في التحضير لهذه الدراسة التي تبحث في تدبير الخلاص الذي قام به الرب يسوع الفادي والمُخَلِّص، على أساسات كتابية، وآبائية، وليتورجية، وقانونية، كان لا بُد في البداية من استعراض التسلسل التاريخي للفِكْر المسيحي في هذا الصدد:[9]
شرح الآباء في القرون الأولى تدبير الخلاص كَسِرّ عظيم ليس له حدود في فَهْم أبعاده... وجاء في سياق شرحهم كل مفردات الشفاء والتجديد وَرَدّ الإنسان إلى رتبته الأولى وسداد الدين، وَتَحَمُّل العقوبة بدلًا عن البشر، وتنفيذ الحكم في المسيح على الصليب عوضًا عن الجميع، واستعادة الصورة الإلهية في الإنسان، واستعادة التبني لله الآب، واستعادة الحياة ووعد الأبدية وعدم الفساد لِمَنْ يتحد بالمسيح...
كانت الكنيسة في القرون الخمسة الأولى أي قبل خلقيدونية، كنيسة واحدة وحيدة جامعة، والإيمان وشرحه كانا مشتركًا بين الشرق والغرب. ويُقْصَد بالكنيسة الواحدة الجامعة أنها الكنيسة المُنْتَشِرَة في كل المسكونة، تحمل نفس الإيمان الواحد، وكان لها في البداية خمس مراكز رسولية كبيرة، وهي كنائس أورشليم، وأنطاكيا، والإسكندرية، وروما، ثم القسطنطينية.
في مجمع خلقيدونية تم استبعاد الإسكندرية وأنطاكيا، من خلال حَرْم ونفي القديس ديسقورس بدون وجه حق، وتم اضطهاد الكنائس التي لم تقبل خلقيدونية، وواضح هذا الاضطهاد في سيرة ساويرس الأنطاكي، ويعقوب البرادعي على سبيل المثال.
بعد خروج الكنيسة القبطية في خلقيدونية، عكفت الكنائس اللاخلقيدونية على رعاية شعوبها، وَحِفْظَهُم في الإيمان المقدس المُسَلَّم لهم من القديسين أثناسيوس وكيرلس وديسقورس وساويرس الانطاكي وغيرهم من آباء الكنيسة الجامعة قبل الانقسام. وَتَبَنَّت فكرة الحِفاظ على الإيمان دون زيادة أو نقص أو تطوير.
بعد مجمع خلقيدونية ظهر في الشرق (القسطنطينية واليونان والكنائس التابعة لهما) علماء لاهوت طَوَّرُوا وأزادوا في شرح الأساس اللاهوتي للخلاص مع إضافة آرائهم الشخصية، مثل غريغوريوس بالاماس، ويوحنا الدمشقي، وسمعان اللاهوتي الجديد، وغيرهم.
كما ظهر في الغرب (روما والكنائس التابعة لها) علماء لاهوت آخرون كان لهم آراء خاصة في الشرح اللاهوتي أمثال توما الأكويني، وأنسلم رئيس أساقفة كانتربري وغيرهما.
حدثت فجوة تفسيرية بين الشرق (البيزنطيين وأتباعهم) والغرب (اللاتين وأتباعهم)، نتج عنه في النهاية الانقسام الكبير بين الشرق والغرب سنة 1054 (القرن الحادي عشر).
في الخمسة قرون من بعد الانشقاق الذي حدث بين الكاثوليك ووالبيزنطيين الشرقيين وحتى حركة الاعتراض البروتستانتية أي من القرن الحادي عشر حتى القرن السادس عشر، مَالَت الكنيسة الكاثوليكية في تفسيرها لتدبير الخلاص للتركيز على الجانب القضائي (ربما بسبب تَدَاخُل سياسة الملوك وإدارة الصراعات والحروب مع الكنيسة) فغرست في الوعي المسيحي العام فِكْرَة الله الغاضِب الذي يُصْعُب إرضاؤه، وَقَدَّمَت للعالم المسيحي الأسرار والكهنوت كوسيط لِمَنْح رِضى الله للخطاة. وصار البُعد الشفائي باهِتًا جدًا في شرحهم.
