تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "قيامة المعمودية" أي إقامتها للمعتمد من موت الخطية، على مثال تغطيس الطفل في جرن المعمودية وانتشاله منه، لأن المعمودية رمز لسر موت المسيح وسر قيامته، بدليل قول بولس الرسول "فدفنا معه بالمعمودية للموت" (رو 6: 3)، وبهذه المعمودية يولد المعتمد ولادة جديدة إذ تمحى عنه الخطية الجدية فضلًا عن خطاياه السابقة، ولهذا قال السيد "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله".
فالنبوة الأولى تتكلم عن إقامة الله للمعتمدين كما افتدى إسحق بالكبش، لأن ذبحه كان رمزًا لموت المخلص، إذ قد ذبح بالنية وعاد حيًا كما مات المسيح وقام. وبما أن المعمودية مثال لسر موت المسيح وسر قيامته، فكأن ذبح إسحق هنا كناية عن المعمودية التي فيها يدفن الطفل وينتشل مطهرًا من الخطية. وتتكلم النبوة الثانية عن خلاصه لهم وهو الخلاص المترتب على المعمودية كقول إشعياء إن إسرائيل خلص بالرب خلاصًا أبديًا؛ والثالثة عن تحذيره لهم بعد المعمودية من الخطية كما حذر الحكيم في أمثاله من المرأة الجاهلة التي تغرى عابري الطريق وقوله إن من كان غرا مال إليها ؛ والرابعة عن حثهم على تعظيم أعماله كما يوصى أيوب بضرورة تعظيم هذه الأعمال ؛ والخامسة عن مخافتهم له كما أوصى بذلك أليهو بعد أن حدث أيوب عن قوة الله التي لا تدرك ؛ والسادسة عن نجاته لهم كما نجا طوبيا من الموت.
ويتكلم إنجيل باكر عن تبرير المخلص للمعتمدين كما قال إن من يؤمن به لا يدان، وإنجيل القداس عن حثهم على المعمودية كما قرر أن من لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.
ويحذرهم الرسول في البولس من السقوط ثانية في الخطية بعد المعمودية إذ يخاطبهم قائلًا "من ظن أنه قائم فليحذر أن يسقط"، ويوصيهم يوحنا في الكاثوليكون بعدم محبة العالم إذ يقول "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم"، أما الإبركسيس فيتكلم عن حلول الروح القدس عليهم بعد المعمودية كما وضع بطرس ويوحنا الأيادي على أهل السامرة الذين آمنوا فنالوا الروح القدس.
إن كان نجم إبراهيم أب الآباء قد تلألأ في سماء الروح إنما من أجل إيمانه الذي رفعه فوق الأحداث، فكانت العطايا تزيده شكرًا لله دون تعلق بها، والضيقات تزكيه أمام الكل.. لقد عاش سنوات غربته سلسلة من النصرات غير المتقطعة. الآن إذ فرح مع امرأته سارة من أجل إسحق ابن الموعد اللذين قبلاه في شيخوختهما عطية إلهية فائقة، فقد طلبه الرب منه ذبيحة حب. وبقدر ما قست التجربة جدًا تمجد إبراهيم وإسحق ابنه، فصارا يمثلان صورة حية لعمل الله الخلاصي خلال ذبيحة الصليب وإعلان قيامة المسيا.
إن كانت الكنيسة تعتز بيوم " الخميس الكبير " أو " خميس العهد " الذي فيه تذكر تقديم السيد المسيح ذبيحة العهد الجديد لتلاميذه قائمة على الصليب، لم تجد الكنيسة صورة أوضح من تقدمة إبراهيم إسحق ابنه محرقة للرب كصورة حية لعمل الصليب، حيث يقدم الآب ابنه فدية عن خلاص العالم، لهذا جاءت "قسمة قداس خميس العهد" منصبة على ذبح إسحق، وستبقى الأجيال كلها ترى في هذا العمل الإيماني مثلا حيًا وفائقا يكشف عن ذبيحة السيد المسيح.
يقول الكتاب: "وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له: يا إبراهيم، فقال: هأنذا. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك " (ع 1، 2).
سمح الله لإبراهيم بالتجربة لكي يزكيه أمام الكل ويعلن إيمانه القوى الخفي، فيكون مثلًا حيًا للآخرين.
بالروح عرف الرسول بولس عاطفة إبراهيم وأفكاره،معلنًا إياها بقوله: " بالإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مجرب، قدم الذي قبل المواعيد وحيده، الذي قيل له بإسحق يدعى لك نسل، إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات " (عب 11: 17). لقد سلمنا الرسول أفكار هذا الرجل المؤمن، إذ كانت أفكاره هكذا من جهة إسحق، وهذه هي أول مرة يظهر فيها الإيمان بالقيامة، فقد ترجى إبراهيم قيامة إسحق – هكذا كشفت التجربة عن قلب إبراهيم أب الآباء كإنسان يؤمن بالقيامة من الأموات.
