* (هـ) التكلم بألسنة(40):
وموضوع التكلم بألسنة من أعقد الأمور المتصلة بالكنيسة الأولى، وأكثرها صعوبةً وغموضًا... اختلف علماء الكنيسة وآباؤها بخصوصه، ولم يعطوا رأيًا محددًا واضحًا بشأنه، نظرًا لأنَّ هذه الظاهرة انتهت تقريبًا بانتهاء عصر الرسل، وكان لا وجود لها في زمانهم.
ظهرت موهبة الألسن مع مولد كنيسة العهد الجديد يوم الخمسين (أع 2: 1-13)... وبعدها نقرأ عنها مرتين في سفر أعمال الرسل (أع 46:10؛ 6:19). أمَّا في الرسائل فلم يتناولها سوى بولس في رسالته الأولى إلى كورنثوس (1كو 12-14)(41).
والواقع أنَّ موهبة التكلم بألسنة، وإن كانت تُذكر صراحة وبهذه التسمية في المواضع التي أشرنا إليها، لكنَّها تختلف عن بعضها في الجوهر، ولا تُعبر عن ظاهرة واحدة... فَمُعجزة يوم الخمسين كانت معجزة تمتاز بطابعها الخاص وهدفها الخاص(42)... تكلَّم التلاميذ بِفَضلها بلغات مختلفة من أجل حاجة سامعيهم بقصد تبشيرهم... أمَّا التكلم بالألسن المذكور في رسالة كورنثوس فهو عمل تعبدي خالص يختص بالصلاة، ولا علاقة له بالتكلم بلغات جديدة بقصد الكرازة والتبشير.
* فيما يختص بما حدث يوم الخمسين، هناك رأيان: رأي يقول أنَّ الرسل تكلموا بلغات جديدة لم يكونوا يعرفونها. إتمامًا لوعد السيد المسيح "وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ" (مر 17:16)، وهذا هو رأي غالبية آباء الكنيسة وعلمائها... ورأي آخر يقول لم يتكلم الرسل بلغات جديدة، بل تكلموا الآرامية الخاصة بهم، بينما سامعوهم كانوا يسمعونهم يتكلمون بلغاتهم... وكأنَّ الروح القدس في تلك الحالة كان يقوم بدور المترجم، وكان يُترجم فوريًا لكل لغات الحاضرين... ومن بين أصحاب هذا الرأي القديس غريغوريوس أسقف نيصص...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وفي رأينا أنَّ الرأيين على صواب... فالرسل تكلموا فعلًا لغات جديدة لم يكونوا يعرفونها، ما في ذلك شك (أع 11،8،6،4:2)، بل تفاهموا مع سامعيهم بلغاتهم (أع 37:2). وهذا واضح ممَّا ذكره لوقا في (أع 2)، وممَّا ذكره السيد المسيح صراحة في (مر 17:16)... ومن ناحية أخرى، حينما ألقى بطرس عظته (وطبعًا ألقاها بلغة واحدة أيًا كانت)، فهمها الجميع، وبناءً على ذلك تساءلوا "مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ؟".. وهذا لا يتأتَّى إلاَّ إذا كان الروح القدس -أثناء إلقاء بطرس للعظة- قد قام فعلًا بترجمة فورية لكل لغات الحاضرين... وعلى ذلك نستطيع القول أنَّ الرسل تكلموا في يوم الخمسين بلغات جديدة لم يكونوا يعرفونها، وأنَّ الروح القدس في بعض المواقف كان يقوم بدور المترجم... ولا غرابة في ذلك، فالترجمة موهبة من مواهب الروح القدس التي تكلم عنها الرسول بولس (1كو 10،8،4:12).
ومهما يكن من أمر، فآباء الكنيسة وعلماؤها رأوا أنَّ الله أعطى الرسل موهبة التكلم بلغات أخرى جديدة من أجل حاجة أعمال الكرازة، خاصةً في ذلك الدور الأول التأسيسي للكنيسة... البعض رأَى -ومنهم القديس يوحنا الذهبي فمه(43)- أنَّ كل تلميذ وُهِبَت له اللغة الخاصة بالحقل الكرازي الذي عُيِّن له. والبعض رأى -ومنهم القديس أغسطينوس(44)- أنَّ كلًا من الرسل تكلم لغات جميع الشعوب لِيُظهر بذلك أنَّ الكنيسة الجامعة ستضم كل الشعوب.
