تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "أمان التوبة" أي حياة الأمان من عدوان الشيطان التي يحياها التائبون ؛ فالنبوة الأولى تتكلم عن أمانة الله معهم كما أدخل بنى إسرائيل أرض الموعد من أجل آبائهم، والثانية عن نصرته لهم على أعدائهم كما نصر داود على شاول، والثالثة عن تحذيرهم من الكبرياء كما حذر إشعياء إسرائيل، والرابعة عن تنفيرهم من الشر كما بين أليفاز لأيوب ذلك، والخامسة عن وصاياه لهم كما أوصى يشوع بن سيراخ.
ويتكلم إنجيل باكر عن إقامة الله لهم يوم الدين كما ورد في مسألة المرأة ذات الأزواج السبعة، وإنجيل القداس عن تأمينه لهم كما فعل مع الأخرس الذي أخرج منه الشيطان.
أما رسالة البولس فتتحدث عن طمأنينتهم كما أطاع إبراهيم الله وخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب، والكاثوليكون عن ضرورة ثباتهم في الإيمان كما أوصاهم بذلك يهوذا الرسول، والإبركسيس عن تقوية الله لهم في شدائدهم كما وقف ببولس ليلًا وقواه.
الإصحاح التاسع
في الإصحاح السابق ركز موسى النبي على تأكيد أن ما يتمتع به الشعب من بركات ليس هو ثمر برهم الذاتي، إنما هو عطية مجانية من قبل الله الذي يشتهى أن يدخل معهم في ميثاق. يدخل بهم إلى القفر لكي يدركوا قفر طبيعتهم الداخلية. ويبعث إليهم موسى قائدًا ليعلن أنه مهتم بهم، يحملهم إليه شخصيًا.
إنه أمين في مواعيده بالرغم من عدم أمانتهم. وفي هذا الإصحاح أوضح أن الله أقام عهده مع شعبه ليسكب فيض بركاته، لا لأجل بر الإنسان الذاتي [1 – 6]، بل من أجل أمانة الله في وعوده.
فالله في أمانته قدم لشعبه الشريعة، بينما عبد الشعب العجل الذهبي [7 – 21]. لم يقف موسى النبي في سلبية أمام هذا الجرم العظيم، بل يشفع في شعب الله مذكرًا إياه بالوعود الإلهية [22 – 29].
وهنا نرى شعب الله يعبد العجل أثناء تسلم الشريعة.
وهذا ما أحزن قلب موسى أن الشعب في أقدس اللحظات التي كان الله فيها يتحدث مع موسى مقدما شريعته له التي تحذر بشدة من العبادة الوثنية ؛ كان موسى صائمًا أربعين يومًا وأربعين ليلة لا يأكل خبزًا ولا يشرب ماء، وكان الجبل يدخن بالنار في حوريب ؛ وإذا بالشعب يزوغ عن الحق، وفي عناد وصلابة رقبة يصب عجلًا ذهبيا يتعبد له.
في الموضع الذي فيه استلموا الشريعة، كسروها وفي نفس لحظات استلامها. بينما كانت عيونهم لا زالت تنظر الجبل متقد نارًا لم تلن قلوبهم، بل صبوا العجل الذهبي بسبكه في نار متقدة (يا للعجب علي ذلك!!!)
+ كان موسى في أمجد لحظات عمره على الأرض، إذ كان على قمة الجبل يتمتع برؤية ظل مجد الله، ويتسلم الشريعة التي سجلها الله على لوحين ونحتها كما بنار إلهية، وقد اهتز الجبل كله وامتلأ دخانا وضبابا. توقع عند نزوله أن يرى الشعب كله، رجالًا ونساءً، أطفالًا وشيوخًا لا يشغلهم شيء سوى استلام الشريعة. ظن أنه يرى عيونهم شاخصة نحو قمة الجبل، نسوا أكلهم وشربهم ونومهم في وسط هذا المجد العظيم. لكن نفسه تحطمت تمامًا إذ عوض النار الإلهية طلبوا من رئيس الكهنة أن يوقد نارًا يلقون فيها الحلي الذهبية ليصب لهم عجلًا مسبوكًا يكون لهم إلهًا.
الذهب الذي سمح لهم الله أن يأخذوه من المصريين عوض سنوات ذلهم وعبوديتهم قدموه للعبادة الوثنية لإغاظة الله مخلصهم.
لم يقف موسى النبي عند السلبيات مهاجمًا اتكال الشعب على برهم الذاتي، وإنما سألهم أن يسلكوا بروح إيجابية. كان يليق بهم أن يتأملوا في فيض نعمة الله وغنى عطاياه لهم. فإنه حتى بعد سقوطهم في العبادة الوثنية وتعلقهم بالعجل الذهبي، وتعبدهم له ؛ قبل الرب أن يغفر لهم، ويهبهم عطايا بلا حصر. يذكر منها أربع عطايا: إعادة كتابة لوحي الشريعة، إبقاء الكهنوت اللاوي بعدما ارتكب هرون أول رئيس كهنة خطأ فاحشا، إفراز سبط لاوي لخدمته، قبوله شفاعة موسى عنهم.
