|
محتويات: (إظهار/إخفاء) |
|
همة (نشاط) بولس الرسول محبة بولس الرسول النعمة والجسارة في قلب بولس فرحة بولس |
إذا تساءلنا ماذا كان عند القديس بولس الرسول (من صفات) جذبت بالأكثر انتباه يوحنا ذهبي الفم، فإننا نجد الإجابة في كل سطر من كلامه عنه ألا وهو حبه للمسيح! فإن كان القديس بولس الرسول قد احتلَّ إعجابه، فهذا بسبب غيرته كمرسل للكرازة بالمسيح. هذا الإنسان الغيور الذي أراد أن ينشر الإيمان بالمسيح بأقصى سرعة، وكأن شيئًا ما كان يضغط عليه، وكأنه كان قد أُعطي مهلة ولم يكن لديه سوى وقت قصير لكي يلهب العالم بنار الإنجيل.
وبلا شك، فإن القديس يوحنا ذهبي الفم لم يفحص الأسباب اللاهوتية أو النفسية لهذا التلهف التبشيري غير العادي. إنه يسجله ويتصور مع القديس بولس الرسول أن سببه الأخير هو حبه للمسيح. وهذا هو ما سمح له -على سبيل المثال- منذ الحديث الأول، أن يقول عن ذاك الذي كان رسولًا إليه -كما هو رسولًا إلينا- وللذين هم أكثر علمًا منا:
[بعد أن كرّس بولس الرسول نفسه تمامًا، قدم أيضًا كل الخليقة: الأرض والبحر والعالم اليوناني (أي العالم المثقف المتحضر) والعالم البربري (أي المتخلف الجاهل)، وبكلمة واحدة كرّس كل الأمم التي تحت الشمس، كما لو كان قد أُعطي أجنحة واجتازها كلها ولم يكتف بالعبور فيها: بل في اجتيازه كان يقتلع الخطايا مع أشواكها من أجل أن يزرع حياة التقوى الحقيقية وينتزع الضلال ويقيم الحق محوّلًا البشر إلى ملائكة. وماذا أقول، إنه جعل الشياطين ملائكة، فهكذا كان حال البشر (آنذاك).]
القديس بولس هو الكارز بالإنجيل، المبشر بالإيمان، الزارع بذار الكلمة لحساب المسيح في العالم، هذا هو بولس ذهبي الفم!
وقد اعتبره كثيرون لاهوتيًا يركز على عمل النعمة واكتشفوا في رسائله ما يمكن أن نقوله نظرية الخلاص بالإيمان (العامل بالمحبة)، وجعلوا من رسالته إلى رومية الموضوع الرئيسي في المسيحية.
والقديس يوحنا ذهبي الفم اكتشف في القديس بولس من شهادة سفر الأعمال والرسائل رجلًا يحب المسيح لدرجة أنه كان يود أن يعطيه لكل الناس مع احتمال خسارته لنفسه.
إن حجم العظات التي فيها تكلم ذهبي الفم عن بولس الرسول تبرهن على أنه كان يحيا في شركة قلبية وصلة وثيقة معه. فهو كثيرًا جدًا وبتلقائية قدم مثال بولس للمؤمنين الذين يسمعونه بحرارة تكشف عن شدة إعجابه به. فكيف إذًا لا يقبل بمنتهى الفرح فكرة تخصيص سبع عظات لتقريظ هذا الرسول العظيم يكشف فيها عن السمات الأساسية لروحانيته الغنية بالنعمة؟

إن السمة الأولى التي يذكرها ذهبي الفم في تقريظه للقديس بولس الرسول هي غيرته غير العادية وهمته الفائقة. في مرات كثيرة يؤكد أن هذا الرسول وصل إلى درجة غير عادية من الفضيلة وأنه أدى أعمالًا شبه كاملة، ولكي نُفصِّل كلامنا، فإنه شرح على الأخص طريقتين مختلفتين لهذه الهمة التي يتميز بها هذا الرسول.