إن كان إبراهيم انطلق بابنه نحو المذبح، فقد رجع من التجربة يحمل إسحق وكأنه قائم من الأموات، رمزا للسيد المسيح الذبيح القائم من الأموات.
لماذا طلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة، مع أن الشريعة الموسوية فيما بعد حرَّمت الذبائح البشرية ؟
بلا شك كان الوثنيون يقدمون أبكارهم ذبائح لآلهتهم، وكانت هذه التقدمات لا تحمل حبًا من جانب مقدميها بقدر ما تكشف عن روح اليأس الذي يملأ قلوبهم، إذ كانوا يودون غفران خطاياهم بأي ثمن، كما كانوا يودون استرضاء آلهتهم المتعطشة إلى الدماء! لهذا فإن الله طالب إبراهيم خليله بهذه التقدمة ليعلن للوثنيين قلب إبراهيم المحب لله، إذ هو مستعد أن يقدم أثمن ما لديه، وفي نفس الوقت إذ قدم الله كبشًا عوض إسحق أعلن عدم قبوله الذبائح البشرية، ليس عن جفاف في محبة المؤمنين لله، وإنما في تقدير الله للإنسان، إذ لا يطلب سفك دمه وهلاكه! الله لا يطيق الذبائح البشرية، إذ هو محب للبشر، يشتهى حياتهم لا هلاكهم، مقدمًا ابنه الوحيد فدية عنهم، هذا الذي وإن صار إنسانًا لكنه وحده لا يقدر الموت أن يملك عليه ولا الفساد أن يقترب منه.
" فبكر إبراهيم صباحًا وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه ومعه إسحق ابنه وشقق حطبًا لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله " (ع 3).
إذ سمع إبراهيم الأمر الإلهي مع ما بدأ كمتناقض لمواعيده السابقة في طاعة قام لينفذ الأمر، انطلق للعمل "باكرًا" في الصباح دون تراخ من جانبه، وبغير جدال أو شك في مواعيد الله.
" وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد " (ع 4).
إن اليوم الثالث إنما يشير إلى قيامة السيد المسيح، وكأن إبراهيم قد دخل مع الرب في القبر وعاش معه آلامه حتى انبثق نور قيامته في فجر الأحد (اليوم الثالث) فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد.
كانت عيناه قبلًا منخفضتين نسبيًا ومتذللتين؛ ربما حاربه العدو بسارة التي تركها الآن في الخيمة ولم يخبرها عن خروجه مع ابنه ليذبحه.. أو ربما أراد الشيطان أن يشككه في مواعيد الله له..، وربما حاربه بمحبته لابنه وشفقته عليه..، لكن على أي الأحوال لم يتوقف إبراهيم عن السير في الطريق ثلاثة أيام، وكأنه ببني إسرائيل الذين طلب إليهم الرب أن يقدموا ذبيحة على مسيرة ثلاثة أيام (خر 5: 3)، إذ لا تقبل ذبيحة خارج دائرة قيامة ربنا يسوع المسيح. هكذا في اليوم الثالث رأى إبراهيم علامة القيامة بطريقة أو بأخرى فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد، ما هو هذا الموضع إلا السيد المسيح نفسه الذي فيه يرى إسحق ابنه قائمًا من الموت معه وبه أيضًا!
امتلأت نفس إبراهيم تعزية لمعاينة سر المصلوب القائم من الأموات، فتهلل في داخله إذ رأى يوم الرب (يو 8: 56). تحول أتون التجربة إلى ندى سماوي بظهور السيد المسيح المصلوب القائم من الأموات أمام بصيرة إبراهيم أب الآباء.
بلغ إبراهيم الموضع الذي رسمه الله، والمذبح قد بنى، والحطب الذي حمله إسحق قد رتب، وربط إسحق بيدي أبيه ووضع على المذبح فوق الحطب، ومد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبحه.. كانت الأمور تسير في جو من الهدوء الداخلى، إبراهيم يؤمن بالله الذي لن يتخلى عن مواعيده، وإسحق في طاعة يمتثل للذبح ولم تبق إلا لحظات ليذبح الابن ويقدم محرقة.
قُبلت تقدمة إبراهيم وإن لم تتحقق بطريقة حرفية، الله لا يطلب الدم بل الطاعة اللائقة. وحسب إسحق ابنًا للطاعة إذ قبل الصليب بإيمان.
