9- التقليد في كنيسة الرسل:
يتحتم علينا ونحن نعالج موضوع العقائد المسيحية في كنيسة الرسل، أن نشير إلى التقليد... ولا نقصد التقليد بمفهومه اللغوي (المحاكاة والتمثيل) لكن قصدنا المصطلح الكنسي، ويعني بصفة عامة التعليم والنظم الدينية المسلَمة إلينا شفهيًا من السلف(119).
فإيماننا المسيحي انتقل شفويًا، وكذا كثيرًا من التعاليم وأنظمة العبادة:
ليس من الضروري أن كل تعليم أو ممارسة عبادية نجد لها آية أو آيات تنص عليها في الإنجيل... فالإنجيل لا يحوي كل التعاليم وأنظمة العبادة، لكنه -على حد تعبير القديس يوحنا الرسول- للإيمان أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولنوال الحياة باسمه بالإيمان (يو20: 31).
من أجل هذا، تعتبر الكنيسة التقليد المصدر الثاني للتعليم المسيحي بعد الكتاب المقدس. ثابت تاريخيًا أن التعليم المسيحي في الفترة المبكرة من تاريخ الكنيسة، انتقل شفويًا قبل أن يكتب أي إنجيل أو رسالة(120).
* فالسيد المسيح سار في تعليمه على الطريقة السائدة في زمانه، وهي طريقة التعليم الشفوي، التي كان يتبعها معلمو اليهود ومدارسهم... لقد تلمذ السيد المسيح تلاميذًا، استودعهم الحق ولم يسلمهم كتابًا مكتوبًا... وكانت آخر وصاياه لهم: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم... وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" (مت28: 19، 20)...
وهذه الوصية تعني أن ينقل تلاميذه الحق الذي قبلوه منه إلى غيرهم بنفس الأسلوب، أسلوب التلمذة... هكذا نفهم كلمات الرسول يوحنا الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضًا شركة معنا... وهذا هو الخبر الذي سمعناه منه ونخبركم به.." (1يو1: 3، 5).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
* والرسل أسسوا الكنائس ونشروا الإنجيل شفاهًا بدون كتب مكتوبة... وما لبثوا أن أقاموا نوابًا عنهم، ليقيم هؤلاء من يخلفهم، وهكذا على التوالي... وهؤلاء جميعًا كانوا يسلمون الإيمان شفهيًا... "وما سمعته مني بشهود كثيرين، أودعه أناسًا أمناء، يكونون أكَفْاء أن يعلموا آخرين أيضًا" (2تي2: 2).
والكلمات الثلاث الواردة في هذه الآية "سمعته، أودعه، يعلموا"، تعبر عن التعليم الشفوي... لم يهتم الرسل بأن يكتبوا تعليمهم، بل أن كثيرين منهم لم يكتبوا شيئًا، بينما خلص كثيرون بسبب كرازتهم... والذين كتبوا، إنما فعلوا ذلك لا ليؤسسوا كنائس بكتابتهم، وإنما كتبوا للكنائس التي كانوا قد أسسوها ليثبتوها في الإيمان، أو ليدحضوا هرطقات ظهرت فيها ويحذروا منها، أو ليجيبوا على أسئلة وجهت إليهم من مؤمنيها، أو كملاحظات لهم على سلوك هؤلاء(121).
يؤكد هذه الحقيقة يوسابيوس المؤرخ الكنسي... يقول:(إن أولئك الرجال العظماء اللاهوتيين حقًا... أقصد رسل المسيح... أذاعوا معرفة ملكوت السموات في كل العالم، غير مفكرين كثيرًا في تأليف الكتب)(122)... ونحن لا نقرأ عن يهود أو أمم انضموا إلى الإيمان -في تلك الفترة المبكرة- بعد أن قرأوا كتبًا مقدسة، بل قبلوا الإيمان بالتبشير والتعليم، كما نقرأ عن قصة إيمان وزير كنداكة الحبشي، وكرنيليوس قائد المائة هو وكل بيت، الذي أرسل إلى بطرس ليسمع منه (أع 8، 10)... ونود الإشارة هنا إلى أن كلمة (إنجيل) في كتاب العهد الجديد، لا يُقصد بها الكتاب المكتوب نفسه، بل المقصود فحوى التبشير، وبشرى الخلاص المُفرحة، كما يدل على ذلك الأصل اللغوي اليوناني للكلمة(123)...
أما أدلة التقليد الكنسي من كتابات الآباء الرسل، فهي كثيرة، نورد أمثلة منها:
* لقد ختم يوحنا الرسول إنجيله بقوله: "وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب، وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله. ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يو20: 30، 31)... وواضح من هذه العبارة، أن الأناجيل لا تحوي كل تعاليم الرب يسوع...وفي رسالتيه الثانية والثالثة يقول: "إذ كان لي كثير لأكتب إليكم، لم أرد أن يكون بورق وحبر، لأني أرجو أن آتي إليكم وأتكلم فمًا لفم، لكي يكون فرحنا كاملًا" (2يو21؛ 3يو13، 14).
