مرت على إسرائيل أزمنة مؤلمة في أيام نهاية الحكم اليوناني، من فساد رؤساء الكهنة الذين حاولوا صبغ المجتمع اليهودي بالحضارة اليونانية الوثنية بكل إنحرافاتها الأخلاقية (راجع سفر المكابيين). وكان رؤساء الكهنة يتولون مراكزهم بالمؤامرات والدسائس والرشاوى لملوك اليونانيين. إلى أن جاء المكابيين فأحيوا الروح الدينية مرة أخرى بعد أن كانت قد إنطفأت. وهزم المكابيين الجيوش اليونانية، وجدد يهوذا المكابى الهيكل الذي دنسه أنطيوخس إبيفانيوس وطهره. وصاروا يحتفلون بهذا اليوم الذي صار عيد التجديد. ولكن للأسف كانت فكرة يهوذا المكابى أن يتحالف مع الرومان القوة الصاعدة في ذلك الزمان. فكان هذا بداية ضعف المكابيين. ودبت الصراعات بين أفراد أسرة المكابيين وأدى التنافس بينهم لإنهيار دولتهم، وتسببت الصراعات بينهم للتدخل الأجنبى. ودخل بومبى الروماني إلى أورشليم وإقتحم الهيكل ولكنه لم يسلب كنوزه. وعيَّن بومبى هركانوس الثاني رئيسا للكهنة. وبعد هذا صار حكم المكابيين بلا قوة حقيقية. بل أنه لم يستمر حكم هركانوس الثاني كاملا مع ضعفه بل قَسَّم الحاكم الروماني جابينيوس مملكة هركانوس إلى خمسة أقسام كل منها مستقل عن الآخر.
وقبل هذا بحوالى 50 سنة كان آخر ظهور لملك قوى هو هركانوس الأول الذي أخضع الأدوميين لحكمه. بل وصل الأمر أنه في نهاية حكم المكابيين وثق الرومان في أنتيباتر الأدومى وهو شخصية ماكرة وقوية، وولوه الحكم. وهذا دخل إلى الحكم بعد صراع على العرش ولكنه دخل بسيف بومبى. وكان الصراع بين هركانوس الضعيف وأخيه أريستوبولوس القوى. فمال أنتيباتر ناحية الضعيف هركانوس. وسريعا ما صار هو الحاكم الفعلى وصار هركانوس كالدمية في يديه. كانت بداية يهوذا المكابى سنة 166 ق.م. ودخل بومبى إلى أورشليم سنة 63 م. وبعدها بـ 24 سنة ملك هيرودس الكبير ابن أنتيباتر.
ولم تستقر هذه المملكة التي أسسها بومبى. فكان أريستوبولوس أخو هركانوس ما زال حيا، وكان أولاده أقوى منه. وبدأوا في الظهور بمساعدة الفرس بل وساعدهم على ذلك الإضطرابات والحروب التي نشبت بين الرومان أنفسهم. ثم هزم قيصر بومبى، وبدا كأن نجم هركانوس وأنتيباتر بدأ يخبو. ولكن جاءت معونة من قيصر فجأة وهو في مصر لأنتيباتر وأعطاه ولاية اليهودية كمكافأة وترك لهركانوس رياسة الكهنوت. وصار أبناء أنتيباتر حكاما. الأكبر كان فاسيليوس على أورشليم، والأصغر كان هيرودس على الجليل وكان عمره 25 سنة. وأظهر القوة والتصميم، وكانت هذه صفاته في سحق حروب الثوار الذين كانوا قد بدأوا في حروب العصابات وكانوا غالبا من القوميين. وأصدر هيرودس حكما بإعدام زعيمهم. فإستدعاه السنهدريم لأنه أعطى لنفسه حقًا ليس له وأصدر حكما بالموت ضد إنسان. وذهب هيرودس في ملابس ملوكية ومعه حراس أقوياء ومدعم بتأييد الرومان. وفشلت خطط السنهدريم ضده. وإنسحب من أورشليم ولكنه عاد بجيش كبير لتدمير أورشليم إلا أن والده أنتيباتر أقنعه بعدم فعل ذلك. وقد عينه قيصر بعد ذلك حاكما على منطقة أكبر.
ومع مقتل قيصر وتولى كاسيوس حكم سوريا كان يمكن أن يهتز مركز وحكم أنتيباتر وهيرودس، ولكنهم أسدوا خدمات للرومان فثبت الرومان حكم هيرودس الذي كان قد حصل عليه من قيصر. وقام أحد الثوار بدس السم لأنتيباتر، ولكن ولديه فاسيليوس وهيرودس أخمدوا الثورة وكل معارضة.