1
واما الايمان فهو الثقة بما يرجى والايقان بامور لا ترى
2 فانه في هذا شهد للقدماء
3 بالايمان نفهم ان العالمين اتقنت بكلمة الله حتى لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر
4 بالايمان قدم هابيل لله ذبيحة افضل من قايين فبه شهد له انه بار اذ شهد الله
لقرابينه وبه وان مات يتكلم بعد
5 بالايمان نقل اخنوخ لكي لا يرى الموت ولم يوجد لان الله نقله اذ قبل نقله شهد له
بانه قد ارضى الله
6 ولكن بدون ايمان لا يمكن ارضاؤه لانه يجب ان الذي ياتي الى الله يؤمن بانه موجود
وانه يجازي الذين يطلبونه
7 بالايمان نوح لما اوحي اليه عن امور لم تر بعد خاف فبنى فلكا لخلاص بيته فبه دان
العالم وصار وارثا للبر الذي حسب الايمان
8 بالايمان ابراهيم لما دعي اطاع ان يخرج الى المكان الذي كان عتيدا ان ياخذه
ميراثا فخرج وهو لا يعلم الى اين ياتي
يعتبر هذا الأصحاح تطبيقًا عمليًا من واقع رجال العهد القديم المؤمنين، فبعد أن تحدث الرسول عن السيد المسيح كرئيس الكهنة الذي فتح الأقداس السماوية، مقارنًا بين خدمة الكهنوت اللاوي والكهنوت الجديد، يؤكد ضرورة الإيمان كطريق للتمتع بهذه المقادس السماوية المفتوحة للبشرية كلها في المسيح يسوع.
"وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى.
فَإِنَّهُ فِي هَذَا شُهِدَ لِلْقُدَمَاءِ" [1-2].
الإيمان هو الثقة بالمقدسات الإلهية غير المنظورة كحقائق واقعة وحاضرة، فيحيا الإنسان في يقين من جهة الأمور غير المنظورة ولا ملموسة بالحواس.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الإيمان هو رؤية واضحة للأمور وتأكد كامل من جهة غير المنظورات كأنها من المنظورات.] [وسأوضح الأمر بأمثلة.. فقد قال الرب أن من يترك أبًا أو أمًا أو إخوة أو أخوات يصير له أباء وأمهات، فنرى ذلك القول أنه يتحقق فعلًا. وأيضًا إذ يقول: "في العالم يكون لكم ضيق لكن ثقوا (افرحوا) أنا قد غلبت العالم" (يو 16: 33)، بمعنى أنه لا يغلبك أحد، هذا يدركه (المؤمن) أنه حقيقة واقعة. وأيضًا عندما يقول أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة (مت 16: 18) حتى وإن كانت مُضطهدة، وأنه لا يستطيع أحد أن يوقف الكرازة، يدرك أن هذه النبوة حقيقة واقعة مع أن هذا قيل في وقت كان يصعب فيها تصديقها.] بالإيمان قبلنا وصايا الله الصعبة ومواعيده التي يبرهن على صدقها لا بكلمات وإنما بخبرة عملية عند ممارستها. بالإيمان نسلكها ونتقبل مواعيدها التي تبدو غير معقولة لكننا نكتشف صدقها خلال الخبرة. لهذا [يتطلب الإيمان نفسًا نشطة ومملوءة غيرة، تسمو فوق الأمور الحسية وتعبر فوق كل تعقلات بشرية، فإنه لا يمكن أن تصير مؤمنة إن لم ترتفع فوق العادات العامة التي للعالم.]
ولما كان الرسول يتحدث إلى مسيحيين من أصل عبراني لهذا قال: "فَإِنَّهُ فِي هَذَا شُهِدَ لِلْقُدَمَاءِ" [2]؛ وكأنه يقول لهم إن هذا الأمر ليس بغريبٍ عنكم، فقد اختبره آباؤكم. تاريخهم العبراني هو خير شاهد لحياة الإيمان. كأن الرسول يضع أمامهم أسفار العهد القديم ليتصفح معهم حياة الإيمان كما عاشتها كنيسة العهد القديم.
لقد بدأ العهد القديم بإعلان الله كخالق "بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ" [3].
فإن رجال العهد الجديد لا يستطيعوا أن يتقبلوا السيد المسيح "كلمة الله المتجسد" كمخلص ومجدد طبيعتهم الداخلية بروحه القدوس، ما لم يتقبلوا الأساس الأول أن الله هو الخالق بكلمته. فالكلمة الذي يخلق هو وحده يقدر أن يجدد الخلقة بعد أن فسدت.
