من الملاحظ أنه في معظم الكتابات التي تعرضت للأوضاع الطائفية في مصر كانت حياة الوئام والمحبة بين القبطي والمسلم هي دائمًا المثل الذي يقدم للجميع.
وعن ذلك يذكر المؤرخ محمد شفيق غربال [إن العناصر المسيحية المصرية عَلمت الوافدين إلى البلاد كيف يعيشون تلك المعيشة التي تلائم خير الملائمة ظروف مصر من حيث أساليب الزراعة وطرائقها ونظام حيازة الأراضى ومسحها وريها وما يستتبعه هذا كله من نظم إدارية، وكذلك الصناعات القائمة على استخدام المواد الأولية المتوفرة. هذا إلى جانب وضع الأنماط والرسوم التي ترضى أذواق الأهلين المتوارثة(31).
- وهكذا منذ البداية كانت حياة مشتركة متكاملة متداخلة. وعلى سبيل المثال فإن جلود الكتب في العصر الإسلامي يحدد تاريخها الكتابة القبطية الموجودة على أوراق البردى المستعملة فيها، بالإضافة إلى أن التقاليد القبطية في زخرفة الخشب استمرت سائدة بعد الفتح الإسلامي، ويضم المتحف الإسلامي الكثير مما يجمع بين الزخارف القبطية والكتابة العربية. وأقباط مصر هم الذين بنو أول محراب (قبله) مجوف على مثال حنية الكنيسة. ويبقى بعد المحراب (القبله) المئذنة والقباب. فقد جاء في كتاب (The Art of Egypt Through The Ages - فن مصر عبر الأجيال) أن فنار الإسكندرية الذي بهر العرب عند فتح مصر هو الأصل الفنى للمئذنة. ومن أجل هذا وغيره فإن الفن القبطي يعد أصلًا من أصول الفن الإسلامي بعامة والفن المصري الإسلامي بخاصة. ويقرر المؤرخ شفيق غربال في كتابه السابق (تكوين مصر) [أن طرائق الفن القبطي وأساليبه كانت عاملًا من العوامل المؤثرة في فنون مصر الإسلامية وصناعتها] (32) وبخاصة صناعة الكيمياء العلمية وعلوم الطب والتشريح والصيدلة والهندسة والفلك والحساب والموسيقى الكنسية والتصوير والعمارة.
- والواقع أنه لا توجد قرية في مصر لا يعيش فيها الأقباط بجوار المسلمين، ينتجون نفس المحاصيل، ويعانون ذات الأعباء، ويواجهون نفس المشاكل الإقتصادية، ولهم عادات مواليد وزواج ووفاة وخرافات وحكايات وفن شعبى وتقاليد متوارثة واحدة. منذ أن كانت عبادة النيل هي الدين الحقيقى للفلاح المصري، ولقد وصل الإحترام المتبادل بين الأقباط والمسلمين وعمق الحياة المشتركة والتعاون - أن المؤرخين رووا كيف أن القائمين على الجامع الغمرى أعاروا بعض كنائس القبط البسط والقناديل لإستعمالها في بعض مهماتهم وغضب السلطان بسبب هذا التعاون حتى هَم بقطع لسان المصريين(33).
- ولقد أوجد التاريخ المشترك والتواجد المتداخل أعيادًا دينية مشتركة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فالأيام الأولى للسنة الهجرية (عاشوراء) يحتفل بتقاليدها في أغلب بيوت الريف المصري أقباطًا ومسلمين ويطالب الطفل القبطي بالحصان وتبكى الطفلة القبطية لتحصل على (العروسة الحلاوة) عندما يحل المولد النبوى، ويجمع شم النسيم والذى يأتى عقب عيد القيامة مباشرة، كل من الأقباط والمسلمين انطلاقًا من تراث يعود إلى أيام الفراعنة وعيد الحصاد، والعديد من السيدات المسلمات قد يشاركن في بعض الصوم القبطي طلبًا لشفاعة أو عقيدة لقضاء حاجات(34).
- وعلى الرغم من كل هذه العوامل المميزة لوضع الأقباط كنسيج متداخل وجزء أصيل وأساس في مصر، إلا أنه لابد من الإقرار بأنه قد مر على مصر بعض الفترات المظلمة التي كان الحاكم يتخذ فيها الدين ستارًا لتبرير أوضاع ظالمة، وذلك بتأليب الأغلبية المسلمة على الأقلية القبطية أو العكس (وهو ما نسميه حاليًا بالفتن الطائفية). مما كان يدفع بالأقباط إلى الإنزواء والعزلة حتى تمر العاصفة. وقد تركت فترات الإضطهاد تلك بصماتها على النفسية القبطية، فآثر الأقباط الإبتعاد عن المجالات السياسية حتى وقت قريب.
- ولنضع خطًا واضحًا تحت هذه الكلمات الصادقة إن إبتعاد الأقباط عن الحياة السياسية كان بسبب الإضطهاد والمضايقات والإقصاء والإزدراء وليس بسبب عدم كفائتهم كما يشاع عنهم حتى هذه الساعة.. فمن يرجع إلى التاريخ الصادق والأمين يرى كثيرا من الأقباط برعوا في كل مناحى الحياة السياسية والإجتماعية، والطب والهندسة والحاسبات وغيرها من المناصب الحيوية والحساسة في البلاد، ولكن بحسب أهواء الحكام المختلفة كانت العصور المتتالية، عصرًا يزدهرون فيه ويتألقون في مناصب مرموقة وعصرًا آخر ينطمسون فيه ويمحى ذكرهم ويتم إقصائهم وتهميشهم.. فالعيب ليس في كفاءة الأقباط ولكن في هوى الحكام والمسئولين.
_____
(31) تكوين مصر – محمد شفيق غربال – مكتبة النهضة المصرية – القاهرة سنة 1975 – صـ 69 – 76 "للتفصيل".
(32) المرجع السابق صـ 73 – 75.
(33) الأقباط في الحياة السياسية المصرية – مرجع سابق صـ 18.
(34) المرجع السابق صـ 19.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-botros-elbaramosy/ebooks/patriotic-copts/muslims.html
تقصير الرابط:
tak.la/hgtz6cf