وفي اللحظة الحاسمة وسط الهدوء الشديد إذ بملاك الرب ينادى إبراهيم:
"إبراهيم إبراهيم".. لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عنى " (ع 11، 12).
رأى إبراهيم كبشا موثقا بقرنيه في الغابة، وأصعده محرقة عوضًا عن ابنه، وكأنه رمز للسيد المسيح الذي علق على خشبة الصليب وسمر بذراعيه المفتوحتين لأجل خلاص العالم.
خلال الذبيحة تمتع إبراهيم برؤية الرب كما تمتع بتجديد الوعد بطريقة فاقت المرات السابقة، الوعد هنا أبرز أبوته الروحية، إذ يقول: إذ كان يليق به أن يكون أبا للذين هم من الإيمان (غل 3: 9) ويدخل الميراث خلال آلام المسيح وقيامته..
الوعد الأول حيث كان (الصوت الإلهي) في الأرض: "ثم أخرجه إلى خارج -خارج الخيمة- وقال له: أنظر إلى السماء وعد النجوم إن استطعت أن تعدها، وقال له هكذا يكون نسلك" (تك 15: 1).
أما في تجديد العهد فيظهر الكتاب أن الصوت جاء من السماء (22: 11)، الأول جاء من الأرض والثاني من السماء، ألا يبدو في هذا وجود رمز لحديث الرسول:
"الإنسان الأول من الأرض ترابي، والإنسان الثاني الرب من السماء" (1 كو 15: 47)؟
لعل انطلاق الغلامين إلى بئر سبع مع إبراهيم وإسحق في نهاية المطاف يشير إلى عودة اليهود إلى الإيمان بالسيد المسيح الذي لم يستطيعوا قبلًا معاينة سر ذبيحته.. فينطلقوا في آخر العصور إلى مياه المعمودية ويقبلوا من قد جحدوه.
1 فاني لست أريد
أيها الأخوة أن تجهلوا أن أباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم إجتازوا في
البحر
2 وجميعهم إعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر
3 وجميعهم أكلوا طعامًا واحدًا
روحيًا
4 وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح
5 لكن بأكثرهم لم يسر الله لأنهم طرحوا في القفر
6 وهذه الأمور حدثت مثالًا لنا حتى لا نكون نحن مشتهين شرورًا كما إشتهى اولئك
7 فلا تكونوا عبدة اوثان كما كان اناس منهم كما هو مكتوب جلس الشعب للأكل والشرب
ثم قاموا للعب
8 ولا نزن كما زنى أناس منهم فسقط في يوم واحد ثلاثة وعشرون الفًا
9 ولا نجرب المسيح كما جرب أيضًا اناس منهم فأهلكتهم الحيات
10 ولا تتذمروا كما تذمر أيضًا أناس منهم فأهلكهم المهلك
11 فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالًا وكتبت لإنذارنا نحن الذين إنتهت إلينا أواخر
الدهور
12 اذًا من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط
13 لم تصبكم تجربة إلا بشرية ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون
بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا ان تحتملوا.
أولًا: ما هو موقف المؤمن من الولائم في هيكل وثني؟
ثانيًا: ما موقفه من اللحوم في السوق العام؟
ثالثًا: ما موقفه من الدعوة إلى وليمة في بيت صديقٍ وثنيٍ؟
لم يجب الرسول بولس علي هذا السؤال الخاص بموقف المؤمن من الدعوة الموجهة إليه للاشتراك في وليمة مُقامة داخل هيكل وثن بالقبول أو الرفض، لكنه قدم مبادئ هامة خلالها يستطيع المؤمن أن يأخذ قراره من داخله وليس كأمرٍ يصدر إليه. هذه المبادئ هي:
اللَّه في حبه للبشرية يبسط يديه ليهبهم عطايا بلا حصر، لكن مسرته أن يرانا علي صورته ومثاله مقدسين في الحق كما هو قدوس والحق ذاته. فالعطايا الإلهية ليست مقياسًا لرضاه عنا، إنما تقديسنا هو موضوع مسرته بنا.
"فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا،أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة،وجميعهم اجتازوا في البحر" [1].
الآن يقدم لهم كنيسة العهد القديم كمثال كيف تمتعت بهباتٍ إلهيةٍ كثيرةٍ، لكن هذه العطايا لم تبررهم، فإن ما يسر اللَّه هو قداسة الكنيسة. وكأن غنى عطايا اللَّه لنا وكثرة المواهب التي يمنحنا إياها لا تبررنا إن أهملنا خلاصنا. هكذا يود الرسول أن يؤكد لهم أنه عوض المشاحنات خاصة إن كانت في أمر أكلٍ أو شربٍ يليق بهم أن يهتموا بالخلاص على مستوى الجماعة كما على مستوى الأشخاص بتنقية حياتهم بروح اللَّه الساكن فيهم.