وعن ذلك يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [الله صالح، أو بالحري الصلاح في جوهره.. خلق كل شيء من العدم بكلمته الذاتية، يسوع المسيح ربنا.]
وبه أيضًا جدد الخلقة وخلصها ويرى أيضًا في هذه العبارة الرسولية أن الله هو الخالق ليس من يبلغ قياسه، كائن قبل كل الدهور، به جاء الزمن.
وينتقل بولس الرسول من الأساس الأول للإيمان بكلمة الله الخالق الأزلي، إلى أمثلة عملية لرجاء الإيمان في العهد القديم، وكأن إيمان الكنيسة ما هو إلاَّ امتداد لرجال الكنيسة الأولى قبل التجسد. ولعله ذكر هذه الأمثال لأن الرسول بولس -كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم- أراد أن يعلن لهم أن العبرانيين قد بدأوا حياتهم مع الله بالإيمان خلال أشكال مختلفة، لكن للأسف كملوا في ضعف بقلوب فاترة في الإيمان.
وقد لاحظ القديس أثناسيوس الرسولي الذي قضى أغلب حياته الرعوية في جهاد من أجل الإيمان المستقيم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وغالبًا ما كان يضطر أن يترك كرسيه ويهرب من الأريوسيين الذين صمموا على قتله، أن الجهاد من أجل الإيمان لا يقل عن الاستشهاد. وأن رجال الإيمان الذين ذكرهم الرسول هنا غالبيتهم لم يستشهدوا لكنهم عاشوا رجال إيمان. يقول القديس: [لا تقوم تزكية الشهيد على مجرد رفضه للتبخير للأوثان وإنما على رفضه إنكار الإيمان، فإن هذا يمثل شهادة واضحة عن الضمير الصالح. هذا ولا يُدان فقط الذين ينجرفون إلى عبادة الأوثان كغرباء وإنما يُدان أيضًا الذين يخونوا الإيمان.] كما يمتدح الإيمان قائلًا: [إبراهيم الأب البطريرك قد قبل الإكليل ليس لأنه تألم حتى الموت، وإنما لأنه آمن بالله، وأيضًا القديسون الذين ذكرهم بولس من جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والبقية لم يتكملوا بسفك دمائهم، إنما تبرروا بالإيمان، إذ كانوا مستعدين أن يحتملوا الموت من أجل التقوى نحو الله.]
وقدم بولس الرسول الأمثلة التالية من عظماء المؤمنين والمؤمنات:
نذكر بعضهم علي سبيل المثال:
إنه المثل الأول لرجال الإيمان، لا يقوم على أساس حياته الخاصة وإنما يقول الرسول:
"بِالإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلَّهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ اللهُ لِقَرَابِينِهِ. وَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ!" [4]
لقد شهد الله ببره ليس لأفضلية حياته أو أعماله الخاصة عما لقايين، وإنما لأفضلية ذبيحته عن قرابين قايين. لقد قدم قايين من ثمرات الأرض قربانًا، لكن الله اشتم رائحة الرضا في الذبيحة الدموية التي لهابيل. كانت تحمل رائحة السيد المسيح على الصليب وظلالها. هذا هو أساس إيماننا أن كلمة الله الخالق يجددنا نحن خليقته خلال الدم الثمين، فنقدم حياتنا ذبيحة حب خلال إتحادنا بالذبيح الحق، بهذا نصير كهابيل الذي صار هو نفسه كذبيحة وهو مرفوض من أخيه.
كأن الرسول يحدث المسيحيين العبرانيين المطرودين من الهيكل، أنهم قد صاروا كهابيل المرفوض من أخيه من أجل الذبيحة المقبولة لدى الله الآب، ذبيحة السيد المسيح. لهذا وإن حاول إخوتهم أن ينهوا حياتهم لكن صوتهم يبقى مدويًا، وشهادتهم لا يمكن كتمانها بالموت، ولا للزمن أن يحطمها. لا يزال صوت هابيل عاليًا يعلن عن قبول الله ذبيحته الدموية، ويبقى صوت المؤمنين المرذولين والمضطهدين صارخًا يشهد للحق بغير انقطاع.
"بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ - إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ" [5].
إن كان هابيل بإيمانه أعلن عن سرّ ذبيحة المسيح المقبولة عنده، وقبولنا الموت معه كل يوم، فإن حياة أخنوخ حملت بالإيمان صورة حية للكنيسة السماوية الفائقة، والتي تعلو فوق الحياة البشرية الطبيعية، تشهد لسيرتها أمام العالم، لهذا ينقلها الرب إليه لتحيا معه شريكة في أمجاده. يقول الرسول: "فإن سيرتنا نحن هي في السماوات، التي منها ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع، الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده".
