1- ولكن لماذا منح الله مثل هذا التصريح لليهود؟ بالتأكيد من أجل قساوة قلوبهم (مت 19: 8) - لكي لا تفيض بيوتهم بدم القريب. أيهما أفضل من فضلك، أن تطرد المرأة المكروهة خارج المنزل أم تُذبح بالداخل؟هذا ما كانوا سيفعلونه لو لم يُعطوا حق الطلاق. لهذا السبب قيل "إن لم تجد نعمة في عينيك... أطلقها من بيتك" (تث 24: 1). ولكن عندما وجّه كلامه لأناس ودعاء منع عنهم حتى الغضب. فماذا قال الرسول: "وإن فارقته فلتلبث غير متزوجة" (1كو 7: 11). أترى (معي) الإكراه والعبودية الحتمية والقيد الذي يقيدهم ببعضهم البعض؟ نعم فالزواج هو حقًا سلسلة (قيد) ليس فقط بالاهتمامات العديدة أو بالخطوات اليومية التي تقيدهم، ولكن أيضًا هي نجبرهم على خضوع متبادل أكثر إيلامًا من كل أشكال العبودية.
2- لقد قيل "ليسود الرجل على المرأة" (تك 3: 16)، ولكن ما جدوى هذه السيادة؟ لأن بالمقابل فقد جعله الله عبدًا لها وتحت أمرها. يا له من تغيير غريب وعجيب للعبودية (السيادة) التي تخيلها! فكليهما مثل العبيد الفارين الذين سيدهم أوثق كل منهما بقيود كثيرة ثم قيّدهما سويًا كل رجل من أرجلهما بقيود مع بعضهما البعض بحيث يكون القيد قصيرًا فلا يستطيعا المشي بطلاقة، ثم إنهما مرغمين أن يمشوا سويًا وعن قرب شديد. هكذا المتزوجان، فعلاوة على اهتماماتهما الشخصية فهما مجبران على تحمل أحدهما الآخر بحسب القيد الذي يربطهما الواحد بالآخر، وهو لهما وكأنه أكثر قسوة من كل القيود إذ نزع الحرية منهما كليهما لأنه لم يمنح السلطة المطلقة لأحدهما ولكن ليتشاركا في كل سلطة متاحة. أين أولئك إذن الآن الذين من أجل إشباع اللذة مستعدين لتحمل كل هذه العقوبات(67).
3- لأن تحمل الخضوع للقدر اليسير من اللذة في وسط نزاعات وكراهية متبادلة غالبًا لا تنتهي إلا بالعبودية التي تجبر أحد الشريكين أن يتحمل رغمًا عنه شرور الآخر، وهي كفيلة لمحو كل (تعلق ب) اللذات.
لهذا السبب فإن الطوباوي بولس استخدم أساليب أكثر فعالية ليقطع به حدّة (والتهاب) الحواس، إذ قال: "لسبب الزنا، لعدم النزاهة، التحرق". ولكن عندما أدرك أن مثل هذا النوع من التوبيخ له تأثير يسير على الغالبية تقدم بالنقاش (خطوة) ليكون أكثر ملاءمة لإقناعهم كتلك المناقشة التي أجبرت تلاميذ الرب على القول "إنه من الأفضل عدم الزواج" (انظر مت 19: 10)، وهذا مثل ليس لأحد الزوجين سلطان على ذاته، وبولس الرسول هنا لم يقدم مثل هذه الفكرة تحت شكل وعظ أو نصح، ولكنه كأمر ووصية مفروغ منها.
أن تتزوج أو لا تتزوج، فهذا أمر يتوقف علينا، ولكن العبودية التي علينا تحملها إجبارية وبالرغم منا، فنحن لا نستطيع أن نفعل شيء بإزائها.
4- لماذا هذا؟ ففي اللحظة التي اخترنا فيها منذ البداية (قرار الزواج) وبمعرفة تامة للسبب ونعلم بالضبط ما هي حقوقه وواجباته، فبملء إرادتنا نُدخل أنفسنا تحت هذا النير. وعقب ذلك، بعد أن تحدث عن أولئك الذين يحيون مع الطرف غير المؤمن، وبعد أن شرح بالتدقيق كل قوانين الزواج، وبعد أن حشر كلامه عن العبيد (1كو 7: 18-21)، ليعزيهم بطريقة مناسبة قال لهم إن العبودية التي يعانون منها لن تقلل من قدرهم الروحي، وأخيرًا وصل إلى كلامه عن البتولية وهو يحمله في قلبه منذ وقت طويل ويود أن يسرع ببذر بذاره.
