نحن لسنا بصدد اعادة اكتشاف إيماننا، أو أننا نحتاج عقد مجامع جديدة، لوضع تحديدات إيمانية جديدة.
فإيماننا راسخ، لأنه “ٱلْإِيمَانِ ٱلْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ.” (يه 1:3)
وكنيستنا القبطية الأرثوذكسية حافظت على إيمانها المُسلَّم لها من الرب، وكرز به لنا مارمرقس الانجيلي، وحفظه الآباء، بتقوى وروحانية وخوف الله، على مدى الأجيال.
كقول القديس أثناسيوس الرسولي " دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة، وتعليمها، وإيمانها، الذي هو من البداية، والذى أعطاه الرب، وكرز به الرسل، وحفظه الآباء، وعلى هذا الاساس تأسست الكنيسة، ومن يسقط منه فلن يكون مسيحيًا، ولا ينبغي ان يدعى كذلك فيما بعد(501).
وبالرغم من وضوح الإيمان المسيحي وبساطته، إلا أنه قد يختلف الناس أحيانًا في تفسير بعض بنود هذا الإيمان الخلاصي العظيم.
بطبيعة الحال، مرور واحد وعشرين قرنًا على المسيحية، أدى إلى تراكم خبرات تفسير لاهوتية عديدة، على مستوى كنائس العالم أجمع، وظهرت في التاريخ نظريات عديدة تفسر الإيمان المسيحي، وصار الأمر معقدًا جدًا، لا يستهوي إلا الدارس المتخصص الذي يبحث في كل فكرة ويتتبع قائلها، وتطور فكرته، وتأثيرها في الفكر المسيحي عمومًا. وتشابكت مدارس الفكر والتفسير، حتى تجد نفسك أمام دوامة من الأفكار، التي لا تعرف من أين جاءت، ولا إلى من تنتمي.
علمًا بأن (العقيدة والإيمان)، غير (تفسير وشرح العقيدة).
فجميع المسيحيين يؤمنون بالتجسد والفداء وبألوهية السيد المسيح، لكن قد يختلفون في شرح هذه الإيمانيات.
كل فكرة تفسيرية للإيمان لها بريقها، وفلسفتها، وبراهينها، ولها مناصرون ومؤيدون، وقد تكون فكرة فيها وجهة نظر سليمة في بعض أجزائها، أو فيها بعض الحق. وقد تستهوي العقل من أجل منطقيتها، وقد يكون عليها إجماع من جمهور الدارسين، مما يوحي أنها فكرة إيمانية أصيلة، وأبائية، وتعبّر عن الإيمان الأرثوذكسي في أصوله. مما يجعل المرء غير قادر على التمييز بين الحق والباطل.
فعلى سبيل المثال: فكرة أن الله الصالح لم يخلق الجحيم، وإنما الجحيم هو مجرد حالة نفسية يكون فيها الخطأة، نتيجة انفصالهم عن الله.
الفكرة لطيفة، ومنطقية، ومحببة للنفس، وفيها بعض الحق، ومريحة للإجابة على تشكيك الملحدين في صلاح الله، وأبوته ومحبته.. إلخ.
لكن السؤال المطروح: هل هذا هو الفكر المُعْلَن في الكتاب المقدس؟ هل هذا هو تعليم الآباء المعتبرين وبالإجماع؟ هل هذا ما نصلي به في الليتورجيا؟
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
لذلك صار من الضروري الأن، أن نرجع إلى بساطة الإيمان المُعلَن في الكتاب المقدس، والذي شرحه الآباء الأولون بنقاوة وإجماع، والأهم أنهم صلّوا به في الليتورجيا. فحتى لو أجمع الناس على تفسيرٍ ما، أو شرح لعقيدةٍ بطريقةٍ ما؛ فإن ما يهمنا بالدرجة الأولى رأي كنيستنا القبطية الأرثوذكسية، كما قاله الآباء القدامى بإجماع، وكما أعلنوه في شروحاتهم، وصلواتهم الليتورجية.
