يقول أ. د. سليمان نسيم في كتاباته عن نظام الكتاتيب في مصر الحديثة ما يلى:
لعل من أفضل طرق البحث التي تؤدى إلى معرفة أصول هذه الكتاتيب، دراسة ترجمات بعض الشخصيات التي نشأت في هذه الكتاتيب، و عاصرتها ثم كتبت عنها. مما يساعد على تكوين صورة تاريخية واقعية للتعليم الأولى في بلادنا ولاسيما في الريف خلال القرن التاسع عشر، قبل أن يتطور ليصبح نظامًا حكوميًا خاضعًا لإشراف الدولة فنيًا وماليًا ومما أكد صحة ما كتبه أصحاب هذه الترجمات ما ذكره اللورد كرومر Lord Cromer في أوائل القرن العشرين، في التقارير التي كان يكتبها عن أحوال مصر، ومن بينها أحوال التعليم(25) ومن المعروف أن عهد الاحتلال وبناء على توصية اللورد دوفرين Duvrin في نظامه الذي نشره في مايو سنة 1883م والذى كان يشجع على إنتشار الكتاتيب، أو المكاتب الأولية كما كان يسميها، ليظهر البسطاء من الناس أنه يشجع على التعليم من ناحية وليشغل الأمة في عمومها عن التفكير في متابعة نظام التعليم ما بعد الأولى من ثانوى وعال من ناحية أخرى. وفى المدن بصفة خاصة كان كثيرون من الأغنياء يؤسسون في مساجدها "مدارس" على مثال الأزهر يأتون بها بأساتذة من خريجى الأزهر يدرسون لمن لم تمكنهم ظروف الحياة من النزوح إلى القاهرة طلبًا للعلم(26).
وقد ظل هذا النظام مستمرًا حتى عهد محمد علي في أوائل القرن التاسع عشر، حيت تحولت مصر جزئيًا إلى نظام التعليم الحديث، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لكن محمد علي أهمل هذه الكتاتيب ولم يأبه بتحويلها على مدارس تسير في تعليمها على النظام الحديث، بل أنشأ بجانبها مدارس على النسق الأوروبي فسار النظامان متوازيين، نظام جامد لا يتطور، ونظام حديث مستورد من الخارج(27). وبالرغم مما أدخل من تعديلات على نظام التعليم في مصر، منذ عهد محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى ثورة يوليو سنة 1952م، في النصف الأول من القرن العشرين، إلا أن نظام الكتاتيب ظل معلمًا هامًا من معالم حياتنا التعليمية. ومن هنا يمكن اعتباره أحد المقومات الهامة لتعليمنا الحديث، يتحتم أن ندرسه بشئ من التوسع. بتتبع أصول الكتاب في تاريخنا التعليمى من ناحية، ومن خلال بعض الترجمات الذاتية من ناحية أخرى، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على جانب آخر وهو الكتاتيب القبطية مما يبرز كمال الصورة لهذا المعلم التعليمى الهام الذي كان له أثره البارز في تركيب مصر الإجتماعى.
ويذكر مؤرخو التعليم أنه في أوائل القرن التاسع عشر كانت الكتاتيب بوجه عام نواه لقيام المدارس الإلزامية والأولية فيما بعد. بل أنها كانت في عهد محمد علي مجرد مجمعات بشرية يصيد منها التلاميذ ليزود بهم المدارس التي أنشأها، مما جعل الناس يخشو من إلحاق أولادهم بها حتى لا ينتزعوا منها قسرًا ليلتحقوا بمدارس الباشا(28). وفى عهد إبراهيم بن محمد على تغير الوضع. فقد أنشئت مكاتب الملة على نحو ما كان موجودًا في ذلك الوقت في فرنسا وإنجلترا، وغرضها ليس إعداد التلاميذ للدراسة التجهيزية وإنما مكافحة الأمية بين الأهالى(29).
وجاء عهد عباس، فخيم على مصر ظلام كثيف (من سنة 1848 - 1854م)، حتى إذا جاء عهد الوالى سعيد (1854 - 1862م)، أعاد رفاعة الطهطاوي من منفاه في السودان، كما عهد إلى صديقة إبراهيم أدهم بك بتفتيش المهمات والمدارس لتنفيذ مشروع إنشاء مكاتب الملة، لنشر التعليم بين سواء الشعب، فأقترح أدهم بك على الوالى تعيين رفاعة ناظرًا عامًا على هذه المكاتب، لكن المشروع لم يحظ بالتفات سعيد وبقى رفاعة بلا عمل(30).
فلما جاء عهد إسماعيل كانت الكتاتيب من بين ما شملته النهضة التعليمية التي قادها على مبارك وعبد الله فكرى، ويتضح من هذا أن حركة إنشاء الكتاتيب أخذت في الغالب -على مدى القرن التاسع عشر- شكلًا شعبيًا وليس حكوميًا، وحتى قرب نهاية القرن لم يكن للحكومة أي إشراف فعلى عليها. ومن هنا فإن الترجمات التي تقرأ عنها تعلم أصحابها في كتاتيب أهلية أنشأها بعض الأغنياء وخيرى القرية أو الحى إرضاء لله وقربًا له. وربما أنشأتها جمعية خيرية لخدمة الأهالى أو ربما قام أحد هذه الكتاتيب على وجود فقيه يقوم بتعليم الأطفال مقابل مكافأة عينية يتعيش منها وبالنسبة للأقباط كان بعض الأغنياء أو مرتلو الكنائس ينشئون الكتاتيب ملحقة بها ويعفون أطفال العائلات الفقيرة من المصروفات.
_____
(25) Lord Cromer. Modern Egypt (London, Macmilan Co., 1911
(26) تاريخ التعليم في عصر محمد على – أحمد عزت عبد الكريم – مكتبة النهضة – القاهرة سنة 1935 – صـ 13..
(27) المرجع السابق صـ 15.
(28) أضواء على تاريخ التعليم – إعداد توفيق خفاجى – مركز الوثائق والبحوث التربوية – القاهرة – مطبعة وزارة التربية والتعليم سنة 1963 – صـ 48.
(29) أضواء على تاريخ التعليم – المرجع السابق صـ 49.
(30) الحلقة 53 من سلسلة أعلام العرب – حسين فوزى النجار، رفاعة الطهطاوى – القاهرة – الدار المصرية للتأليف والترجمة، صـ 113.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-botros-elbaramosy/ebooks/patriotic-copts/schools.html
تقصير الرابط:
tak.la/n67jp8q