إنه أراد أن يُظهر شجاعة الرسول من خلال رحلاته التبشيرية. فهو منذ الحديث الأول ذكر بصيغة فيها مبالغة أن هذا الرسول اجتاز "كل الأقطار التي تحت الشمس"، وفي الحديث الثاني أبرز انتصارات خدمته الرسولية بصورة معبّرة فقال: "إنه كان يتقدم بمهابة كما في موكب انتصاري وينصب على الأرض أقواس انتصارات متوالية"، في الحديث الثالث يذكر بعضًا من نشاطاته المتعددة بقوله: "إنه سواء بحضوره أو برسائله... بأحاديثه أو بأعماله... بتلاميذه أو بنفسه هو شخصيًا، كان يقيم الذين سقطوا ويُثبِّت القائمين... " مع أن بولس لم يمتلك في مثل هذا الجهاد أيًا من الكنوز التي يتباهى بها الناس على العموم: أي لم يكن له غنىً أو أصل نبيل كما لم يكن له فصاحة هذا العالم (حديث 4: 10)، بل هو مثل جندي تقدم بمفرده إلى المعركة في الحال في مواجهة أعداء كثيرين مسلحين باقتدار وقَلَبَ حصونهم واكتسب إلى صفه حتى أعداءه. وقد اجتذب إليه كل مدن العالم القديم المشهورة وعلى رأسها روما وأثينا وكورنثوس وأفسس.
![]() |
نظر القديس يوحنا ذهبي الفم بإعجاب شديد لبولس وهو على ظهر السفينة التي تقلّه نحو عاصمة الإمبراطورية فقال: " في الحقيقة لم تكن الموقعة المعروضة عليه قليلة الأهمية فقد كان مطلوبًا منه تبشير مدينة روما وتحويلها عن وثنيتها" (حديث 7: 9). وليس هذا فقط، بل بدلًا من التوقف هناك، فإنه سعى إلى السفر إلى أسبانيا.
إن هذا النشاط الذي لا يكل لبولس أثار إعجاب ذهبي الفم جدًا، فهو لم يبُحر مرارًا أو طاف بأقطار كثيرة نظيره، لكن عندما اتخذ قراره بالتخلي عن حياة الوحدة كان بولس هو مثله الذي يقتدي به في عمله الفياض من إعداده للموعظين، وعظاته العديدة، وغيرته الرسولية وانشغاله بالتتابع الأسقفي في الأقطار البربرية، ومراسلته بإلحاح لا يمل لكهنة ورهبان فينيقية لتبشير الوثنيين، دون أن ينسى (وسط مشاغله الكثيرة) تحرير رسائله الكثيرة أو عظاته، وكل هذا أتمه دون أن يأخذ راحة لنفسه وفي احتقار شديد لأتعابه الجسدانية.
ويوجد أيضًا نوع آخر من الهمّة والنشاط لدى بولس نال إعجاب ذهبي الفم ألا وهو شجاعته التي لا ُتقهر في لحظات الاضطهادات، فقد كانت له نفس "أقوى من الصخر وتفوق الحديد والماس صلابة" (حديث 1: 10، 11، 12). فبولس كان من الشخصيات التي لها القدرة على تحويل مسار التاريخ واتجاهه، ومثل هؤلاء لا يجود بهم الزمان إلا نادرًا، فقبل أن يولد وترى عيناه النور يدعوه الله دعوة خاصة: "قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيًا للشعوب" (إر 1: 5)، وبولس الرسول أدرك مبكرًا أن طاقاته وإمكانياته مكرسة لهذه المهمة بل هو يؤمن أن لله قادر أن يُعدّل فيها ويكيفها وينميها حسب الظروف والمقاومات والضيقات والحروب: "قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض، يحاربونك ولا يقدرون عليك لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك" (إر 1: 18-19).

كان حبه الجيّاش لله والناس هو النقطة الثانية التي دعت ذهبي الفم لأن يلقي نظرة على شخصية بولس الرسول ليكتشف فيها أوجه هذه المحبة المختلفة.