أمَّا عن عدد اللغات التي تكلموا بها، في ذلك اليوم التاريخي (يوم الخمسين) فقد اختلف الآباء أيضًا فيه... فمَنْ قائل إنَّهم تكلموا بلغات الشعوب التي ذكرها لوقا في (أع 2: 9-11). ومنهم مَنْ قال إنَّهم تكلموا 70 لغة أو 72 أو 75 على عدد أبناء نوح أو يعقوب (تك 46،10). بينما رأى آخرون أنَّهم تكلموا 120 لغة على عدد التلاميذ الذين حل عليهم الروح القدس في ذلك اليوم (أع 15:1)... وعلى أيَّة الحالات، فقد كان التكلم بألسنة في يوم الخمسين آية للكرازة ولتمجيد الله بلغات متنوعة لم تكن معروفة للتلاميذ، وشهادة لجميع الشعوب أنَّ الله كان حقًا في وسطهم.
* أمَّا عن موهبة التكلم بألسنة التي عالجها القديس بولس في رسالته إلى كنيسة كورنثوس، فَتَظهر أنَّها كانت عملًا من أعمال التعبد والصلاة... ويمكن القول إنَّها كانت نوعًا من الصلاة والتسبيح والتمجيد والشكر لله، ينطق بها الإنسان في حالة نشوة روحية لا إراديًا، وفي لغة يُعطيها الروح القدس، غير اللغة التي يتكلمها ذلك الإنسان. وفي هذه الحالة تكون روح الإنسان في سلبية، مستسلمة للروح القدس، بينما يكون الذهن غير واعٍ لما ينطق به الإنسان. وهذا واضح من كلام الرسول بولس، فهو يدعوها صلاة "إِنْ كُنْتُ أُصَلِّي بِلِسَانٍ، فَرُوحِي تُصَلِّي، وَأَمَّا ذِهْنِي فَهُوَ بِلاَ ثَمَرٍ" (1كو 14:14). ويقول أيضًا: "مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ لاَ يُكَلِّمُ النَّاسَ بَلِ اللهَ، لأن لَيْسَ أَحَدٌ يَسْمَعُ، وَلكِنَّهُ بِالرُّوحِ يَتَكَلَّمُ بِأَسْرَارٍ" (1كو 2:14)...
وهكذا نرى أنَّ التكلم بألسنة في كنيسة كورنثوس، لم يكن في صورة تعليم أو نبوة، بل كان نوعًا من التعبد الروحي الشخصي... ومن هنا نفهم لماذا يربط بولس بين التكلم بألسنة، وبين التكلم بألسنة الناس والملائكة (1كو 30:12؛1:13)... إنَّ ألسنة الملائكة تنطق دائمًا بالتسبيح للجالس على العرش...
ويؤيد هذا المفهوم، ما حدث أيضًا يوم الخمسين... لقد تكلم الرسل "بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى" قبل عظة بطرس، وقبل أن يجتمع إليهم الشعب (أع 8،6،4:2)... أمَّا موضوع كلامهم بهذه الألسنة الأخرى، قبل عظة بطرس، فكان الكلام "بِعَظَائِمِ اللهِ" (أع 11:2)... ونفس هذا الأمر حدث في بيت كرنيليوس بعد حلول الروح القدس على المجتمعين فيه، فقد سُمِعُوا "يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ وَيُعَظِّمُونَ اللهَ" (أع 46:10)... وتعظيم الله هو عينه عمل التسبيح والتمجيد والشكر...