يربط الرسول بين كنيستي العهد القديم والعهد الجديد، حاسبًا رجال الإيمان في العهد القديم آباء رجال العهد الجديد.
يكرر الرسول كلمة "جميعهم" خمس مرات في الآيات 1-4، ليؤكد عدم محاباة اللَّه، فهو يقدم عطاياه للجميع بسخاء، ومع هذا لم يُسر إلا بمن يتجاوب مع حبه بالقداسة. العطايا مقدمة للجميع لكن المكافأة لمن يتقدس للرب.
كان غالبية شعب كنيسة كورنثوس من الأمم إلا أن جميعهم لا يجهلوا معاملات اللَّه مع الشعب القديم، كيف اختارهم وخرج بهم من مصر، وقدم لهم سحابة تظللَّهم علامة رعايته الفائقة لهم كمن تحت جناحيه، واجتاز بهم البحر لكي يفصلهم عن فرعون وجنوده الوثنيين، ومع هذا كله لم يُسر اللَّه بأكثرهم لأنهم لم يتجاوبوا عمليًا مع الدعوة التي دعوا إليها. فكيف يمكن لرجال العهد الجديد أن يتجاسروا ويدخلوا بكامل حريتهم إلى هياكل الأوثان ليشتركوا في موائدها ويظنون أن اللَّه يُسر بهم.
بمعني آخر يقول لهم بأن اللَّه أخرج الشعب وعزلهم بالبحر عن الجو الوثني فهل تندفعون بإرادتكم إلى جو مفسد؟!
تمتع الشعب القديم بالخروج من مصر والتحرر من عبودية إبليس، وواضح من الكتاب المقدس أن هذه السحابة العجيبة التي قدمها اللَّه لشعبه في البرية حققت ثلاث وظائف:
+ كانت سحابة في شكل عمود يقودهم ويوجههم في البرية نهارَا.
+ كان عمودًا من النور يضيء المحلة بالليل.
+ كانت السحابة مظلة تقيهم من حرارة الشمس (مز 105: 39).
"وجميعهم شربوا شرابًا واحدُا روحيًا،لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم،والصخرة كانت المسيح" [4].
يبدو أن البعض كانوا يعتمدون علي تناولهم من جسد الرب في سرّ الإفخارستيا كتأكيد لخلاصهم مع تهاونهم في سلوكهم مثل الشركة في ولائم هياكل الأوثان. لذا قدم لهم الشعب القديم هؤلاء الذين أكلوا طعامًا واحدًا روحيًا، الذي هو المن، رمز جسد المسيح (يو 6: 31) الخبز النازل من السماء الذي يعطي حياة للعالم [33]، وهو خبز الحياة [48]، ومع هذا إذ لم يتقدسوا للرب هلكوا.
هل كانت الصخرة بالفعل تتبعهم؟ أم أن الحديث هنا رمزي؟ كان قدامى اليهود يعتقدون بأن ينبوع المياه كان يسير معهم طوال رحلتهم، يصعد معهم علي الجبال وينزل معهم في الوديان. وهم يعتمدون في هذا علي النشيد: "اصعدي أيتها البئر! أجيبوا لها. بئر حفرها رؤساء، حفرها شرفاء الشعب، بصولجان، بعصيهم. ومن البرية إلى متانة.. إلخ." (عد 21: 17 -20)
دُعي شرابًا روحيًا مع أنه ماء عادي يروي الأجساد لكنه قدم بطريقة فائقة للطبيعة:
فاض الينبوع مياهًا تروي حوالي 2 مليون شخصًا. قيل عن المياه التي فاضت إنها جدول مياه، ومجري مياه، وسيل، ونهر (عد 34: 5، يش 15: 4، 47، 1 مل 8:65، 2 مل 24:7) ينزل من الجبل هذا يدل علي أن جدول المياه كان متسعًا جدًا.
جبل حوريب مرتفع عن البلد الملاصقة له، وكأن المياه كانت تندفع منحدرة علي الجبل، لا تتجمع في حوض مياه، بل تتدفق نحو البحر في غير سكون. كأن المياه قد أوجدت نهرًا جاريًا يسير معهم في رحلتهم. إن قيل انه لا يوجد الآن ينبوع مياه يقيم نهرًا في تلك المنطقة، فالإجابة علي ذلك أن هذه العطية كانت هبة مقدمة للشعب علامة اهتمام اللَّه به، كما كان يقدم لهم منًا من السماء يكفي مليونين شخصًا ليأكلوا ويشربوا كل هذه السنوات.
"وهذه الأمور حدثت مثالًا لنا، حتى لا نكون نحن مشتهين شرورا كما اشتهي أولئك" [6].