5- بلمسات خفيفة وقليلة بدون شك قد زخرف كلامه عن الزواج... طريقة رائعة لكي يسبق ويعد آذان مستمعيه ليمهد الطريق لفكرهم ويقدم مقدمة كاملة عن موضوعه، وبعد كلامه عن العبيد قال "قد أُشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيدًا للناس" (1كو 7: 23). وهو عندما يذكّرنا بجميل الرب فهو يفعل هذا بطريقة لكي يوجه كل الأرواح ويرفعها باتجاه السماء ويبدأ في النهاية موضوع البتولية بهذه الكلمات "وأما العذارى فليس عندي أمر من الرب فيهن ولكنني أعطي رأيًا كمن رحمه الرب أن يكون أمينًا" (1كو 7: 25)، أو بالنسبة لزواج المؤمنين مع غير المؤمنين فأنت أيضًا ليس لك وصية من الرب ولكن بسلطان عظيم تقننه كاتبًا: "وأما الباقون فأقول لهم أنا لا الرب إن كان أخ له امرأة غير مؤمنة وهي ترتضي أن تسكن معه فلا يتركها" (1كو 7: 12).
6- لماذا إذن لم تعبّر عن رأيك بطريقة جليّة في موضوع العذارى؟ لأن عن هذا الموضوع فإن المسيح أظهر إرادته بوضوح رافضًا أن يعطي لهذا الأمر الصفة الإلزامية، لأن الكلمات "من أراد أن يفهم فليفهم" تعطي للسامع حرية الاختيار. وأيضًا عندما تحدث عن البتولية قال "أود أن يكون كل الناس كما أنا" (1كو 7: 7)، أي أن يحيوا في البتولية، وأيضًا قال: "أقول لغير المتزوجين والأرامل إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا" (1كو 7: 8).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
7- في تركه من البداية الاختيار للسامع، فهو بذلك قد جاز رضاه وحينئذ فقط أعطى نصيحته، فمن حيث أن كلمة البتولية توحي بمجرد نطقها عن تجارب صعبة وشاقة، فلذلك هو لا يسارع في الحث عليها، وهو يبدأ بمجاملة تلاميذه في منحه الإمكانية (الفرصة) ليروا منه (كلامه عن البتولية) على هيئة أمر وهو هكذا بمرونة روحه ولين عريكته يكشف فكره حينئذ.
لقد سمعت كلمة البتولية -تلك التي تنبئ بمشقات وعرق كثير- فهي ليست وصية ملزمة وليست مجالًا للأمر، لا فالذين يقتبلون هذه الفضيلة طواعية واختيارًا سيتلقون بالتأكيد خيرات (سمائية) خاصة بهم، وستضع البتولية على جباههم إكليلها(68) اللامع والبهي. ولكن الذين يدفعونها عنهم ويرفضون قبولها لن يُعاقبوا ولن يُجبروا قط على عمل شيء رغمًا عنهم.
8- فضلًا عن ذلك فهو بهذه الطريقة ليس فقط انتزع من كلامه كل ما من شأنه أن يجعله ثقيلًا وجعله مقبولًا، ولكن لأنه أعلن أن هذا الفضل لا يُعزى إليه ولكن للمسيح، فهو لم يقل "بالنسبة للعذارى فأنا لا أمر" ولكن قال "ليس لدي أمر" أي أنه يريد القول في تصدره لهذا الموضوع إنه لم يتحرك بناء على دوافع بشرية تلك التي لا ينبغي الثقة فيها، ولكن لأن هذه هي مشيئة الله الذي أكد على الحرية في الاختيار. إنني ليس لي قوة إعطائكم مثل هذا الأمر ولكن إن أردتم أن تسمعوني من حيث كوني رفيقكم في خدمة (المسيح)، فأقول "إنني أُعطي رأيًا كمن رحمه الرب أن يكون أمينًا" (1كو 7: 25).
9- وإنه من المناسب هنا أن نبدي إعجابنا بحكمة وعظم فطنة الرسول المطوّب - إذ كيف وهو بين شيئين متعارضين، أستطاع أن يجيد التعبير لكي تجد نصيحته الفرصة للإصغاء إليها، وبقية الآية "كمن رحمه الله" فهو هنا يقيّم نفسه بصورة ما، ولكن ليس لمزيد من التباهي بل في المقابل يحقّر من ذاته ويتواضع.
_____
(67) لست أوافق القديس يوحنا على تصوير عبودية الزواج بهذه لصورة البشعة التي توجد في نطاق ضيق من الزيجات، فالرضا والمسرة والحب المتبادل وحمل الهموم باشتراك بين الطرفين، وبذل كل طرف حياته وجسده للطرف الآخر تجعلنا نسميه نير مبارك في حمى المشرّع الإلهي الذي قد بارك عرس قانا الجليل.
(68) أيضًا الكنيسة تطلق على الزواج إكليل الزواج وتلبس العريس والعروس إكليل، وهذه رؤية مسبقة من الكنيسة للأكاليل التي تنتظر أن يأخذها الزوجان في سعيهما المشترك في مشوار العمر من أكليل الصبر والبذل واحتمال كل منهما لضعفات الآخر، والطاعة والمحبة وغيرها من الفضائل.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-virginity/divorce.html
تقصير الرابط:
tak.la/bsamad8