وبعد معركة فيليبى تم وضع العالم الروماني في يدى أنطونيوس وأوكتافيوس. وأخذ أنطونيوس حكم أسيا. وعرف هؤلاء الأدوميون كيف يكسبونه فعينهم رؤساء ربع على اليهودية. وإذ إنشغل أنطونيوس في حروب كليوباترا وأنهك فيها دخل الفرس لأرض اليهودية بمساعدة الثوار المكابيين بقيادة أنتيجونوس ابن أريستوبولوس. وبالخديعة والخيانة دخل فاسيليوس إلى معسكر الفرس وأُخِذوا كأسرى فإنتحر فاسيليوس وحُرِم هركانوس من رياسة الكهنوت. وتولى أنتيجونوس لفترة قصيرة الحكم ورياسة الكهنوت. وكان هيرودس قد حذر أخوه فاسيليوس وهركانوس من الفرس ولم يستمعوا له. أما هيرودس فقد هرب من أورشليم. وترك عائلته تحت حماية أخيه يوسف في القلعة الحصينة ماسادا. وهرب هيرودس إلى العربية ومنها إلى روما ليطلب مساعدة الرومان. وهناك لم يحصل فقط على تأييد أنطونيوس له بل وأوكتافيوس. وأعلن مجلس الشيوخ تعيينه ملكا على كل اليهودية، وعمل له أنطونيوس إحتفالا بهذه المناسبة. وعاد هيرودس ومعه معونة رومانية، وكان أخوه يوسف قد قتل في ثورة للجليليين. وبمساعدة الرومان الذين أرسلهم أنطونيوس إستعاد هيرودس كل ما كان له ماعدا أورشليم.
وبينما كان جيشه محاصرًا لأورشليم ذهب هو إلى السامرة ليتزوج مريم الأميرة المكابية الجميلة التي كان قد خطبها منذ خمس سنوات. وهو كان متزوجًا من قبل وأنجب ابنه أنتيباتر. ونتيجة الحصار سقطت أورشليم وقام بمذبحة رهيبة. وبدأ هيرودس في قتل كل أمراء عائلة المكابيين بل وقتل الكثيرين ليتخلص من كل المنافسين. وعين أحد البابليين رئيسا للكهنة. أما ألكسندرا والدة مريم فقد جعلت بنتها تستعطفه ليعين ابنها أريستوبولوس رئيسا للكهنة. فطلبت منه مريم أن يعين شقيقها رئيسا للكهنة فعينه وكان في سن السبعين. وكانت مريم هي الزوجة الوحيدة من عشر زوجات التي أحبها بشدة وسادت عليه في جنونه. ولكنه لعلمه بكراهية المكابيين له دبر مؤامرة لقتل أريستوبولوس أخو مريم غرقا وهو يستحم. وذلك إذ أخبر بتهليل الشعب له أثناء عيد المظال. وعرفت ألكسندرا بالمؤامرة فأبلغت أنطونيوس عن طريق كليوباترا التي كانت تكره هيرودس هي الأخرى. فإستدعاه أنطونيوس، وإستطاع هيرودس أن يكسب موقفه مع أنطونيوس بالرشوة. وأثناء ذهاب هيرودس لأنطونيوس ترك الحكم لخاله يوسف. وكان يوسف متزوجًا من سالومى أخت هيرودس. وفي جنونه وغيرته على مريم طلب من خاله يوسف أن يقتل مريم في حالة أن أدانه أنطونيوس حتى لا يتزوجها غيره. ولسوء الحظ أبلغ يوسف مريم بهذا ليظهر لها كم هي محبوبة. فلما عاد هيرودس إتهمت سالومى سيئة السمعة، زوجها كبير السن يوسف، بالخيانة مع مريم. وإذ علم هيرودس بأنه أفشى السر لمريم، تأكد من الخيانة وقتله دون أن يسمع منه.