كان الكورنثوسيون يشبهون إسرائيل القديم إذ نالوا عطايا إلهية كثيرة، وقابلوا ذلك بالتذمر والشر عوض الشكر والقداسة، فصاروا تحت خطر الهلاك الذي حل بإسرائيل في البرية.
"فلا تكونوا عبدة أوثان كما كان أناس منهم، كما هو مكتوب:جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب" [7].
اعتبر القديس بولس مشاركتهم في الولائم الوثنية بالهيكل ممارسة فعلية لعبادة الأوثان.
"قاموا للعب": كان اليهود بوجه عام يفهمون اللعب هنا بمعني ممارسات دنسة تصحب العبادة الوثنية، كالرقص الخليع تكريمًا للآلهة.
"ولا نزنِ كما زنى أناس منهم، فسقط في يوم واحد ثلاثة وعشرون ألفًا" [8].
في سفر العدد (25: 9) عدد الذين هلكوا 24 ألفًا، فلماذا يذكر هنا 23 ألفا؟ لأن اللَّه طلب من موسى تعليق الرؤساء مقابل الشمس هؤلاء يبلغ عددهم حوالي الألف شخصًا بجانب الـ23 ألفا الذين هلكوا بالوباء.
"ولا نجرب المسيح كما جرب أيضًا أناس منهم،فأهلكتهم الحيات" [9].
يشير هنا إلى "المسيح" في العهد الجديد، هذا الذي كان يدعي "يهوه" في العهد القديم، فقد جربه اليهود بجحدهم لعنايته الإلهية وتذمرهم عليه.
"ولا تتذمروا كما تذمر أيضًا أناس منهم، أهلكهم المهلك" [10].
تذمر عليه اليهود بسبب المن، وظنوا أن الوعود الإلهية التي قُدمت لهم في مصر لم تتحقق، فأهلكتهم الحيات، وأصابهم الوباء. كما تذمر إسرائيل علي اللَّه وعلي نبيه موسى، هكذا شعب كورنثوس تذمروا علي اللَّه ورسوله بولس.
وتذمر الإسرائيليون عند موت قورح وجماعته (عد 16: 41، 49)، وحُسبت شكواهم ضد موسى وهرون أنها ضد اللَّه نفسه (خر 16:8). وقد اقتبس الرسول بولس ذلك حاسبا أهل كورنثوس متذمرين علي المسيح لأنهم تذمروا علي رسوله.
1 كان إنسان من
الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود
2 هذا جاء إلى يسوع ليلًا وقال له يا معلم نعلم انك قد أتيت من الله معلمًا لأن
ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الأيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه
3 أجاب يسوع وقال له الحق الحق اقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر ان يرى
ملكوت الله
4 قال له نيقوديموس كيف يمكن الإنسان ان يولد وهو شيخ العله يقدر أن يدخل بطن أمه
ثانية ويولد
5 أجاب يسوع الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن
يدخل ملكوت الله
6 المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح
7 لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق
8 الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تاتي ولا الى أين تذهب
هكذا كل من ولد من الروح
9 أجاب نيقوديموس وقال له كيف يمكن أن يكون هذا
10 أجاب يسوع وقال له أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا
11 الحق الحق اقول لك إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما راينا ولستم تقبلون
شهادتنا
12 إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون ان قلت لكم السماويات
13 وليس أحد صعد الى السماء إلا الذي نزل من السماء إبن الإنسان الذي هو في السماء
ليس من أصحاح في العهد الجديد يبدو في صعوبة هذا الأصحاح، ومع هذا فقد جذب كثيرين من غير المؤمنين إلى الإيمان المسيحي. فعنده تقف نفس غير المؤمن الجادة في طلب خلاصها لتجد نفسها محتاجة مع نيقوديموس أن تدخل في حوار سري مع السيد المسيح، وإذ تتعرف على الإمكانيات الجديدة الموهوبة لها. تنحني أمامه تطلب الإتحاد معه لتتمتع بروحه القدوس بالميلاد الثاني الجديد خلال العماد.
في نفس خط تأكيد الحياة المسيحانية الجديدة: خمر جديدة وهيكل جديد، كان لابد من الكشف عن الولادة الجديدة.
