"وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً وَعَلَى وَجهِ الغَمرِ ظلمة، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ" (تك1: 2).
إن إيماننا واعتقادنا الراسخ أن الخالق هو الله مثلث الأقانيم (إلوهيم)؛ فالآب (الأقنوم الأول) إرادته صالحة، ومشيئته أن يبني، ويعمر، ويخلق، والابن (الأقنوم الثاني) خلق الله به العالمين، والروح القدس (الأقنوم الثالث) معطي الحياة، ولكن...
رفرفة روح الله تعبير يتناسب مع الطيور التي لها أجنحة، فما معنى أن روح الله يرف؟ ولماذا أقنوم الروح القدس بالذات هو الذي اختص بهذا العمل؟ وما الذي يدل عليه هذا المشهد الرائع من روح الله الذي يرف على وجه المياه التي غطتها الظلمة، والتي تخفي تحتها الأرض الخربة والخالية؟
لقد شبهه الرب يسوع الروح القدس بالماء الحي بقوله: "وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (يو4: 14). وتصفه الكنيسة في صلواتها بالقول: "كنز الصالحات ومعطي الحياة". إن الغاية من تقديم روح الله في صدارة سرده لأحداث خلق الله للمخلوقات هي أن روح الله نبع الحياة ومصدر الحب والرعاية، لا يرضى بالخراب والضياع.
روح الله كان، وما زال مشتاقًا لتبديد كل ظلمة، ولتحويل كل خراب في حياة الإنسان إلى عمار، وكل فوضى وتشويش إلى نظام وجمال. إن حركة الروح على وجه المياه الساكنة الملفوفة بالظلام تعبر عن الحياة، لأن الحركة تخص الأحياء فقط. إنها تذكرنا بالملاك الذي كان ينزل ليُحرك مياه بركة سلوام، حتى تشفي من ينزل أولًا من كل مرض اعتراه، كقول الكتاب: "لأَنَّ مَلاَكًا كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَانًا فِي الْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلًا بَعْدَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ" (يو5: 4).
شَبَّه الكتاب روح الله في حنانه ورفقه بالبشر بالطيور الحانية المرفة على صغارها، التي ترفق بضعف فراخها، وهم يتعلمون الطيران، فتفرد جناحيها تحتهم لتحملهم إذا سقطوا، وتوفر لهم الحماية عند الخطر، كقول إشعياء النبي: "كَطُيُورٍ مُرِفَّةٍ هكَذَا يُحَامِي رَبُّ الْجُنُودِ عَنْ أُورُشَلِيمَ. يُحَامِي فَيُنْقِذُ. يَعْفُو فَيُنَجِّي" (إش31: 5).
خطط الله لخلق مخلوق عاقل حي يسكنه روح الله، لكي يثمر فيه بثمار الحياة، ولهذا كان الروح القدس يرف، مشتاقًا أن يتمم عمله في الإنسان الذي خلقه الله، كقول معلمنا بولس الرسول: "لأَنَّ ثَمَرَ الرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرّ وَحَقّ" (أف5: 9).
إن الروح القدس محيي أي أنه يعطي حياة. لقد كان روح الله مشتاقًا لخلق مخلوقات حية على صورة الله كشبهه، أما المخلوقات الأخرى من جماد أو نبات أو حيوان فقد خلقت بكلمة، وقد جبلت لأجل الإنسان. إن الروح القدس ما زال يخلق، ولم يكف وقتًا من الأوقات عن خلقة القلوب النقية، لأنه هو المحيي ومعطي الحياة، كقول الرب يسوع: "اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فَلاَ يُفِيدُ شَيْئًا. اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ" (يو6: 63).
← اقرأ هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت كتب أخرى لنفس المؤلف.
كل إنسان خالٍ من ثمر الروح هو قريب من الخراب والضياع، ولهذا علينا أن نطلب باستماتة أن يملأ روح الله قلوبنا بثمر الحياة والقداسة والطهارة، كقول المرنم: "قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي" (مز51: 10).
لقد أعطى حزقيال النبي مثالًا رائعًا عن عمل روح الله في خلاص الموتى بالخطايا من خلال الرؤيا التي رآها، كما سجلها الوحي الإلهي بقوله: "فَقَالَ لِي: تَنَبَّأْ عَلَى هذِهِ الْعِظَامِ وَقُلْ لَهَا: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْيَابِسَةُ، اسْمَعِي كَلِمَةَ الربّ: هكذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لِهذِهِ الْعِظَامِ: هأَنَذَا أُدْخِلُ فِيكُمْ رُوحًا فَتَحْيَوْنَ. وَأَضَعُ عَلَيْكُمْ عَصَبًا وأَكْسِيكُمْ لَحْمًا وَأَبْسُطُ عَلَيْكُمْ جِلْدًا وَأَجْعَلُ فِيكُمْ رُوحًا، فَتَحْيَوْنَ وَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ" (حز37: 4- 6).
سكنى روح الله فينا يجعلنا نرفض الموت والخراب والفوضى والتشويش، ونسرع في العمل والاشتراك مع روحه القدوس، لأجل بناء، وترميم النفوس التي خربها العدو الشرير، لينطبق علينا قول إشعياء النبي: "وَمِنْكَ تُبْنَى الْخِرَبُ الْقَدِيمَةُ. تُقِيمُ أَسَاسَاتِ دَوْرٍ فَدَوْرٍ، فَيُسَمُّونَكَ: مُرَمِّمَ الثُّغْرَةِ، مُرْجعَ الْمَسَالِكِ لِلسُّكْنَى" (إش58: 12).
إن كل من تمتع بحلول روح الله عليه، وسكناه فيه لا يمكنه أن يقف مكتوف اليدين أمام حطام وظلمة النفوس اليائسة، التي دمرها العدو الشرير، لكنه سينطلق حتمًا بنعمة روح الله القدوس يشجع، ويعزي، ويشدد، ويعطي رجاء، ويقدم حبه لتلك النفوس، حتى تخلق من جديد بقوة الرب يسوع، الذي قيل عنه: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ" (لو4: 18).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-bishoy-fayek/beginning-of-time/spirit.html
تقصير الرابط:
tak.la/6q43rja