بالإيمان نتمتع بالحياة السماوية كأعضاء في كنيسة الله المقبولة لدى عريسها،
"وَلَكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ" [6].
ليت قلبنا يكون بحق كأخنوخ يؤمن بالله فيُنقل إلى فوق لينتظر المجازاة للذين يطلبونه، التي هي بحق إقتناء ربنا يسوع. هذه هي مكافأة النفس التي تطلبه.. إنها تناله وتوجد معه في سماواته وأمجاده الأبدية في حضن الآب السماوي.
إن كان هابيل يعلن في إيمانه الذبيحة الفريدة التي لا تصمت قط عن الشهادة للحق فينا، وأخنوخ يمثل الكنيسة المرتفعة إلى عريسها لكي تحيا في السماويات عبر وجودها بالجسد على الأرض، فإن نوحًا يمثل إيمانه إدانة العالم الذي رفض الدخول في الفلك، فإنه لا خلاص خارج الفلك، ولا تمتع بالحياة الجديدة إلا من خلال مياه المعمودية. "بِالإِيمَانِ نُوحٌ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تُرَ بَعْدُ خَافَ، فَبَنَى فُلْكًا لِخَلاَصِ بَيْتِهِ، فَبِهِ دَانَ الْعَالَمَ، وَصَارَ وَارِثًا لِلْبِرِّ الَّذِي حَسَبَ الإِيمَانِ" [7]. إن كانت الكنيسة تتمتع بالخلاص في الصليب كما في فلك نوح وسط مياه المعمودية، فإن هذا الخلاص إنما يدين العالم.
لقد اعتاد الآباء أن يقيموا الكنيسة غالبًا على شكل فلك نوح علامة العبور من العالم القديم إلى الحياة الجديدة..
قدم كل أب من الآباء جانبًا من جوانب الإيمان، هابيل قدم الجانب الإلهي وهو تقديم الذبيحة المقدسة، أي تقديم حمل الله، وأخنوخ كشف عن طبيعة الكنيسة المؤمنة ألا وهو الجانب السماوي، ونوح أعلن أنه لا خلاص خارج الكنيسة المقدسة، أما إبراهيم فقدم الجانب العملي للإيمان وهو الطاعة لله بجانب جوانب متفاعلة معًا. لقد آمن إبراهيم أب الآباء عمليًا فترك الملموسات والمنظورات في ثقة في وعود الله التي لم تكن ملموسة ولا منظورة. فيقول الرسول:
"بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي. بِالإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِنًا فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهَذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِ. لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ" [8-10].
لقد أطاع أن يخرج الذي كان عتيدًا أن يتمتع بالميراث، فخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب. الإيمان هو الذي قاده! لم يسمع من قبل عن أمثلة إيمانية حيَّة يقتدي بها إلاَّ ما قد تسلمه بالتقليد عن هابيل وأخنوخ ونوح، ليس بين يديه كتاب مقدس ولا شريعة مستلمة ولا من يرشده أو نبي أو كاهن، لكن الإيمان أنار له الطريق؛ وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان أبوه أمميًا وعابد وثن، ولم يسمع أنبياء ولا عرف أين يذهب.] بالإيمان لم ينل أرض موعد، لكنه وثق أن نسله يرث الأرض التي يسير عليها كغريبٍ هو وابنه إسحق وحفيده يعقوب، وكان غير مضطرب وبلا هم، متأكدًا من تحقيق مواعيد الله في الأجيال القادمة الخارجة من صلبه.
إذ طُرد المؤمنون من الهيكل اليهودي وحرموا من ممارسة العبادة الجماعية مع إخوتهم، فإن الرسول يرفع أعينهم إلى هيكل آخر سماوي وعبادة على مستوى ملائكي، ليدركوا أن ما فقدوه من منظورات لا يقارن أمام ما يتمتعون به في عالم غير المنظورات. هذا ليس بأمر خيالي، إنما هو حياة إيمانية تمثل امتدادًا للحياة التي عاشها آباؤهم، محتملين الحرمان من الكثير، لينعموا بالمواعيد السماوية. يقول الرسول: "فِي الإِيمَانِ مَاتَ هَؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ. فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ وَطَنًا. فَلَوْ ذَكَرُوا ذَلِكَ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، لَكَانَ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلرُّجُوعِ. وَلَكِنِ الآنَ يَبْتَغُونَ وَطَنًا أَفْضَلَ، أَيْ سَمَاوِيًّا. لِذَلِكَ لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ اللهُ أَنْ يُدْعَى إِلَهَهُمْ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ مَدِينَةً" [13-16].