يبقي هذا اللقاء الفريد بين شخصية فريسية ممتازة وبين شخص السيد المسيح ينبوع روحي حي يفيض على كل نفس جادة في خلاصها. فقد كان نيقوديموس كفريسي، رجل عالم في دراسة التوراة والتقليد اليهودي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ورجل أخلاقي يؤمن كغيره من الفريسيين أنه في قدرة الإنسان إن أراد أن يفعل برّ الناموس، يعتمد على جهاده الذاتي وإرادته البشرية، يتمسك بحرفية الناموس، ويحسب نفسه حافظًا لها. يري في المسيح معلمًا يهوديًا مهتمًا بالناموس، ولعله كان أحد الكثيرين الذين ذكرهم الإنجيلي: "ولما كان في أورشليم في عيد الفصح آمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات التي صنع" (يو 2: 24)، آمن أنه أتى من الله (يو 3: 2). ولعله كان يرجو في يسوع أن يكون مصلحًا أخلاقيًا، يقوم على أساس حفظ الناموس حرفيًا، وأن يصلح من شأن الأمة اليهودية.
لم تكن عقلية نيقوديموس وخبرته تؤهلانه لقبول الحياة الجديدة في المسيح يسوع، خلال الميلاد الجديد، والتمتع بناموس روحي جديد. كان محتاجًا أن يرفع السيد المسيح فكره وقلبه وكل أحاسيسه وطاقاته نحو السماء ليدرك حاجته إلى الميلاد الجديد خلال ذاك "الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء"، فهو وحده يصعد إلى السماء ليحمل مؤمنيه معه كأبناء لله يتمتعون بالبنوة للآب فيه.
لقاء نيقوديموس مع السيد المسيح ليلًا يسحب القلب نحو شخص السيد المسيح للتعرف على اهتمام السيد المسيح بكل نفسٍ بشريةٍ، ولطفه مع صراحته في الحديث معها.
رأينا الكلمة الحال في وسطنا ليقيمنا أبناء لله، (ص1)، الآن يعلن كيفية الميلاد الجديد في حديثه مع نيقوديموس رئيس اليهود. اشتاق نيقوديموس أن يرى الملكوت، فأكد له السيد الحاجة إلى المعمودية بالماء والروح. ليعيش المؤمن دومًا كابن لله يسلك بالروح. في هذا الإصحاح يرفعنا من الأرضيات إلى الانشغال بالسماويات خلال إتحادنا بالسماوي الذي نزل إلينا وصعد ليصعدنا معه، إذ هو قائم في السماء (13).
يربط العماد بالصليب حيث يعلن الآب حبه لكل البشرية ببذل ابنه لكي يتمتع العالم بالحياة الأبدية (16).
وإذ يشير إلى الميلاد الجديد يسحبنا من الخوف من الدينونة إلى التمتع بالنور الإلهي (21).
إذ رأى يوحنا المعمدان ما حدث في عماد السيد المسيح وما حمله هذا من تمتع المؤمنين به بالبنوة، كمل فرحهُ. لقد سمع صوت العريس يخطب عروسه لتحيا معه في الأمجاد السماوية (29).
"كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود". (1)
نيقوديموس: اسم يوناني معناه "المنتصر على الشعب". كان رئيسًا لليهود، أي عضوًا في مجمع السنهدرين، المجلس الأعلى للأمة اليهودية.
الدعوة الإلهية موجهة إلى كل البشرية بكل فئاتها، لكن قليلين من أصحاب المراكز الدينية والزمنية ومن لهم مراكز قيادة أن يستجيبوا للدعوة. وجد قلة قليلة جدًا من بين الفريسيين، أقل من إصبع اليد الواحدة، ممن تجاوبوا مع هذه الدعوة، من بينهم نيقوديموس. جاء إلى السيد المسيح ربنا وحده أو معه أحد تلاميذه أو أكثر. لم يستخف السيد بالنفس الواحدة، فإنه احتمل موت الصليب من أجل كل نفس.
حقًا لقد حمل الفريسيون روحًا مضادة ومقاومة للحق الإلهي، لكن وُجد بين هؤلاء المتعلمين الدارسين من يشتهي اللقاء مع السيد، وقد وجدوا بابه مفتوحًا. نعمة الله تعمل في الأميين كما في الدارسين، وفي العامة كما في القيادات، وفي البسطاء كما بين المقاومين. لقد جاء نيقوديموس إلى السيد، وبقي في مركزه بين المقاومين، ووضع قلبه أن يعمل حينما تُتاح له الفرصة قدر المستطاع. وقد حان الوقت حين لم يستطع التلاميذ أن يعملوا ليعمل هو، فأخذ تصريحًا من بيلاطس كي يدفن جسد السيد المسيح في قبره الخاص الجديد.
