12 - الصبر
كان ترتليان يهتم بصفة خاصة بفضيلة الصبر، ولذا أفرد لها كتابًا كاملًا (عن الصبر) الذي شرح فيه أن الصبر عند الإنسان المسيحي هو تهذيب سمائي للنفس البشرية.
ويقدم ترتليان لنا رب المجد كنموذج فريد للصبر، فقد قبل أن يولد وانتظر مدة الحمل في بطن أمه واحتمل النمو التدريجي بصبر، وبعدما تقدم في القامة لم يسرع ويعلن عن نفسه، وأطال أناته على الخطاة الذين أساؤا إليه ولم يستفيدوا من لطفه وصبره، كما أن كرازته تبين كيف انه اظهر تواضعًا واحتمالًا في السعي وراء الخطاة وزيارتهم في بيوتهم وغسل أقدامهم، بل انه لم يتحامل على المدينة التي رفضت دعوته بينما أراد التلاميذ أن تنزل نار من السماء لتهلكها، ولم يستنكف أن يبقى معه يهوذا الخائن الذي أسلمه، ولكن لم يحتمل صبر الرب اندفاع بطرس حينما قطع أذن ملخس عبد رئيس الكهنة فتقدم برحمته وشفاه، ثم بصبر عظيم جدًا احتمل الضرب والإهانة والبصق.
وبحسب هذا العلامة الإفريقي، كل من يريد الإقتداء بالرب والخضوع لمشيئته، عليه أن يجتهد في الصبر، ليس لأننا نخشى قسوته وعقابه وبل لأننا بالأكثر نترجى صلاحه.
أما رذيلة عدم الصبر فهي -بحسب ترتليان- من الشيطان، الذي لم يحتمل منذ البدء أن يرى الإنسان، وقد أعطاه الله السلطان على كل خلائقه ليخضعها ويتسلط عليها، فحزن وغضب وازداد بُغضًا للإنسان، ومنذ ذاك الحين وهو عدو الإنسان الأول، وأخذ يستخدم سلاح عدو الصبر ليوقع به الإنسان كي ينحرف ويخطئ، ولو كانت حواء قد تمسكت بالصبر إلى المنتهى ما كانت سقطت قط، ولو كانت صبرت بعد أن أكلت ولم تغوى آدم لما سقط هو الأخر وقايين ابنهما لو كان احتمل بتعقل وبصبر رفض الرب لتقدمته لما قتل أخاه.
ويرى ترتليان أن عدم الصبر هو السبب الأول وراء سائر الخطايا، فالشر هو عدم الصبر للخير، وكل عدم حياء هو عدم صبر للحياء، وكل عدم أمانة هو عدم صبر للأمانة، وكل فجور هو عدم صبر للتقوى، وكل قلق هو عدم صبر للهدوء، وأي إنسان يرتكب جريمة بدافع العداوة أو بغرض مكسب ما، لابد أنه كان يفتقر إلى الصبر لمقاومة الغضب أو الشهوة، ومهما تكن الدوافع الشريرة فإنها لا يمكن أن تنتج أثارًا رديئة إن كنا نقاومها بصبر.
ويرجع ترتليان خطايا بني إسرائيل إلى افتقارهم للصبر، فقد نسوا ذراع الله القوية وطلبوا من هارون آلهة ليعبدوها لأنهم لم يصبروا على غياب موسى في لقائه مع الرب، وتذمروا على الرب رغم نزول المن لإطعامهم وتفجر المياه من الصخرة لأنهم لم يصبروا أو يحتملوا العطش لمدة ثلاثة أيام، ورفعوا أياديهم على الأنبياء إذ لم يصبروا على طاعتهم، ثم على الرب نفسه إذ لم يصبروا على رؤيته، ولو كان لهم الصبر لخلصوا.
ويربط ترتليان بين الصبر والإيمان، فإبراهيم آمن بالله وحسب له برًا، ولكن صبره استعلن بالإيمان عندما قبل أمر الله أن يذبح ابنه، وأطاع بصبر ولذلك باركه الله لأنه كان صبورًا، فاستنار إبراهيم بالصبر والإيمان وتباركت الأمم بنسله أي بالمسيح، ويشير ترتليان إلى وصية العهد القديم (عين بعين وسن بسن) ويشرح أن الشر كان يرد بالشر لأن الصبر لم يكن موجودًا بعد على الأرض، أما الآن فيجب أن ننظر إلى صبر المسيح ولنعلم أن وصية المحبة هي أساس منهج الصبر كله.