* ومن حيث أنَّ التكلم بألسنة الذي أشار إليه بولس في كورنثوس هو عمل تعبدي خالص، فإنَّه يبني المتكلم وحده دون الآخرين "مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ يَبْنِي نَفْسَهُ" (1كو 4:14)... ومن هنا فقد اعتُبِرَت موهبة التكلم بالألسن أقل درجات المواهب الروحية، لأنَّها تستهدف الذات، ولا يترتب عليها بنيان الكنيسة كلها... لكن المؤمنين في كورنثوس رفعوا من قدر هذه الموهبة، لأنَّها -كما يقول الذهبي فمه- كانت الموهبة الأولى التي نالها الرسل.
* على أنَّه سرعان ما أُسيء استخدام هذه الموهبة في حياة القديس بولس نفسه، فصارت سببًا للتفاخر والتشويش والعثرة. لذا نراه يُقلِّل من أهميتها(45)، ويدعو المؤمنين إلى التعلق بالمواهب الأخرى، مبينًا لهم أنَّ هناك طريقًا أفضل من المواهب، هو المحبة(46)... وتلافيًا للعثرات، أوصى بولس المتكلم باللسان أن يُترجم ما يقوله عن طريق استحضار ذهنه بالصلاة. وإذا تعذَّر عليه ذلك، فَلِيُترجم كلامه آخر ممَنْ نالوا موهبة الترجمة. أمَّا إذا لم يوجد مَنْ يترجِم، فَلِيَصمت في الكنيسة (1كو 14: 6-9، 13، 28).
ومن الثابت أنَّ هذه الموهبة قد انتهت تقريبًا بانتهاء عصر الرسل. وإن كان إيريناوس -من آباء القرن الثاني- قد ذكر أنَّ هذه الموهبة كانت قائمة في الكنيسة في زمانه، لكنَّ العلماء يشكون في صحة ذلك.
* وثمة ملاحظة هامة، ينبغي ألاَّ نغفلها فيما يتعلق بموضوع التكلم بألسنة. لقد كانت هناك حكمة خاصة في كل مرة من المرات الثلاث التي حدثت فيها هذه المعجزة وأوردها القديس لوقا في سفر أعمال الرسل... ففي يوم الخمسين، كان التكلم بألسنة آية لجمهور المجتمعين "مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ"، وما حدث في بيت كرنيليوس كان علامة للرسل أنَّ الرب قد فتح باب الخلاص للأمم الوثنية (انظر أع 11: 1-18). وما حدث في أفسس كان آية لِمَنْ نالوا الروح القدس بعد أن قالوا: "وَلاَ سَمِعْنَا أَنَّهُ يُوجَدُ الرُّوحُ الْقُدُسُ" (انظر أع 19: 1-6)... أمَّا أن يكون التكلم بألسنة بلا أدنى هدف أو حكمة إلهية كما يُشاهد عند شيعة الخمسينيين حاليًا، فأمر يقطع ببطلان ادعائهم بأنَّهم يتكلمون بألسنة، ولا يعدو الأمر أن يكون بعض الحركات الهستيرية أو المفتعلة...
_____
(41) قيل أنَّ ما دونه الرسول في (رو 26،15:8؛ غل 6:4؛ أف 19:5) إنَّما هو إشارات عنها أيضًا.
(42) يرى البعض -وهذا الرأي له مؤيدوه ومعارضوه- أنَّ معجزة التكلم بلغات جديدة كانت قاصرة على يوم الخمسين وحده، وأنَّ هذه المعجزة لم تتبع الرسل أينما اتجهوا. ويدللون على ذلك -استنتاجًا- من أنَّ بولس الرسول لم يفهم اللغة الليكاؤنية التي تكلم بها أهل لسترة (أع 14: 8-14). وأنَّ بطرس الرسول -بناء على رواية بابياس وإيريناؤس- كان يُترجم له مرقس في روما (يوسابيوس 3، 29، 15). ونحن لا نستطيع أن نقطع برأي في هذه القصة
Homily 4 on the Acts of the Apostles. City of God, 18. 49.(45) انظر: (1كو 26،22،19،9،6:14).
(46) انظر: (1كو 31:12؛2،1:13).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-yoannes/apostolic-church/talent-tongues.html
تقصير الرابط:
tak.la/ynm9f42