"هذا جاء إلى يسوع ليلًا، وقال له: يا معلم نعلم أنك قد أتيت من اللَّه معلمًا، لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل، إن لم يكن اللَّه معه". (2)
كلما أشار الإنجيلي يوحنا إلى شخص نيقوديموس يربطه بزيارته للسيد المسيح ليلًا، وقد كرر ذلك ثلاث مرات في هذا السفر (3: 2؛ 7:50؛19: 39). لماذا جاء إلى يسوع ليلًا؟
أ. شعر أنه لا يكفيه أن يسمع أحاديثه العامة، ولا أن يتمتع برؤية معجزاته العلنية، بل هو محتاج إلى جلسة هادئة مع السيد المسيح فيما يخص خلاص نفسه. محتاج إلى حوار شخصي معه (ملا 2: 7). إن كان الابن الوحيد الجنس كثيرًا ما كان ينسحب من الجماهير بل ومن التلاميذ الأخصاء ليقضي الليل كله في حديث ممتع مع الآب، ألا يحتاج كل إنسانٍ منا أن يترك كل شيء ويجلس، خاصة بالليل، مع مسيحه ليدخل معه في حوارٍ شخصي، ويتمتع بالحياة الجديدة والشركة معه؟
ب. لعله من باب الحكمة اختار المساء، لأن السيد المسيح كان مشغولًا طوال النهار بالخدمة العامة، فانتظر نيقوديموس حتى المساء ليلتقي مع السيد في وقت راحته، في حديث ودي.
ج. لعله إذ دهش برؤية بعض المعجزات انتهز أول فرصة للقاءه الشخصي معه. بينما الكل نيام أراد أن يقضي سهرة روحية مع السيد المسيح، ولعله خشي ألا يجد مثل هذه الفرصة في المستقبل. كان نهازًا للفرص! إنه تمثل بداود النبي الذي كثيرًا ما كان ينتهز فرصة الليل للتأمل (مز 36: 6؛ 119: 148).
د. لعل أيضًا الدافع لمجيئه ليلًا أنه خشي أن يبلغ الخبر إلى رؤساء الكهنة فيثوروا بالأكثر ضد السيد المسيح، أو يسيئون هم والرؤساء والفريسيون إلى نيقوديموس نفسه. ربما كان ينقصه نور الإيمان، لقد انجذب إلى شخص يسوع، لكنه لم يكن بعد قد عرفه عن قرب، ولا تعرّف على حقيقته أنه نور العالم. لقد كان قائدًا يهوديًا (1)، ومعلم إسرائيل (10)، يحتاج إلى الميلاد الجديد ليتمتع بمفاهيم جديدة للمملكة السماوية المسيحانية. في ضعف إيمانه جاء ليلًا، وقد وجد باب قلب سيده مفتوحًا، ولم يجرح مشاعره بكلمة عتاب واحدة. على أي الأحوال كان إيمانه أشبه بحبة الخردل الحية التي نمت وظهرت كشجرة عظيمة عندما مات السيد المسيح، فتقدم بشجاعة ليطلب جسد السيد.
"أجاب يسوع وقال له: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يُولد من فوق (جديد)، لا يقدر أن يرى ملكوت اللَّه". (3)
اعتبر نيقوديموس صنع الآيات دليلًا على أن يسوع هو من عند الله. فقد كان الربيون يربطون بين التقوى وعمل الآيات. ولم يكن نيقوديموس قادرًا أن يتعدى هذه الحدود ليدرك حقيقة شخص يسوع المسيح، فرآه معلمًا تقيًا، رجل الله، يتمتع بمعية الله، كما تمتع يعقوب حيث قال له الرب: "لا تخف لأني معك" (تك 26: 24). ويشوع بن نون: "كما كنت مع موسى أكون معك" (يش 1: 5) وكثير من الآباء والأنبياء لم يستطع نيقوديموس بفكره الفريسي مع تقواه أن يتعدى هذه الحدود. هذا هو ما تعلمه، وهذا هو ما كان يعيشه في الجو اليهودي.
جاء حديث السيد المسيح معه يبرز النقاط التالية:
أ. الحاجة الماسة إلى ميلادٍ جديدٍ لمعاينة عالمٍ جديدٍ في داخله "ملكوت الله" (3). لذلك دعيت ولادة جديدة أو ولادة ثانية، كما جاءت في الترجمات القبطية والسريانية واللاتينية، وكما استخدمها كثير من آباء الكنيسة الأولى، مثل القديسين يوستين واكليمنضس السكندري، وترتليان، والقديسين أغسطينوس وجيروم. وقد فهم نيقوديموس كلمات السيد المسيح أنها تدعوا إلى "ميلاد جديد"، لهذا وقف في حيرةٍ وعجز: كيف يمكن لشيخ أن يدخل بطن أمه ليولد من جديد؟
ب. أن تكون الولادة من فوق، أي سماوية (3). إذ هو عمل خاص بروح الله القدوس السماوي، يهب إمكانيات سماوية إلهية تتجاوز الفكر البشري.
ج. تتحقق بالعماد من الماء والروح (5).
