع، ولا بين معاقبة يوحنا ومعاقبة يسوع. لذلك نري هنا أيضًا أن ذاك الذي افتخر بأنه يعرف كل شيء يُتهم بأنه لا يعرف أي كلام ينسبه لذلك اليهودي في حديثه ليسوع.
_____
(17) ملاحظة من الموقع: النص الأصلي هو "تَجِدُ مَعْرِفَةَ اللهِ"، وهي بنفس المعنى.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-morcos-dawoud/against-celsus/baptism.html
تقصير الرابط:
tak.la/q5z4q55