لست في موقف من يقيم أعمال محمد على باشا الذي خلص مصر من متاعب المماليك والأتراك بقيامه بحركة استقلال عن الدولة العثمانية، وكان يقف خلفه الكثير من الشعب المصري من بينهم رزق أغا حفيد المعلم رزق رئيس الدواوين في عهد على بك الكبير، فعينه حاكما على إقليم الشرقية، كما عين بعض الأقباط كحكام لأقاليم أخرى.
مع اهتمام محمد على باشا بتنمية الزراعة وكل موارد البلاد لكنه احتكر الزراعة والتجارة والصناعة، وإن كان قد أوجد طبقة من الإقطاعيين هم من أفراد أسرته ورجال حكومته وأنصاره من الأتراك والشراكسة، ومن النادر كان يخص قبطي هذه الإقطاعيات.
كان محمد على جشعا في طلب المزيد من الضرائب، وإذ قام المعلم جرجس بمقاومة ذلك حقق المعلم غالى لمحمد على رغبته. شعر الأول بالخطر يحدق به فاضطر إلى الهروب إلى الصعيد، بينما عين الثاني كبيرًا للمباشرين، لكن جشع محمد على المتزايد أدى في النهاية إلى عزل غالى وحبسه ثم نفيه إلى دمياط، وفي سنة 1822 م. قتله إبراهيم باشا في زفتى، وذلك بسبب خطاب مزيف كتبه المعلم فرنسيس باسم محمد على باشا موجه إلى لاون الثاني عشر بابا روما يطلب منه إقامة إبراهيم كاشور رئيس أساقفة على ممفيس مقابل إخضاع قبط مصر لسلطاته. وقد جاء هذا الخطاب ثمرة لخلاف احتدم بين المعلم فرنسيس والأسقف مكسيموس في قضية طلاق.
أرسل محمد على باشا إلى باسيليوس ابن المعلم غالى يعزيه في أبيه، فانحنى باسيليوس يقبل يد الباشا وهو يقول: "أطال الله بقائكم، فما دمتم باقين لم أفقد أبي"، فعينه في وظيفة أبيه.
بدخول المعلم غالى وابنه وأخيه وعائلاتهم وأنصارهم في الكثلكة أصبح للكنيسة الكاثوليكية كيانًا في مصر.
هذا ويلاحظ أن الأقباط قد حرموا في عهد محمد على من شرف الجندية، وبالتالي منعوا من المدارس الحكومية التي أنشأها لأغراض عسكرية. لهذا لم يفد محمد على قبطيًّا واحدًا في بعثاته العلمية إلى أوروبا، لقد وجدت في البعثات الأخيرة أسماء بعض المسيحيين لكنهم لم يكونوا من الأقباط.
لقد بقى الأقباط، كما يشهد التاريخ حتى في أحلك العصور أمناء لوطنهم. وقد برز ذلك عندما أوفد قيصر روسيا مندوبا للكنيسة القبطية، يقول للبابا بطرس الجاولي بأنه يقوم بحماية الأرثوذكس. سأل البابا الأمير: هل ملككم يحيا إلى الأبد؟ أجابه أنه يموت كسائر البشر، عندئذ قال له البابا إن الكنيسة القبطية تحت رعاية هذا الإله العظيم الذي لا تريد أن تتخذ غيره بديلا(143). أعجب الأمير من إيمان البابا ووطنيته، فقال: "لم تهزني عظمة الأهرام وعلومها، ولا ارتفاع المسلات وكتاباتها، فما أثار الأقدمين المتعددة ونقوشهم وصنائعهم بمؤثرة في نفسي مثل الأثر الذي رأيته"(144). إذ سمع محمد على أسرع إليه يشكره حاسبا هذا التصرف قد رفع من شأن محمد على وشأن الأقباط، أما البابا فقال له: "لا تشكر من قام بواجب عليه نحو بلاد تظلله وتظلل إخوانه في الجنسية الوطنية"، فانحدرت الدموع من عيني محمد على وتمتعت الكنيسة بالحرية والسلام.
اعترى زهرة باشا ابنة محمد على وزوجة أحمد بك الدفتردار روح نجس، فحار الأطباء في علاجها، وبمشورة رجال القصر طلب محمد على من البابا معونته فأرسل إليه الأنبا صرابامون أسقف المنوفية الذي صلى عليها وأخرج الروح الشرير.
في عهد محمد على استدعى إبراهيم باشا بن محمد على الأنبا بطرس وسأله عن خروج النور من قبر السيد المسيح في السبت التالي للجمعة العظيمة، ثم طالبه أن يذهب معه إلى بيت المقدس ليرى بعينيه ما يحدث. فذهب معه، وهناك أخبره بأنه قد اعتاد أن يدخل بطريرك الروم الأرثوذكس إلى القبر ليقيم الصلوات قبل انبثاق النور، فسمح له أن يدخل معه. أخرج الجماهير من كنيسة القيامة وأغلق الباب، وإذ صلى البطريركان بحرارة لينقد كنيسته انبثق النور من القبر المقدس وطاف حول الكنيسة وشق العمود القائم على يسار الداخل عند بوابة الكنيسة حتى يراه كل الشعب.
عرف إبراهيم باشا بحبه الشديد لمصر والمصريين فأحبه الكل من مسلمين ومسيحيين، وكان لا يتحدث إلا بالعربية. مرة سأله أحد الجند لماذا يطعن في الأتراك وهو واحد منهم، أجابه: "أنا لست تركيًّا، لقد جئت مصر صبيًا، فمصرتني شمسها وغيرت من دمي..." لم يحكم مصر إلا بضعة شهور خلال أواخر حكم أبيه.
_____
(143) رمزي تادرس: الأقباط في القرن العشرين، 1911، ج. 1، ص. 50.
(144) توفيق إسكاروس: نوابغ الأقباط ومشاهيرهم في القرن التاسع عشر، 1980، ج. 1، ص. 82.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/2pkvan9