د. ولادة تحمل قوة فائقة كالريح ولا يُعرف سرها (8).
كان تكرار كلمة "الحق" في الكتابات اليهودية يُحسب معادلًا لقسم له قدسيته العظمى. استخدمه السيد المسيح عندما كان يشير إلى أمرٍ له خطورته الكبرى.
في لطف ينتهره السيد المسيح معلنًا له أنه لا يكفي للشخص أن يؤمن بأن يسوع هو معلم إلهي، ولا أن يُعجب من آياته بكونها آيات صادقة وفريدة، لكن الحاجة هي إلى ولادة "من فوق"، أي سماوية، لكي يعاين ما هو سماوي. فالجنين في بطن أمه لا يقدر أن يرى العالم، ولا يحمل أية خبرات فيه، ما لم يولد من رحم أمه. هكذا لا يستطيع الإنسان أن يعاين ملكوت الله، ولا أن يحمل خبرات السماء، ما لم يولد ثانية من فوق ليرى نور العالم الجديد ويعيش فيه.
بقوله "يرى" يؤكد السيد المسيح أنه يليق بالمؤمن الحقيقي الذي يتمتع بالميلاد الجديد السماوي ألا يعتز بهذا الميلاد دون أن يرى ملكوت الله داخله ويعيشه، أي يصير له الفكر السماوي والروح العلوية والمبادئ اللائقة بناموس السماء، وأهداف جديدة ورجاء جديد وإمكانيات جديدة.
بالميلاد الجديد يبدأ المؤمن حياة جديدة تمامًا، لا تقوم على تصليح كيان الإنسان، بل هدم القديم وبناء الجديد، إماتة الإنسان العتيق وقيامة الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه.
بميلادنا الأول أفسدتنا الخطية وشكَّلت أعماقنا حسب هواها، فصرنا جسدانيين، يسيطر علينا ناموس شهوات الجسد، وتسحبنا محبة العالم، ويتحكم فينا عدو الخير، فأصبح الميلاد الجديد ضرورة لا مفر منها. لهذا يقول السيد: "الحق الحق أقول لكم".
"قال له نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن يُولد وهو شيخ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟" (4)
جاء تساؤل نيقوديموس يكشف عن ضعف معرفته. بينما يتكلم السيد المسيح روحيًا كان قلب نيقوديموس مرتبطًا بالماديات. لم يكن ممكنًا أن يدرك الميلاد من فوق ما لم تُحل رباطات المادة من قلبه وفكره، فيقدر بروح الله أن يدرك الإمكانيات الروحية الجديدة.
"أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه". (5)
عاد السيد وكرر ما سبق أن أكده، ليعلن أن هذا الحق لا يمكن التهاون فيه. فإن كلمة الله ليست نعم ولا، بل هي نعم وآمين. فمع عدم إدراك نيقوديموس للميلاد الجديد يصر السيد المسيح على ضرورته. ليس من طريق آخر لمعاينة ملكوت الله والدخول فيه سوى الولادة الثانية.
لماذا يستخدم الماء؟ إشارة إلى عمل الغسل الداخلي للنفس (تي 3: 5؛ 1 كو 6: 11؛ حز 36: 52). هذا الغسل يتحقق بالروح القدس القادر وحده أن يغسل أعماق النفس ويطهرها ويجددها. كما حول السيد المسيح الماء إلى خمرٍ يفرح أهل العرس والحاضرين فيه، هكذا يقدم لنا الماء لا لتطهير الجسد خارجيًا، بل تطهير الأعماق بالروح. هذا هو الماء الذي وعد به السيد في حديثه مع السامرية، أن من يشرب منه لا يعطش. إنه ليس كماء بئر يعقوب التي شرب منها هو وبنوه والماشية إنما هي مياه حية.
"المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح". (6)
هذا هو سرّ المعمودية، بها نلنا التبني (رو 15:8)، فصرنا أبناء الملكوت، ولنا حق الميراث. خلالها يتم نزعنا من الزيتونة البرية وتطعيمنا في الزيتونة الجديدة (رو 24:11) بفعل الروح القدس. بها نحمل "الحلة الأولى" (لو 22:15)، و"حلة العرس" (مت 11:22-23) التي بدونها لا يستطيع أحد أن يتمتع بالملكوت. هكذا تحققت نبوة حزقيال: "أعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدًا في داخلكم، وانزع قلب الحجر من لحمكم، وأعطيكم قلب لحم، وأجعل روحي في داخلكم" (حز 26:36).
فليعطنا الرب أن نسلك بالإيمان وليس بالعيان، ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-botros-elbaramosy/great-lent-readings/friday-6.html
تقصير الرابط:
tak.la/9qkzqyn