هكذا يؤكد الرسول أن رجال العهد القديم، ليس كما يظن البعض قد وضعوا رجاءهم في مواعيد زمنية، وإنما رأوا الوطن السماوي والمواعيد الأبدية مختفية وراء المواعيد الزمنية. لقد تطلعوا بالإيمان إلى وعود الله الأبدية فصدقوها بالإيمان وحيّوها بالعمل الجاد للتمتع بها ولهيب قلبهم الذي لا ينقطع في الشوق إليها. لقد أحسوا أمام هذه الوعود أنهم بحق هم غرباء ينتظرون العبور إلى وطنهم السماوي للتمتع بها، ليس من أمر زمني -مهما كانت قدرته- يستحق أن يسحب القلب إلى الوراء نحو الأرضيات.
ولذلك يشتهي رجال الإيمان وطنهم السماوي، لهذا يُسر الله بهم، فيدعى إلههم لأنه أعد لهم المدينة السماوية التي فيها يجتمعون معه ويسكن هو في وسطهم إلى الأبد، يفرح بأولاده ويفرحون بأبيهم السماوي.
إذ قطع الرسول حديثه عن أمثلة من رجال الإيمان ليؤكد غايتهم وهو التمتع بالوطن السماوي عاد ليعطي أمثلة من رجال ونساء العهد القديم:
"بِالإِيمَانِ يُوسُفُ عِنْدَ مَوْتِهِ ذَكَرَ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَوْصَى مِنْ جِهَةِ عِظَامِهِ" [22]. سمع يوسف الوعد الإلهي لجده إبراهيم فآمن أن الله لن يترك شعبه متغربًا، لهذا بالإيمان أوصى بعظامه عند الخروج إعلانًا عن شوقه للدخول إلى مواعيد الله خلال عظامه اليابسة. كان يوسف في مصر يعيش في مجدٍ، بكونه الرجل الثاني بعد فرعون، لكن القصر لم يشغله عن الوعد الإلهي، مشتركًا بالإيمان مع الشعب في الخروج خلال النية، كرمز للخروج من عبودية الخطية إلى الحياة الجديدة في المسيا المخلص.
"بِالإِيمَانِ مُوسَى، بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لأَنَّهُمَا رَأَيَا الصَّبِيَّ جَمِيلًا، وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ الْمَلِكِ" [23]. لم ينسَ الرسول عند حديثه عن موسى النبي كرجل إيمان عظيم أن يبرز أولًا إيمان والديه. لقد قدم الرسول لنا والدين كمثالٍ بين أمثلة الإيمان حتى ندرك خطورة دور الأسرة في الحياة الإيمانية وعمل الوالدين الجسديين مع الأب الروحي في تهيئة الأجيال المؤمنة بحق. هذا أيضًا أبرزه الرسول حين كتب إلى تلميذه تيموثاوس يقول له: "أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن أولًا في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي، ولكن موقن أنه فيك أيضًا" (2 تي 1: 5).
لقد ظهر إيمان والدي موسى في إخفائهما الطفل ثلاثة أشهر، "لأنهما رأيا الصبي جميلًا"، وكما يقول الشماس اسطفانوس: "كان جميلًا جدًا". ماذا رأيا في وجهه إلاَّ انعكاس مجد السيد المسيح المقام من الأموات. فقد كان الطفل تحت حكم الموت، لأن فرعون طلب قتل كل الأطفال الذكور، لكن الوالدين استبقياه بإيمان أن جمالًا داخليًا يكمن فيه. لقد بقى ثلاثة شهور، ونحن نعلم أن رقم 3 يشير إلى القيامة (حيث قام السيد في اليوم الثالث)، ليظهر بعد الشهور الثلاثة على وجه المياه، مقدسًا المياه لتهب المؤمن قوة القيامة معه.
لقد كان موسى جميلًا في أعينهما، لذا احتفظا به ثلاثة أشهر، وهكذا بالإيمان نحمل في داخلنا لا موسى بل ربه، مدركين أنه "أبرع جمالًا من بني البشرية"، نخفيه فينا ثلاثة أشهر حتى ننعم بالقيامة معه، فلا نوجد محمولين على مياه النهر بل على البحر الزجاجي في أورشليم العليا.
"بِالإِيمَانِ سَقَطَتْ أَسْوَارُ أَرِيحَا، بَعْدَمَا طِيفَ حَوْلَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ" [30]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بالتأكيد لا تستطيع أصوات الأبواق أن تسقط الحجارة (التي للأسوار).. لكن الإيمان يقدر أن يفعل كل شيء.]
"بِالإِيمَانِ رَاحَابُ الزَّانِيَةُ لَمْ تَهْلِكْ مَعَ الْعُصَاةِ، إِذْ قَبِلَتِ الْجَاسُوسَيْنِ بِسَلاَمٍ" [31].
ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك، قائلًا:
[من العار أن تظهر في عدم إيمان أكثر من زانية! لقد سمعت ما رواه الرجلان وآمنت! وكانت النتيجة هلاك الكل بينما حُفظت وحدها من الهلاك. لم تقل في نفسها: أني أبقى مع أصدقائي الكثيرين، ولا قالت: هل أنا أكثر حكمة من هؤلاء الرجال العقلاء الذين لا يؤمنون، وأنا أؤمن؟! لم تقل شيئًا من هذا بل آمنت بما سيحدث وما سيعانيه (الكنعانيون).]
14 وكان يخرج شيطانا وكان ذلك اخرس فلما اخرج الشيطان
تكلم الاخرس فتعجب الجموع
15 واما قوم منهم فقالوا ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين
16 واخرون طلبوا منه اية من السماء يجربونه
17 فعلم افكارهم وقال لهم كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب وبيت منقسم على بيت
يسقط
18 فان كان الشيطان ايضا ينقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته لانكم تقولون اني
ببعلزبول اخرج الشياطين
19 فان كنت انا ببعلزبول اخرج الشياطين فابناؤكم بمن يخرجون لذلك هم يكونون قضاتكم
20 ولكن ان كنت باصبع الله اخرج الشياطين فقد اقبل عليكم ملكوت الله
21 حينما يحفظ القوي داره متسلحا تكون امواله في امان
22 ولكن متى جاء من هو اقوى منه فانه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه ويوزع غنائمه
23 من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرق
24 متى خرج الروح النجس من الانسان يجتاز في اماكن ليس فيها ماء يطلب راحة واذ لا
يجد يقول ارجع الى بيتي الذي خرجت منه
25 فياتي ويجده مكنوسا مزينا
26 ثم يذهب وياخذ سبعة ارواح اخر اشر منه فتدخل وتسكن هناك فتصير اواخر ذلك
الانسان اشر من أوائله
إن كانت صداقتنا مع الله تقوم على الصلاة بلجاجة، فإن هذه الصلاة يلزم أن تسندها وحدة الروح. فالله في صداقته معنا يريدنا أن نسلك معًا بالروح الواحد، وذلك بعمل روحه القدُّوس واهب الشركة والوحدانيَّة. لهذا يحدِّثنا الإنجيلي لوقا عن إبراء من به شيطان أخرس، وقد أخرجه السيِّد فأتُهم بأنه ببعلزبول رئيس الشيَّاطين. وجد السيِّد بهذا الاتهام فرصته لتأكيد الحاجة إلى وحدة الروح بلا انقسام، وذلك بعمل روحه واهب الشركة.
+ لقد أثارت معجزة إخراج الشيطان الأخرس دهشة الجماهير وإعجابهم، الأمر الذي أثار قومًا غالبًا من الفرِّيسيِّين، وإذ امتلأوا حِقدًا وحسدًا لم يقدروا أن ينكروا المعجزة، لكنهم اِتَّهموا السيِّد أنه ببعلزبول رئيس الشيَّاطين يخرج الشيَّاطين.
فـ"بعلزبول" هي الصيغة الآرامية للكلمة: "بعل زبوب"، أي إله الذباب عند العقرونيِّين (2 مل 1: 3)، الذين كانوا يعتقدون أن فيه القدرة على طرد الذباب من المنازل. وتشكَّك البعض في أمره، فطلبوا آية من السماء، ليتأكَّدوا أن ما يفعله بقوَّة سماويَّة إلهيَّة وليس بطريق شيطاني، فكانوا يتوقَّعون أن يُنزِل نارًا من السماء كما فعل إيليَّا، ولم يدركوا أن الذي في وسطهم هو السماوي الذي بتنازله حل في وسطهم كواحد منهم.
+ لم يستجب لطلبتهم فيرسل نارًا من السماء لإِفنائهم، إذ طلبوا آية من السماء، بل إنتهر يوحنا ويعقوب تلميذيه حين سألاه أن يطلبا نارًا لحرق قرية بالسامرَّة رفضته (لو 9: 54). وإنما في طول أناة أجابهم، لا ليُفحِمهم وإنما ليرُدهم إلى الحق، غير متراجعٍ عن حبُّه حتى لمقاوميه، باذلًا حياته فدية عن الجميع. لهذا يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [اِحتمل كل هذه الأمور لكي نسلك على أثر خطواته، ونحتمل هذه السخريات التي تقلق أكثر من أي توبيخ.]