أصدر أنطونيوس أمرا أن يتنازل هيرودس لكليوباترا عن أريحا وفينيقية وفلسطية الغنية بمزارع البلسم، ولكن جاءت حرب أوكتافيوس مع أنطونيوس، وإنهزم أنطونيوس في معركة إكتيوم أمام أوكتافيوس. ومرة أخرى تمكن هيرودس من التودد لأوكتافيوس الذي صار أغسطس قيصر. وليثبت ملكه من أي ثورات قتل هركانوس الثاني بذريعة أنه تآمر مع العرب. ونجح هيرودس مع أغسطس فوسع له حدوده فضم بيريه شرق الأردن. وقبل أن يذهب هيرودس للقاء أغسطس ترك الحكم لسيموس وكرر نفس الطلب بقتل مريم في حال عدم عودته. وأيضًا تكرر ما حدث قبلا وأخبر سيموس مريم بما حدث. ولما عاد فعلت سالومى نفس الشيء. فقتل هيرودس مريم وسيموس دون أن يسمع لأحدهما. ثم أعدم ألكسندرا أم مريم وإستكمل قتل كل أسرة المكابيين. وبعد ذلك حول يده ضد عائلته وبدأ في التآمر ضد أولاده وزوجاته العشر وبدأ يسجن بعضهم ويقتل البعض. بل قتل 300 من الجنود الذين تشفعوا عنده لكى لا يقتلهم. وتآمر ضده ابنه أنتيباتر فسجنه، ولأن قتله كان يستلزم تصريحا من أغسطس قيصر، أرسل طلبا بالتصريح له. ووصلت الموافقة ونفذ حكم الإعدام قبل وفاته هو بخمسة أيام. هذا هو الطاغية الدموى الذي قتل أطفال بيت لحم الأبرياء.
كان هيرودس مكروها من اليهود كأدومي، وكرهوا فيه امتزاج حكمه بالأممية. وكرهوا فيه أفعاله ووحشيته ودمويته. وكان هيرودس قد أحاط نفسه بحاميات من ألمانيا وتراكيا والعديد من الدول الأوروبية. وفي حياته لم تكن هناك إمرأة تأمن على شرفها ولا رجل يأمن على حياته. وكان له جيش من الجواسيس وسط الشعب. وكان يعذب الذين يكرههم عذابا رهيبا لكى يعترفوا وهم أبرياء بما لم يقترفوه.
ولكن من الناحية الأخرى كان يحترم القوانين اليهودية ليسترضى اليهود وبنى الهيكل لمصالحتهم. وترك البناء للكهنة ولم يتدخل في شيء، ولم يدخل هو للهيكل. ولم يتدخل في أعمال الكهنوت، ولم تحمل أي مبانى في عهده أي علامات وثنية. ولم تحمل أي نقود صورته حتى لا يؤذى مشاعر اليهود. وترك للسنهدريم حريته ولكن حددها بالأمور الدينية فقط. والغريب أنه حظى بمساندة اثنين من كبار الربيين ربما لأنهم فضلوا حكمه على ما يمكن أن يأتي بعده فيفرض الرومان الوصاية عليهم.
وفي فترة حكمه وُجِد المعلمين الكبار هليل وشماى. وهما مدرستين مختلفتين. وقيل عنهما أن تعاليمهم من السماء كأنها كلمات الله الحى. بل صار تعليم الناموس بعد هليل هو "تعليم هليل". وكان هليل من بابل وجاء إلى أورشليم ليتعلم في أكاديميات أورشليم. وكان يعيش على الكفاف، يعمل كعامل باليومية ويرسل ثلث دخله لأهله يتعيشوا منه، والباقى يتعيش هو به ويدفع تكاليف الدراسة. وصار هليل فيما بعد رئيسا للسنهدريم وغالبا كان على رأس من ذهبوا لهيرودس ليخبروه بأن بيت لحم هي مكان ميلاد المسيح. وهليل هو الذي أرسى وثبت التقليد. وقال البعض أن تعاليمه تشبه تعاليم المسيح، بل تمادى البعض وقالوا أن مصدر تعاليم المسيح هو تعاليم هليل. وهليل هو مصدر تعاليم غمالائيل وبالتالي شاول الطرسوسي أيضًا. ويعتبر هليل هو مصلح اليهودية في عصره، هو لم يحذف شيئا من الماضى، بل هو كان يرجع الأشياء إلى أصلها.
وكان في ذلك الزمان عالَمَيْنْ مختلفين بجانب بعضهما البعض. [1] العالم اليوناني بحضارته اليونانية. فهناك المسرح والإستاد المدرج. والأجانب يملأون المدينة بتقاليدهم وعاداتهم ولغاتهم. [2] وعلى الناحية الأخرى العالم اليهودي القديم برجعيته (أو قل العالم المحافظ) ويسيطر عليه تعاليم هليل وشماى. ويظلل عليه الهيكل والمجامع. وكلا العالمين يطارد أحدهما الآخر.