نحن لا نقلل من أراء الحكماء والفهماء والدارسين، الذين نتعلم بالحقيقة من دراساتهم، وأبحاثهم، لكن فيما يتوافق مع ما تسلمناه، وتعلمناه، في الكتاب المقدس وشروحات الآباء، “لَا تَنْقُلِ ٱلتُّخْمَ ٱلْقَدِيمَ ٱلَّذِي وَضَعَهُ آبَاؤُكَ.” (أم 22: 28)
وكذلك نحن ملتزمون بالدرجة الأولى بما نتكلم به مع الله في صلواتنا الليتورجية، بعيدًا عن نظريات وتفاسير العلماء والفهماء. دعهم يبحثون ويكتشفون المعاني حسبما يرون، ودعنا نصلي في براءة الطفولة، بما استلمناه من آبائنا، في صلوات الليتورجيا، في القداس، والتسبحة والأجبية، وغيرها. فليس من المنطقي، ولا من الأمانة، أن أُعلّم على المنبر، بعكس ما أتكلم به مع الله على المذبح، وفي المخدع.
“كَمَا طَلَبْتُ إِلَيْكَ أَنْ تَمْكُثَ فِي أَفَسُسَ، إِذْ كُنْتُ أَنَا ذَاهِبًا إِلَى مَكِدُونِيَّةَ، لِكَيْ تُوصِيَ قَوْمًا أَنْ لَا يُعَلِّمُوا تَعْلِيمًا آخَرَ، وَلَا يُصْغُوا إِلَى خُرَافَاتٍ وَأَنْسَابٍ لَا حَدَّ لَهَا، تُسَبِّبُ مُبَاحَثَاتٍ دُونَ بُنْيَانِ ٱللهِ ٱلَّذِي فِي ٱلْإِيمَانِ. وَأَمَّا غَايَةُ ٱلْوَصِيَّةِ فَهِيَ ٱلْمَحَبَّةُ مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ، وَضَمِيرٍ صَالِحٍ، وَإِيمَانٍ بِلَا رِيَاءٍ. ٱلْأُمُورُ ٱلَّتِي إِذْ زَاغَ قَوْمٌ عَنْهَا، ٱنْحَرَفُوا إِلَى كَلَامٍ بَاطِلٍ. يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِي ٱلنَّامُوسِ، وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُونَ، وَلَا مَا يُقَرِّرُونَهُ.” (1تي 1: 3-7)
عند خروج بعض الناس محاولين تشكيكنا فيما استلمناه من آبائنا الأمناء، فإن هذا يلقي علينا بمسئولية البحث في كنوز الآباء، بروح أمينة مجردة، غير موجهة بأفكار الآخرين؛ لنشبع بغنى تفاسير الآباء، على ضوء نصوص الكتاب المقدس، والليتورجيات القبطية، والآباء المعتبرين أعمدة، وقوانين المجامع المسكونية المعترف بها في كنيستنا المجيدة، يحركنا في ذلك ليس قناعاتنا الشخصية، بل الأمانة للإيمان والآباء، وما نصلي به كل يوم في ليتورجيتنا الغنية.
“وَأَمَّا ٱلْمُبَاحَثَاتُ ٱلْغَبِيَّةُ، وَٱلْأَنْسَابُ، وَٱلْخُصُومَاتُ، وَٱلْمُنَازَعَاتُ ٱلنَّامُوسِيةُ فَٱجْتَنِبْهَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ نَافِعَةٍ، وَبَاطِلَةٌ. اَلرَّجُلُ ٱلْمُبْتَدِعُ بَعْدَ ٱلْإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، أَعْرِضْ عَنْهُ. عَالِمًا أَنَّ مِثْلَ هَذَا قَدِ ٱنْحَرَفَ، وَهُوَ يُخْطِئُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ.” (تي 3: 9-11)
ما قررته الكنيسة الجامعة، في مجامع مسكونية، هو تحديدات إيمانية لا يمكن التشكيك فيها، حتى لو وُجدت أراء لاهوتية أخرى عند بعض الآباء. لأنه معلوم أن أباء الكنيسة المعتبرين لم يتفقوا في بعض الأراء اللاهوتية، بل كل أب قديس كان له منظور لاهوتي خاص، ونكهة خاصة في إدراك الحقيقة الإلهية الواحدة، ومع ذلك لم يتهموا بعضهم البعض بانحراف الإيمان أو بالهرطقة. لكن اشترطوا الإجماع في الرأي؛ ليكون جديرًا بأن تتبناه الكنيسة لتنقل به التعليم للأجيال، بأمانة بعيدًا عن الهوى الشخصي.
