د. هادي، طبيب متفوق خجول أقرب إلى الانطواء، وصل سن الخامسة والخمسين ولم يتزوج، ربما بسبب خجله وهدوءه الزائد أو تردده أو ظروف مرض والديه، حتى رحلا إلى السماء خلال السنوات الأخيرة. ولكن د. هادي كان دائمًا حزينًا!
لم يكن له أصدقاء، وحتى الأصدقاء القدامى أصبحوا متزوجين ولهم أولاد، وكثيرون منهم سافروا والكل مشغول. وكانت علاقته بالكنيسة علاقة رسمية حرفية، القداس، الاعتراف كل شهرين، الصلاة دقائق (كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى). كان يتجنب الكبائر -كما يسميها- لكنه كان سريع الغضب، يصارع أفكاره الممتلئة شكوك ووساوس بالجملة، لم يكن د. هادي سعيدًا!
كان يؤرقه عدم الزواج، لكنه فضّل أن يغرق في عمله ومرضاه، وكان ناجحًا؛ كان يخاف مما يسمعه من مشاكل زوجية، وكان يرى دائمًا أنه لم يعد السن مناسبًا للزواج، ولكنه كان وحيدًا حزينًا.
ظل د. ممدوح صديقه الوحيد المتدين -كما كان يسميه- يدعوه للخدمة، وكان د. هادي يتهرب قائلًا: "الخدمة دي للناس الفاضية اللي مش لاقية حاجة تعملها".
ولكن د. هادي كان يغير من د. ممدوح وشخصيته ومحبة الناس له، وانطلاقه في الخدمة وقدرته على التوفيق بين بيته وأولاده وعيادته وخدماته الكثيرة في كل مكان. ومع الإلحاح، قرر د. هادي أن يجرب مرة حين طلب منه د. ممدوح أن يشاركهم في قافلة طبية لقرية فقيرة مسافة سفر 3 ساعات رايح راجع، وكان اليوم مناسبًا له.
وأخذ د. هادي أدواته، وتحركت القافلة المكونة من أربعة سيارات ملاكي كلهم أطباء من الكنيسة، منهم من هم أصغر منه وقليلون أكبر منه سنًا، ولكن الكل كان يحترمه لسمعته الطيبة وجديته الملحوظة.
تعجب د. هادي في نفسه إن كل هؤلاء ليسوا من الناس الفاضية -كما كان يقول عليهم- وبعضهم أسماء مشهورة، وكل دقيقة عندهم غالية، لكن كلهم فرحانين بالخدمة بلا حساب للوقت أو الجهد.
وصلت القافلة القرية، ووجد د. هادي أن أبونا الكاهن بسيط، رجل حكيم جدًا ومنظم، قد أعد غرف بسيطة تصلح لأن تكون عيادات متخصصة لهذا اليوم فقط. وفريق من شباب القرية لتنظيم دخول المرضى الفقراء، ومكان للأدوية، ونظام للتحويلات للمستشفى للأشعة، ومعمل صغير أحضره د. ممدوح حسب تخصصه للتحاليل الأولية.
فأعجب جدًا بهذا الترتيب المُحكم بالرغم من ضيق الظروف والمكان وبساطة إمكانيات القرية.
وفوجئ د. هادي إن في انتظارهم مئات من المرضى، واقفين طوابير، وفيزيتا منخفضة جدًا، خمسون قرشًا فقط، وضحك في نفسه قائلًا: "بقيت دكتور من أبو خمسين قرش". ووجد وسط المرضى كثيرون من غير المسيحيين يعاملون بكل احترام من خدام القرية كأهل وأصدقاء وأحباء، وبدأت الكشوف ومرت الساعات، وفوجئ أنه اشتغل سبعة ساعات متواصلة دون أن يلتفت للوقت حتى إنه بدأ يدوخ من التعب. ولم يخرج مريض من عنده إلا ودعى له بالبركة والخير والستر، وكان د. هادي يتأثر من بساطة الناس، ومع التعب الشديد والإرهاق، أخذ الكل فسحة من الوقت ليأكلوا معًا ويرتاحوا قليلًا.
ووجد د. هادي نفسه لأول مرة من سنين يضحك مع الأطباء، ويتكلم بطلاقة، ويحكي عن الست أم راضي إللي قعد يفهم منها أي شكوى وفي الآخر طلعت عاوزه حبوب منع الحمل! وبعد الراحة والأكل، استمرت الخدمة ثلاثة ساعات أخرى، ودخل د. ممدوح عيادة د. هادي قائلًا: "ياللا يا هادي، كفاية، لازم نمشى، الدكاترة استوت". فأجاب د. هادي: "معلش يا ممدوح فاضل ثلاثة، مش معقول يمشوا!". فخرج ممدوح بالإجابة وقال في سره "أخيرًا الصنارة غمزت". وفي الرجوع نام الكل تقريبًا من التعب.
وعند باب الكنيسة قال د. ممدوح لد. هادي: "تعبناك يا دكتور". أجاب د. هادي: "ده أحلى يوم في عمري يا ممدوح، من فضلك ما تحرمنيش من الخدمة دي، أنا مستني المرة اللي جاية بفارغ الصبر". ثاني يوم، دخل د. هادي عيادته بابتسامة عريضة على شفتيه وتذكر الطوابير الطويلة والدعاوي الحلوة واليوم الطويل وقال في باله:
"صحيح طلعت الخدمة أحلى من الشغل".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-dawood-lamey/service/busyness.html
تقصير الرابط:
tak.la/2s87fqr