إن بولس الرسول كان يمتلك في ذاته طبيعة نارية وقد لاحظ ذهبي الفم هذا خصوصًا في الحديث الرابع عندما اقتبس ما أشار به بولس الرسول عن اضطهاده للمسيحيين في رسالة غلاطية فعلّق عليه بقوله: "فبسبب هذا العنف المميز والطاغي الذي له، كان بولس محتاجًا للجام قوي جدًا، ثم لكي لا يرفض كلمات الله له، ردع الله حميته الغبية هذه بجعله أعمى وعند تلك اللحظة كلّمه... " (4: 2). فبمجرد أن التقى شاول الطرسوسي بالرب المتجلي ونال المعمودية، حتى وضع هذه الطبيعة النارية في خدمة المحبة: سواء كانت هذه المحبة نحو الله الذي تجلّى حبه لنا (نحن البشر) في تجسد ابنه، أو سواء كانت المحبة تجاه الناس الذين اشتراهم الله بدم يسوع المسيح. وقد تحدث ذهبي الفم في الحديث الثاني عن محبة بولس الرسول لله والتي كانت هي الكنز الذي لا يفنى، فقال: "إنه بدون هذا الحب لا يتمنى أن يأخذ موضعًا: لا بين القوات ولا بين السلاطين والرؤساء، بل على ولا العكس إنه بهذا الحب يفضِّل بالأحرى أن يكون آخر الكل وبين الذين ينهال عليهم التأديب (انظر 2كو 6: 9) على أن يُحرم من هذا الحب ويكون بين العظماء العلويين (السماويين)..." (2: 4).
وقد تحدث ذهبي الفم أيضًا بولع عن حب الله للبشر فقال في الحديث الثاني: "الله لا يحبنا كمحبتنا الهزيلة له، بل هو يحبنا بدرجة لا تستطيع الكلمات أن تجيد التعبير عنها" (2: 7) فهي تفوق كل محبة بشرية سواء محبة الأب أو الأم لأولادهم بل ومحبة الشاب لزوجته الشابة.
إن بولس الرسول ويوحنا ذهبي الفم كانا بمثابة قلبين أعطيا بالحق وبغيرة شديدة كل حبهما للمسيح.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

دخل القديس يوحنا ذهبي الفم إلى أعماق مسيحية وبشرية شخصية بولس الرسول واكتشف فيها منابع همته ومحبته، إذ اعتنى جيدًا بالإشارة إلى أن هاتين الفضيلتين لم تكونا ثمرة لإرادته الشخصية بمفردها، بل همًا أيضًا ثمرة لعمل الله. وقد أشار ذهبي الفم مرات كثيرة في هذه الأحاديث إلى الحضور والتأثير المتزامن لكلا القوتين في قلب بولس، ففي خاتم حديثه الثاني قال: "أنا أعجب بقوة الله وأندهش لغيرة بولس، فهو من ناحية نال مثل هذه النعمة العظيمة، ومن ناحية أخرى أعدَّ نفسه جيدًا لنوالها" (2: 9)، وقال في الحديث الخامس: "إن هذا الإنسان امتلك إلى أقصى درجة كلا الكنزين: المواهب التي تأتي من روح الله والقوى التي تأتي من الإرادة الشخصية" (5: 3)، والصيغة الأكثر تعبيرًا وجدت في الحديث السابع إذ يقول: {فمن أين أتت هذه العظمة؟ إنها أتته من نفسه ومن الله بآن واحد. فإن كانت جاءته من الله فهي لأنها أتته من نفسه أيضًا لأن "الله لا يقبل الوجوه" (رو 10: 34).} (7: 3). وعندما تكلم ذهبي الفم عن تحول بولس للإيمان ركز على أن الله سيظل سيدًا ليُسمِِع دعوته في اللحظة التي يراها مناسبة فقال: { لا تكن فضوليًا لحوحًا، لكن اترك للعناية الإلهية غير المدركة الاهتمام باختيار الوقت المناسب.} (4: 3)، ثم اقتبس بعد ذلك مباشرة العبارة الشهيرة لبولس والتي أشار فيها إلى أية درجة كان مدركًا لهذا السر إذ قال: "لكن لما سُرّ الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته أن يعلن ابنه فيَّ..." (غلا 1: 15-16).