جاء مارتن لوثر وجون كالڤن ومَن بعدهما يَتَبّنَّى نفس هذه الرؤية اللاهوتية لله الغاضِب الذي لا يمكن إيقاف غضبه... ولكن وجد لوثر في (بر المسيح بالإيمان) المَهْرَب للخروج من سلطة الإكليروس الغاشِمَة (في نظره)، وهنا وُلِدَت "التفاسير الخاطئة للبدلية العقابية".
مع الثورة البلشفية 1917 م. October Revolution، نزح بعض لاهوتيي روسيا والكتلة الشرقية إلى أمريكا ووجدوا هناك هذه "التفاسير الخاطئة للبدلية العقابية" التي تلغي معنى الكنيسة والأسرار والكهنوت، وتُظْهِر الله في صورة الغاضِب الذي يَصْعُب إرضاؤه، ولا يستريح إلا برؤية دم ابنه مسفوكًا على الصليب، وأن المشكلة الأساسية هي الصراع بين العدل والرحمة في الله، وأن الابن الكلمة تَجَسَّد لكي يَحِل مشكلة الله، وبعد الصليب لا يوجد احتياج إلا الإيمان فقط بدم المسيح، فلا حاجة للمعمودية إلا كونها رمز، ولا حاجة للإفخارستيا إلا بكونها مجرد ذِكْرَى، وكان رَدْ فِعْل هؤلاء اللاهوتيين أن بدأوا يركزون بقوة على الرؤية الشفائية والاستردادية لسر تدبير الخلاص، واعتبروا أن البُعْد القضائي في تفسير تدبير الخلاص هو انحراف غربي يجب تنقية لاهوت الشرق منه، وأسموا الفترة السابقة على تَدَخُّلهم اللاهوتي في الشرح (فترة السبي البابلي) وأنشأوا توليفة فِكْرية جديدة أسموها Neo Patristics Synthesis. (12)[10]
وكان من مؤسسي هذه الحركة جورج ڤلورفيسكي من روسيا الذي صار عميدًا لمعهد ڤلاديمير اللاهوتي، وكذلك من أعلام هذه الحركة چون مايندروف، وچون رومانيدس.[11] هذه الحركة الفكرية كانت تهدف إلى العودة إلى فِكْر الآباء الأولين، ولكن للأسف ما حدث عمليًا هو توليف أفكار جديدة، وإجابات جديدة للقضايا اللاهوتية، يكون محورها في الغالِب أن الله صالِح وهو لا يعاقِب، وبالتالي لا يوجد جهنم ولا جحيم بالمعنى الحرفي، ولا توجد عقوبة وقعت على آدم، ولا توجد وِراثة للخطية الجدية، ولا يكون موت المسيح بديلًا عن موت الإنسان بل هو مجرد حب فقط، ويكون تدبير الخلاص في نظرهم هو استعادة الصورة الإلهية في الإنسان فقط وتأليه الإنسان (بِفِكْر متطرف يوحي أننا صرنا آلهة بالحقيقة).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
فكان لا بُد من الرجوع بروح مُحَايِدَة للبحث في كِتَابات الآباء الأولين للكنيسة الجامعة قبل الانشقاق، بدون أفكار مُسَبَّقة، لمعرفة هل فعلًا ما يُعَلِّم به اللاهوتيون الجُدُد هو ما عَلَّم به الآباء الآولون؟ وأن كنيستنا القبطية قد دخلت هي أيضًا في سبي بابلي؟
لذلك وبكل أمانة عِلْمِيَّة، أردت أن أناقش هذه القضايا؛ ليكون بين يدي كل أب كاهن، وكل خادِم أمين، الحقيقة الإيمانية التي استلمناها من كنيستنا الأمينة، مُوَثَّقَة بنصوص كِتَابِيَّة، وآبائية، وليتورجية، وقوانين مجامع مسكونية ومحلية.
_____
[9] Orthodox Church History, https://lasvegasorthodox.com/orthodox-library/orthodox-church-history/. (June 2022)
[10] Sergey S. Horujy (2019) The Concept of Neopatristic Synthesis at a New Stage, Russian Studies in Philosophy, 57:1, 17-39, DOI: 10.1080/10611967.2019.1545972.
(12) إضافة من الموقع: الاسم بترجمة أخرى: "توليف آباء الكنيسة الجدد".
[11] https://en.wikipedia.org/wiki/History_of_Eastern_Orthodox_theology_in_the_20th_century.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-raphael/economy-of-salvation/christian-thought.html
تقصير الرابط:
tak.la/s53sscx