+ جاءت إجابة السيد المسيح لمقاوميه كالعادة ليست دفاعًا عن نفسه بقدر ما هي لبنيان نفوسهم وإصلاح حياتهم، وقد حملت الإجابة جانبين:
أ. الجانب السلبي، وهو أنه لا ينقسم عدو الخير على نفسه وإلا هلكت مملكته. وهنا يسألنا ألا ننقسم نحن على أنفسنا، سواء على مستوى الممالك أو مستوى العائلات، إذ يقول:
"كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وبيت منقسم على بيت يسقط، فإن كان الشيطان أيضًا ينقسم على ذاته،
فكيف تثبت مملكته؟ لأنكم تقولون إني ببعلزبول أخرج الشيَّاطين؟" [17-18].
ب. الجانب الإيجابي، فيه يعلن فاعليَّة الروح القدس الذي هو واحد معه في اللاهوت، إذ يعمل بروحه القدُّوس وقوَّته، ويدعوه إصبع الله. في هذا يدعونا الرب ليس فقط ألا نسلك بروح الانقسام على أنفسنا أو على مستوى العائلات أو الكنائس، وإنما أن نقبل روح الله الذي هو روح الشركة عاملًا فينا بقوَّة، لبنيان ملكوت الله. إنه يقول:
"إن كنتُ أنا ببعلزبول أخرج الشيَّاطين، فأبناؤكم بمن يُخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم، ولكن إن كنتُ بإصبع الله أُخرج الشيَّاطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله" [19-20].
لا يكفي أن نرفض روح الانقسام حتى لا نهلك، وإنما يليق بنا أن نقبل روحه عاملًا فينا، لكي يقبل علينا ملكوته في داخلنا بقوَّة!
ويسمي السيد المسيح الروح القدس "إصبع الله"، ربَّما لأن الإنسان صاحب السلطان حين يشير بإصبعه يتحقَّق كل ما يريده، وكأن الآب والابن يعملان بروحهما القدُّوس كما بالإصبع. وعن هذا الإصبع يقول القدِّيس كيرلس الإسكندري [يدعى الروح القدس إصبع الله لهذا السبب. قيل عن الابن أنه يد الله وذراعه (مز 98: 1)، به يعمل الآب كل شيء. ولما كان الإصبع غير منفصل عن اليد بل بالطبيعة هو جزء منها، هكذا (مع الفارق) الروح القدس متَّحد مع الابن، وخلاله يعمل الابن كل شيء.]
هذا والأصابع مع اختلاف مواضعها وأحجامها وأطوالها تعمل معًا بلا اِنقسام، فتشير إلى تنوُّع الخدمات أو المواهب والروح واحد. كقول الرسول بولس: "فأنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد، وأنواع خِدم موجودة، ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحد، الذي يعمل الكل في الكل، ولكنه لكل واحد يعطي إظهار الروح للمنفعة" (1 كو 12: 4-7).
ومن هنا ننتقل إلى: من هم أبناؤهم الذين يُخرجون الشيَّاطين ويكونون قضاة عليهم، إلا جماعة من التلاميذ البسطاء، الذين هم من الأُمّة اليهوديَّة يعيشون ببساطة قلب بينهم، وأُميُون، يُخرجون الشيَّاطين بقوَّة وسلطان، فيدينون بهذا كل اِتهام يوجِّهه الفرِّيسيُّون والكتبة ضد سلطان السيد المسيح. وعن ذلك يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [كان التلاميذ الطوباويُون يهودًا، وأبناء لليهود حسب الجسد، وقد نالوا سلطانًا من المسيح باستدعاء هذه الكلمات: "باسم يسوع المسيح". فإن بولس أيضًا مرَّة أمر الروح النجس بسلطان رسولي: "أنا آمرك باسم يسوع أن تخرج منها" (أع 16: 18). فإن كان أبناؤكم -كما يقول- باسمي يطئون بأقدامهم على بعلزبول باِنتهارهم أتباعه (شيَّاطينه) وإخراجهم من الساكنين فيهم، أفليس واضح أنه تجديف بجهل عظيم أن تتَّهمونني بأني أحمل سلطان بعلزبول؟ أنتم الآن متَّهمون خلال إيمان أبنائكم.]