لنر كيف أدرك ذهبي الفم شدة الفرحة الطاغية التي كانت تعتمل في قلب بولس وهو يتأمل بلا توقف في شخصيته. هذه الفرحة كانت نابعة من انتشار الإنجيل ومن تحول الكثيرين للمسيح إذ يقول: "شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح" [(انظر 2كو 2: 14)؛ حديث 3: 6-7]. وعندما كان على ظهر السفينة التي حملته إلى روما كان مقيدًا بالسلاسل، لكنه كان ممتلئًا فرحًا كما لو كان مرسلًا لقضاء مهمة هامة جدًا (7: 9)، وحتى في روما نفسها حين كان بعض الرسل الكذبة يبشرون بالإنجيل بنية غير مستقيمة، فلم يهمه هذا كثيرًا فقال: "سواء كان بعلة أم بحق ينُادى بالمسيح" (في 1: 18) وهنا اقتبس ذهبي الفم الشطر الأول من هذه الآية لكن الشطر الثاني الذي يقول "بهذا أنا أفرح بل سأفرح أيضًا" احتفظ به ليدوي في قلبه.
وذهبي الفم كان يُسرّ بأن يرجع في هذه الأحاديث إلى فرحة بولس خصوصًا في ضوائقه، فليس فقط تصور الموت كان يعضد فرحته لتفكره أنه سيرى المسيح آنذاك في نوره البهي، وحيث سيكون في السعادة الغامرة مصحوبًا بعدد من التلاميذ الآخرين له، بل كان يطفر فرحًا وهو في وسط ضيقات هذا العالم، وقال ذهبي الفم في الحديث الثاني: {عندما كانت تضيق عليه المخاطر أو الإهانات وكل أنواع المحقرات، فإنه كان يتهلل من جديد، وكتب لأهل كورنثوس قائلًا: "لذلك أُسرّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات" [(2كو 12: 10)؛ حديث 2: 2]. نعم فإن بولس كان يتهلل بضربات السياط ويفتخر بقيوده} (حديث 6: 8).
يوجد بين بولس الرسول وذهبي الفم نوع من التوافق المحدد سلفًا. فكلاهما مولع بالإخلاص والحزم لما يضطلعان به من مهام، وأظهرا في حياتهما همّة عجيبة ملهمة من محبة حارة في تلقائية غير متحفظة ومبتهجة بنعمة الرب، فذهبي الفم لم يسع في كل الظروف إلا لأن يكون خادمًا أمينًا للمسيح، وكان يحب أن يردد دائمًا القول "المجد لله على كل شيء"، وبولس الرسول كتب إلى أهل فيلبي في سجنه يقول: "الآن يتعظم المسيح في جسدي سواء بحياة أم بموت. لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" (في 1: 20-21).

ملاحظة: تم ترجمة هذه المقدمة عما جاء في مقدمة النص الذي ترجمناه والمذكور في مقدمة الكتاب وكذلك أضفنا إليه فقرات من نفس النص والذي موجود في سلسلة أخرى من كتب Les Peres Dans La Foi DDB.
ويسعدنا في نهاية هذه المقدمة أن نقدم بضع أبيات شعر موجهة من المترجم للقديس بولس الرسول على وزن ترتيلة: خبرني يا يوحنا:
وأنت يا بولس حدثني اضطهادك كيف كان
وكيف الرب ظهر لك ورأيته بالعيان
جاوبني يالا وقول لي رد بولس وقال
نور وجهه ساطع، ساطع أقوى من شمس النهار
وحنانه وعطفه واضح وحبه ليَّ بان
مش ممكن أنسى أبدًا صورته في وضح النهار
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-paul-praise/introduction.html
تقصير الرابط:
tak.la/942wpjb