* والقديس لوقا الإنجيلي روى أن الرب يسوع بعد قيامته، استمر يظهر لتلاميذه مدة أربعين يومًا يكلمهم عن الأمور المختصة بملكوت الله (أع1: 3)... لكن أحدًا من البشيرين لم يدون لنا هذه الأحاديث، أو إشارة إليها. وكانت هذه الأحاديث دون أدنى شك على جانب كبير من الأهمية، خاصة بعد موت المسيح وقيامته...
* والقرار الذي أصدره مجمع أورشليم في معالجة مشكلة التهود في الكنيسة، كان مقتضبًا جدًا... أما السر في ذلك، فلأن اعتمادهم الأكبر كان على التبليغ والشرح الشفوي، الذي كلفوا به برنابا وبولس ويهوذا وسيلا... "رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا برنابا وبولس... يهوذا وسيلا، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاهًا" (أع15: 25_ 27).
* وفي رسائل القديس بولس نجد الأمر واضحًا.
يقول لكنيسة كورنثوس عن الافخارستيا "لأنني تسلمت من الرب ما سلّمتكم أيضًا، أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزًا وشكر... إلخ." (1كو11: 23)... وواضح أنه سلمهم التعليم المختص بالافخارستيا شفهيًا، لأن هذه هي رسالته الأولى إليهم، وهو يكلمهم بصيغة الماضي "سلمتكم"...
وقال للكورنثيين عن بعض الملاحظات الأخرى "أما الأمور الباقية، فعندما أجيء أرتبها" (1كو11: 34).
وأقام تيطس أسقفًا على كريت، وتركه فيها ليكمل ترتيب الأمور الناقصة ويقيم قسوسًا في كل مدينة حسبما أوصاه (تي1: 5).
ويوصي أهل فيلبي قائلًا: "وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيّ فهذا افعلوا" (في4: 9)... ويوصي تلميذه الأسقف تيموثاوس أن يتمسك بصورة التعليم الصحيح الذي سمعه منه (2تي1: 13)...
ويوصي أهل تسالونيكي بقوله: "اثبتوا إذًا أيها الإخوة، وتمسكوا بالتقاليد(124) التي تعلمتموها سواء بالكلام أم برسالتنا" (2تس2: 15).
ونلاحظ هنا أنه يضع التعليم الشفوي على قدم المساواة في الأهمية مع التعليم المكتوب (= سواء بالكلام أم برسالتنا)... ويوصيهم أن يتجنبوا كل أخ لا يسلك بحسب التقليد(124) الذي أخذه منه (2تس3 : 6)... وقد مدح أهل كورنثوس لأنهم يحفظون التقاليد (124) كما سلمها إليهم (1كو11: 2).
* وثمة ملاحظة هامة... فقد قال بولس الرسول لقسوس أفسس "متذكرين كلمات الرب يسوع أنه قال مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع 20: 35)... هذه الكلمات المنسوبة للسيد المسيح لم ترد في البشائر الأربع، أو أي سفر من أسفار العهد الجديد... إذن من أين أتى بها بولس؟ ثم أن كلمة "متذكرين" الواردة في العبارة السابقة، تدل على أن هذا القول كان شائعًا ومعروفًا، وهو يذكرهم به... هذا وقد لاحظ العلماء أن كلمات السيد المسيح المستشهد بها في كتاب تعاليم الرسل Didachê، ورسالة برنابا، وإن كانت قريبة جدًا مما ورد في أسفار العهد الجديد المعروفة، لكن هناك بعض اختلافات ظاهرة... كل هذا حمل العلماء، ويحملنا على الاعتقاد بوجود تقليد شفوي غير الأناجيل الحالية، كان منتشرًا ومعروفًا لدى الناس في العصر الرسولي، وكان يلقن لطالبي العماد(125).
_____
(119) في اللغات الأخرى -غير العربية- لكل من هذين المعنيين لفظ خاص فالتقليد بمعنى المحاكاة في الإنجليزية والفرنسية Imitation والتقليد بالمعنى الكنسي tradition. وفي اليونانية Paradocis وهي نفسها في القبطية.
(120) Carrington, Vol. 1, pp.
51, 210, 273; Schaff, Vol. 1, p. 571.(121) انظر (1كو5: 1؛ 7: 1؛ 8: 1؛ 11: 18؛ 15: 12؛ 16: 1؛ غل1: 6، 7... إلخ.).
(122) H. E.
3, 24, 3; De Pressensé, Vol. 1, pp. 217, 218.(123) انظر (مر1: 15؛ 13: 10؛ 14: 9؛ 16: 15؛ رو2: 16؛ 16: 25؛ غل2:2؛ كو1: 23؛ 1تس2: 9). - انظر أيضًا:
Hastings; Dictionary of the Bible, p. 304
.(124) لفظ " تقليد وتقاليد" في هذه الآيات، ورد في الترجمة العربية البيروتية البروتستانتية المتداولة "تعليم وتعاليم " وهي ترجمة خاطئة للكلمة، وقد وردت تقليد وتقاليد في اليونانية واللاتينية والقبطية واللغات الحديثة... والعجيب أن مترجمي العربية، ترجموا نفس الكلمة اليونانية الواردة في (مت15: 6) بكلمة " تقليد ". وذلك في الموقف الذي يذم فيه السيد المسيح تقليد الكتبة والفريسيين!
(125) Daniélou, Vol. 1, pp.
68, 69.الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-yoannes/apostolic-church/tradition.html
تقصير الرابط:
tak.la/5969qc8