وهناك فرق كبير بين العقيدة وشرح العقيدة؛ فالعقيدة ثابتة كالصخر، ولكننا قد نختلف في الشرح.
ولذلك يوجد أيضًا فرق بين إيمان الكنيسة الجامعة، والرأي الخاص لبعض الآباء.
يظل الرأي الخاص مجرد رأي يُحترم، لكن لا يعبّر عن إيمان الكنيسة الجامعة.
وإذا كان هناك رأي خاص يمثل خطورة على لاهوت الخلاص، يتم رفضه نهائيًا باعتباره بدعة أو هرطقة.
“تَمَسَّكْ بِصُورَةِ ٱلْكَلَامِ ٱلصَّحِيحِ ٱلَّذِي سَمِعْتَهُ مِنِّي، فِي ٱلْإِيمَانِ وَٱلْمَحَبَّةِ ٱلَّتِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ. اِحْفَظِ ٱلْوَدِيعَةَ ٱلصَّالِحَةَ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلسَّاكِنِ فِينَا.” (2تي 1: 13-14)
“هَا أَنَا آتِي سَرِيعًا. تَمَسَّكْ بِمَا عِنْدَكَ لِئَلَّا يَأْخُذَ أَحَدٌ إِكْلِيلَكَ.” (رؤ 3: 11)
نعود الآن لموضوع دراستنا في الصراعات اللاهوتية الحديثة التي أُثيرت مؤخرًا في الجو الكنسي بلا داعٍ.
كانت الموضوعات كثيرة ومتشعبة، لكنك تستطيع بسهولة أن تكتشف بداية الخيط؛ لأن خطأً لابد أن يقود لخطأٍ، وهكذا تستمر سلسلة الأخطاء المترابطة والمتراصة، التي لو تُركت هكذا، لانحرف الإيمان المسيحي كله في تيارات غريبة كلية الغرابة عن فكر ربنا يسوع المسيح.
لذلك كان أهم دور للأسقف في الكنيسة، أن يكون “مُلَازِمًا لِلْكَلِمَةِ ٱلصَّادِقَةِ ٱلَّتِي بِحَسَبِ ٱلتَّعْلِيمِ، لِكَيْ يَكُونَ قَادِرًا أَنْ يَعِظَ بِٱلتَّعْلِيمِ ٱلصَّحِيحِ وَيُوَبِّخَ ٱلْمُنَاقِضِينَ.” (تي 1: 9)
قد يكون هناك تشابه في الفكر بين فريقيْ الحوار اللاهوتي، مع اختلاف استخدام التعبيرات، ولكن دعنا نتذكر قاعدة أقرها الآباء الأولون: أنه إذا اتفقنا في المفهوم، فلا يوجد مشكلة في الألفاظ التي نستخدمها لتعبّر عن الحقيقة الإلهية الواحدة.
ومع ذلك، يجب أن نلتزم بالتعبيرات التي استقرت في الكنيسة، خاصة في صلواتها الليتورجية، مع شرح المعنى الذي تحويه هذه التعبيرات؛ لإزالة أي سوء فهم، أو أي لبْس في الفهم. مع الالتزام بعدم تغيير ما استقر في الكنيسة من مفاهيم، وتعبيرات، ومصطلحات. وأن يكون لنا جميعنا فكر واحد، وتعبير واحد بحسب الكنيسة، وليس بحسب قناعاتنا أو استحساننا، أو أن يكون تعبيرنا بحسب قوانين المنطق، والعقل، وليس بحسب الكتاب المقدس، والآباء، والليتورجيا.
"وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُظْهِرُ أَنَّهُ يُحِبُّ ٱلْخِصَامَ، فَلَيْسَ لَنَا نَحْنُ عَادَةٌ مِثْلُ هَذِهِ، وَلَا لِكَنَائِسِ ٱللهِ." (1كو 11: 16)
_____
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-raphael/i-willingly-ate/faith.html
تقصير الرابط:
tak.la/k7vx8rj