وينتقل السيد المسيح من إظهار أنه يخرج الشيَّاطين بروحه القدُّوس (إصبع الله) إلى السلطان الذي وهبه لتلاميذه الذين هم أبناء اليهود، ليجذب أنظارهم وأفكارهم من المناقشات الغبيَّة التي يُثيرونها خلال حقدهم وحسدهم إلى التطلُّع نحو السلطان الجديد الذي وُهب للتلاميذ خلاله، وإلى الإمكانيَّة التي صارت للبشريَّة خلال السيد المسيح. فما يفعله المسيح يسوع ربَّنا ليس اِستعراضًا لقوَّته الإلهيَّة وإنما هو رصيد يقدِّمه لحساب مملكته في قلوبنا، أي لحساب كنيسته التي في داخلنا، لذلك يقول: "فقد أقبل عليكم ملكوت الله" [20]. بمعنى آخر يوَد إن يقول لهم: عوض إن تتَّهموني بأن أعمل بقوَّة بعلزبول تمتَّعوا بسلطاني الذي أهبه للبشر لتحطيم بعلزبول وطرد أرواحه الشرِّيرة من النفوس والأجساد المحطَّمة. في هذا يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [يقول: إن كنتٌ كإنسان قد صرتُ مثلكم، وأخرج الشيَّاطين بروح الله، فقد نالت الطبيعة البشريَّة فيّ أولًا الملكوت الإلهي، إذ صارت ممجَّدة بكسر سلطان الشيطان واِنتهار الأرواح الدنسة، هذا هو معنى الكلمات: "أقبل عليكم ملكوت الله". لكن اليهود لم يفهموا تدبير الابن الوحيد في الجسد، وأنه كان يجب عليهم بالحري إن يتأمَّلوا أن الابن الوحيد الجنس، كلمة الله قد صار جسدًا دون أن يتغيَّر عما هو عليه، ممجِّدًا طبيعة الإنسان، إذ لم يستنكف أن يأخذ حقارتها لكي يُضفي عليها غناه هو.]
+إذ نالت البشريَّة في المسيح يسوع سلطانًا بروحه القدُّوس وأعلن عن ملكوت الله فيها، فإنه لم يعد هناك مجال لمملكة الظلمة التي سادت زمانًا، والتي تملَّكت بشراسةٍ وعنفٍ وسلطانٍ خلال ضعفنا. لقد جاء القوي الذي يحطِّم من ظن في نفسه قويًا وأعطيناه الفرصة زمانًا ليسيطر علينا، إذ يقول السيد المسيح: "حينما يحفظ القوي داره متسلِّحًا تكون أمواله في أمان. ولكن متى جاء من هو أقوى منه، فإنه يغلبه، وينزع منه سلاحه الكامل الذي اتكل عليه، ويوزِّع غنائمه" [21-22].
هكذا يقدِّم لنا العمل المسياني في حياتنا بمثل إنسانٍ قوي متسلِّح في داره، تملك على القلب والعالم كدارٍ له، أسلحته الخبث والدهاء، لكن جاء المسيَّا الأقوى، سلاحه الحب والبذل يحطِّم بالحق الباطل، وبالحب الخبث، وبالنور الظلمة، فيطرد من استعمر القلب وملك على العالم، ساحبًا منه الغنائم. هكذا يوضِّح السيِّد أنه لا هوادة بين النور والظلمة، ولا اِتِّفاق بين المسيح وبليعال.
+ وبعد أن قدَّم السيد المسيح هذا المثل، قال هذا المبدأ: "من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يُفرِّق" [23]. هنا يبرز السيد المسيح خطورة الحياة السلبيَّة التي خلالها يظن الإنسان أنه يقف في منتصف الطريق. فإن السيد المسيح يقدِّم طريقين لا ثالث لهما: النور أو الظلمة، مملكة الله أو إبليس. من كان يعمل بروح بعلزبول لا يطرد الشيَّاطين لحساب مملكة الله، إنما ينحني لمملكة الظلمة، وهكذا من يحمل روح الله لا يقبل إلا أن يعمل لحساب مملكة الله. وكأنه يطالبهم بمراجعة أنفسهم ليعرفوا بالحق أين هو مركزهم؟ هل هم معه يعملون على الجمع لحسابه، أو ضدُّه يعملون على تشتيت النفوس؟
كأنه يقول لهم قد جئت لأجمع أبناء الله فيّ، هؤلاء الذين شتَّتهم العدو إبليس، فالشيطان لا يعمل معي، بل يود تشتيت من أجمعهم، فهل تطلبونني لتعملوا للجمع أم تطلبونه فتقومون بالتشتيت؟ وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [إنه يقول: جئت لأخلِّص كل إنسان من يدّ الشيطان، لأنقذهم من خبثه الذي اِصطادهم به، لأحرِّر المأسورين، وأُشرق نورًا على الذين في الظلمة، أُقيم الساقطين وأشفي منكسري القلوب، وأجمع أبناء الله المشتَّتين. وأما الشيطان فهو ليس معي، بل عليّ. بالعكس هو ضدِّي، إذ يتجاسر ليشتِّت الذين أجمعهم وأخلِّصهم. كيف إذن يمكن لذاك الذي يقاومني ويبُث شروره ضد غاياتي أن يعطيني سلطانًا ضدُّه؟ أليس من الغباوة إن تتخيَّلوا هذا؟]
فليعطينا الرب أن نسلك بالإيمان ونحياه ونظهره في حياتنا وألا نترك للشيطان أي مكان في قلوبنا أو حياتنا لنعيش مع المسيح وله كل أيام حياتنا ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-botros-elbaramosy/great-lent-readings/friday-3.html
تقصير الرابط:
tak.la/586afa9