وإذا كان لهيرودس جواسيسه، كان للناموس اليهودي قضاته وشرطته. ولكن هيرودس كان يحكم بوحشية ودكتاتورية، أما السنهدريم فبتروٍ وميل إلى الرحمة. وكانت اليونانية هي لغة المحاكم والحكم والجند، بل كان الكثيرين من الشعب يفهمونها ويتكلمون بها أما الشعب العادى فكان يتكلم الأرامية وكانت هذه لغة المسيح ورسله. أما الهيكل والمجامع فيتكلمون فيها العبرية، وهناك مترجمين يترجمون للشعب ما يقال بالأرامية وهى اللغة العامية الدارجة. وكان الربيين يمنعون الكلام بل ولا يشجعون على تعليم اللغة اليونانية. وكان للأورشليميين لهجتهم الخاصة المميزة وهى أسرع وأسهل. وإختلط العالمين اليوناني واليهودي، بين حياة التحفظ والتمسك بالوقار وبين التحرر من كل القوانين وبلا حدود. وإنتشر هذا التحرر بالذات وسط الأغنياء. وكان المسئولين من كبار اليهود ينفقون ببذخ على تعليم الشعب الإلتزام بالحفاظ على التقاليد والطاعة والإلتزام بها، والعبادة. وكان مصدر هذه النفقات النذور والعطايا والتقدمات للهيكل، بل رفع الكهنة أسعار كل ما يقدم في الهيكل كذبائح ليزداد الدخل. لذلك إنتشر بين الأغنياء أن يساعدوا الفقراء في شراء هذه الذبائح. وكانوا يستضيفون الحجاج والغرباء في بيوتهم الفخمة والمملوءة بالرفاهية والتسلية. ولأغنياء النساء ملابسهم الغالية ومجوهراتهم ولهم المرايا (وكانوا لا يستعملونها في السبت لئلا تغوى المرأة إذا وجدت شعرة بيضاء أن تزيلها بالملقاط المثبت في المرآة، تقديسا للسبت). وهؤلاء الأغنياء كانوا يتباهون بأن يتكلموا اليونانية.
وبينما كان النساء لا مصدر لهم للتعليم والمعرفة سوى داخل بيوتهن، كان الرجال على إتصال بكل العالم، وللأورشليميين بالذات أصدقاء في كل العالم يتبادلون معهم الرسائل فيما يشبه نظام البريد الآن. بل كان هناك نشرة شبه يومية فيما عدا السبت يقرأون فيها الأخبار السياسية وغيرها.
ومع إنتشار الغنى والبذخ في أورشليم إنتشر أيضًا الفساد. فإنتشر بين الرجال العبارات الخليعة، وانتشرت الملابس الخليعة بين النساء بل والرجال أيضًا، وهذا نفس ما قيل بإشعياء النبي "وقال الرب من أجل ان بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الاعناق وغامزات بعيونهن وخاطرات في مشيهن ويخشخشن بارجلهن. يصلع السيد هامة بنات صهيون ويعري الرب عورتهن. ينزع السيد في ذلك اليوم زينة الخلاخيل والضفائر والاهلة. والحلق والاساور والبراقع. والعصائب والسلاسل والمناطق وحناجر الشمامات والاحراز. والخواتم وخزائم الانف. والثياب المزخرفة والعطف والاردية والاكياس. والمرائي والقمصان والعمائم والازر. فيكون عوض الطيب عفونة وعوض المنطقة حبل وعوض الجدائل قرعة وعوض الديباج زنار مسح وعوض الجمال كي" (إش3: 16 - 24). وكل هذا يشير للإنحطاط الخلقى الذي عم أورشليم.
وانتشر بين الأورشليميين الأغنياء الإنفاق ببذخ وسفه في ولائم الأفراح التي لا يدعون إليها الفقراء بسبب ملابسهم وهيئتهم. وكانوا يضعون الطعام في أطباق غالية الثمن والنبيذ في أوانى من الكريستال. والطباخ الذي يخطئ أو يفشل في شيء يعاقب بشدة، ليظهر المضيف في هيئة تتناسب مع مركزه.
هذا كان حال المدينة التي إقترب خرابها كما تنبأ عنها الأنبياء وبكى عليها المسيح، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. المدينة التي إنتسب لها الأنبياء حتى لو لم يخرجوا منها. هذه المدينة التي كانت مدينة الله، صارت للفساد واللهو. صار فرحها فرح العالم، ولذلك لم تفرح بالمسيح الذي أتى إليها ليفرحها، كان موجودا وسطهم ولم يعرفوه لأنهم أرادوا مسيحا يتفق مع أحلامهم في المجد العالمى والأفراح العالمية. ولذلك أيضًا لم يكونوا مستعدين لسماع تعاليمه التي تختلف مع حياتهم بل كانوا مستعدين لسماع أي مُدَّعٍ مخادع أحمق يدعى أنه المسيح، لو كان يرضيهم بأقواله. لذلك قال الكتاب "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله... أما الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله" (يو1: 11 ، 12)
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-antonios-fekry/jesus-the-messiah/herod.html
تقصير الرابط:
tak.la/t7st55h