ويتحدث ترتليان عن خبرة الصبر في حياة الإنسان اليومية، وعن حزن الإنسان متى فقد ميراث من أبائه، رغم أن الكتاب المقدس يطلب منا في كل صفحة تقريبًا أن نحتقر أباطيل الدهر الحاضر، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. بل وجاء الرب نفسه مثالًا لنا فعاش متجردًا من كل شيء، ولكي يعيننا على فقدان الخيرات بصبر، دعانا إلى حياة الفقر والكفاف، وفي الواقع نحن لا نملك شيئًا على الأرض بل نحن وكلاء فقط على ما لنا، فإن كنا نحزن على فقداننا ما ليس لنا، نكون بذلك نشتهى ما لا يخصنا.
ومن يغضب لأنه لم يحتمل بصبر خسارة ما أنما يخطئ مباشرة إلى الله، وهنا يدعو ترتليان القارئ للتأمل في الخيرات التي من فوق لأن اقتناء الصبر لا يقدر بالدهر الحاضر كله وما فيه، ويتساءل عن كيف يمكن للإنسان الذي لا يحتمل بصبر خسارة نجمت عن سرقة أو إهمال أن يقدم الصبر من تلقاء ذاته وبلا تردد، لأنه إن كان الإنسان لا يحتمل قط أن يجرحه الآخر، فهل سيرفع المشرط ويجرح نفسه؟ ويعتبر العلامة ترتليان أن الصبر مدرسة لتعليم الرحمة، فالمرء يسهل عليه أن يعطى حينما لا يخشى أن يفقد وإلا كيف سيطيع الوصية (من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك اترك له الرداء أيضًا)؟
يجب أن يتحلى خادم خادم المسيح بالصبر لأنه مدعو لاحتمال الكثير لأجل الله، وإن أحد باعتداء ما يجب أن يتذكر وصية الرب (من ضربك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا) لأن صبره ينبغي أن يتغلب على ميله للشر.
كذلك عند فقد الأقرباء والأحباء يجب ألا يستسلم الإنسان للحزن كوصية الرسول (لا تخزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم) إذ بقيامة المسيح نؤمن أيضًا بقيامتنا التي من أجلها مات وقام، فليس هناك ما يدعو للحزن لأننا متيقنون من قيامة الأموات، وليس م
يدعو لعدم الصبر على الحزن إن كنا نؤمن أن من غاب عنا لم يهلك، إذ ليس هو موت بل انتقال.
ويكشف ترتليان عن أحد الأضرار الأخرى لعدم الصبر وهو الرغبة في الانتقام، وكثيرًا ما يجترئ المنتقم على الرب ويصمم على مضاعفة الشر ليثبت تفوقه على خصمه، لكن الوصية تأمرنا بعدم مقابلة الشر بالشر مطلقًا لأن الأعمال المتشابهة تستحق مجازاة متشابهة، وكيف يقدم الإنسان كرامته للرب ذبيحة، إن كان يدعى إمكانية الانتقام لنفسه بذاته.
وعندما يوصى الرب (لا تدينوا لكي لا تدانوا) إنما يطلب منا الصبر لأنه من ذا الذي يتجنب إدانة الآخرين إلا من لديه صبرًا ليتخلى عن الانتقام؟ أما من يدين غيره فقد وضع نفسه مكان الله الذي له وحده حق الدينونة.
إن تطويب الرب (طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات) إنما يخص الصابرين، إذ لن يكون مسكينًا بالروح إلا من كان متضعًا، ولن يكون متضعًا إلا من يحتمل بصبر التنازل عن حقه أو يرضى بسرور إنكار ذاته.
ويطوب ترتليان هؤلاء الذين يذرفون الدموع في أحزانهم، ولذلك تعطى لهم وعود بالتعزية والفرح، ويتساءل عمن يستطيع أن يحتمل ثقل التجارب بدون صبر؟
(طوبى للودعاء) (طوبى لصانعي السلام) تنطق على الصابرين، لأنه لا يمكن أن يكون لغير الصابرين ميل للسلام، والرب عندما يقول (افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السموات لأنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم) لا يعد بهذه الجعالة لم لا يصبرون، لأنه ليس من يفرح بهذا الألم إلا من يستهين به وليس من يستهين به إلا من قد اقتنى الصبر.
وكيف يتمم الإنسان الوصية (اغفروا يغفر لكم) إن كان بسبب عدم الصبر يظل أسيرًا لتذكر إساءة ما؟ ومن ذا الذي يغضب على أخيه ولا يضع قربانه على المذبح إلى أن يجد الصبر ويتصالح مع أخيه؟ وكيف نتمم الوصية (لا تغرب الشمس على غيظكم)؟ إذًا غير مسموح لنا أن نظل ولو يومًا واحدًا بدون فضيلة الصبر.
والصبر فضيلة يشترك فيها جميع السالكين في طريق الخلاص وهو يساعد على التوبة إذ ينتظر ويترجى ويطلب الخلاص لأولئك المجاهدين يومًا فيومًا في حياة التوبة، وفي نماذج التوبة التي قدمها الرب تتضح أهمية الصبر، فالراعي يبحث بصبر ويجد في طلب الخروف الضال، وبينما لا يهتم عديم الصبر كثيرًا بخروف واحد مفقود، يحتمل الصبر الألم في البحث عنه حتى يجده ويحمله على منكبيه، وهذا هو أيضًا صبر الأب الذي يستقبل ابنه الذي ضل حتى يرجع ويلبسه ويغذيه ويلتمس له العذر لدى أخيه عديم الصبر والذي احتد غضبه عليه.
والمحبة التي هي رباط الكمال وكنز المسيحيين لا تقوم إلا على أساس الصبر، والرسول يقول (المحبة تتأنى) وهذه الأناة تستمدها من الصبر، والرسول يقول (المحبة تتأنى) وهذه الأناة تستمدها من الصبر، والمحبة (لا تحسد) والحسد هو صفة عدم الصبر، وهى (لا تتفاخر) إذ قد نالت اتضاعًا لما لها من صبر، وهى (لا تنتفخ ولا تقبح) إذ أن هذا ليس من الصبر في شيء، وهى (ولا تطلب ما لنفسها) بل تقبله بقدر ما ينبغي أن تكون نافعة للآخرين بصبر، وهى (لا تحتد) لأن الاحتداد هو عدم الصبر عينه (المحبة تحتمل كل شيء وتصبر على كل شيء)، فلأن لها صبر، لذلك (لا تسقط أبدًا)، كل ما عداها سيبطل، أما الإيمان والرجاء والمحبة فستبقى:
الإيمان الذي وصله صبر المسيح
الرجاء الذي ينتظره صبر الإنسان
والمحبة التي يلازمها الصبر.
وكما تحدث ترتليان عن صبر النفس، يتحدث عن صبر الجسد، ويأتي هذا من معاناة الضيقات التي من أجل الرب في جهاد الصدقات والأصوام والصلوات، الأمر الذي يجعل الله يميل أذنه ويطيل أناته علينا، فقد عاش ملك بابل سبع سنوات محرومًا من آدميته كالحيوانات، ولما قدم ذبيحة صبر جسده استعاد عرشه وأرضى الله بذلك. إنه الصبر الذي يعين على ضبط الجسد ويعزى وحدة الأرملة ويختم على عفة العذراء ويرفع نفوس الذين خصوا أنفسهم لأجل الملكوت.
ولأنه كان يعيش في زمان الاضطهادات، لذلك يربط ترتليان بين الصبر والاستشهاد، فمعونة الصبر هي التي جعلت الأنبياء والرسل يغلبون الضربات والنار والوحوش والسيف، وبقوة الصبر جاز إشعياء المنشار واحتمل استفانوس رجم الحجارة.
ويلخص ترتليان عمل الصبر، فهو يقوى الإيمان وينشر السلام، ويضبط الجسد ويضمد الجروح ويحفظ اللسان، ويأخذ باليد، ويهزأ بالتجارب ويزيل العثرات ويتوج الشهداء، إنه يعزى المسكين ويحكم الغنى ويهدئ المريض ويحفظ القائم ويفرح المؤمن ويجتذب الوثني ويوصى السيد على عبيده، أننا نحبه لدى الطفل ونمتدحه لدى الشاب ونحترمه لدى الشيخ.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-athnasius-fahmy/tertelian/patience.html
تقصير الرابط:
tak.la/t57s5bc