محتويات |
عاش القديس موسى حياته الجديدة كعربون لحياته مع الله في الملكوت، ولم يكن تفكيره في الموت سوى الرغبة الشديدة في أعماقه لترك الجسد ليكون بجملته مع المسيح، كان تفكيره في خطاياه يردعه عن إتيان الشر، بينما تفكيره في الملكوت فهو لأجل تحفيزه أكثر على الجهاد. في ذلك يقول:
"اعد نفسك للقاء الرب فتعمل حسب مشيئته، افحص نفسك ههنا واعرف ماذا يعوزك فتنجو من الشدة في ساعة الموت، ويبصر إخوتك أعمالك فتأخذهم الغيرة الصالحة".
"إذا قمت كل يوم بالغداة، تذكر أنك سوف تعطي الله جوابًا عن سائر أعمالك فلن تخطئ البتة، بل يسكن خوف الله فيك".
+ "فكر في نار جهنم لكيما تمقت أعمالها، اذكر ملكوت السموات لتتحرك فيك شهوتها". وقال أيضًا:
+ "ذكر الدينونة يولد في الفكر تقوى الله. وقلة خوف الله تضل العقل".
+ "لنقتن لأنفسنا الشوق إلى الله فإن الاشتياق إلى الله إليه يحفظنا من الزنى.."
بينما كان القديس موسى في زيارة القديس مقاريوس الكبير مع الآباء: بامو وأوغريس وكرونيوس وثلاثة شيوخ آخرين، قال القديس مكاريوس: إن واحدًا منكم سينال اكليل الشهادة، ويهرق دمه في هذه البرية. وهنا بادر القديس على الفور بقوله، لعله أنا يا أبي لأنه مكتوب أن "الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون"، ثم صلى القديس عليهم وأطلقهم بسلام(1).
بل أن القديس نفسه تنبأ محذرا مرارًا من التهاون قائلًا: ”إن حفظنا وصايا آبائنا أقول لكم باسم الرب إنّ البربر لن يأتوا إلينا هنا، وإن كنا لا نحفظ وصايا الله فإنّ هذا المكان سوف يخرب“.
وبعد ذلك بقليل وفي سنة 407 م. وهو موعد الغارة الأولى على برية شيهيت، كان هو في قلايته ومعه بعض الإخوة، فقال: "ها قد جاء البربر اليوم إلى الإسقيط فقوموا واهربوا، فقالوا له وأنت يا أبانا ألا تهرب؟ فأجابهم قائلًا: منذ زمان وأنا انتظر هذا اليوم حتى يكمل قول المخلص، فأجابوه على الفور: "ونحن أيضًا لن نهرب بل نموت معك" فقال لهم هذا شأنكم أنتم، وليهتم كل منكم بنفسه في الموضع الذي يسكن فيه. ثم هتف فيهم: هوذا البربر يقتربون من الباب!
وهجم البربر بالفعل عليهم وكانوا سبعة من الرهبان فقتلوهم ولكن واحدًا منهم كان خائفًا فهرب واختفى تحت ضفائر الخوص، فأبصر ملائكة نازلون من السماء وبأيديهم أكاليل يضعونها على رؤوس الشهداء، ثم رأى ملاك الرب وهو يحمل إكليلًا بيده وحينئذ خرج وسلم نفسه للبربر الذين قتلوه هو أيضًا، فنال الإكليل من الملاك ولحق بكوكبة الشهداء.
كان المغيرون على الأديرة يدعون من قبل العرب "برابرة" ولكنهم وردوا في تاريخ الأبوفثجماتا Apophthegmata Patrum Aegyptiorum "مازيق" ويرى بلاديوس أنهم كانوا يقطنون جنوب غرب جبل نتريا، كما يشير كاسيان إلى أنهم يحبون الحياة في الصحراء، يعيشون حياة خشنة محبون لسفك الدماء، وقد تقدموا للجانب الغربي من النهر وأسروا كل من وجدوه، ويرد في بعض المصادر أنهم سكنوا في المنطقة الجنوبية الغربية بشكل عام. وقد خربوا ليبيا من جانبها الشرقي وجزءا كبيرا من مصر في القرن الخامس. ويبدو أيضا أنهم سكنوا في منطقتي الواحات الخارجة والداخلة. ومن المحتمل أن يكون المازيق هم الشعب المدعو "ماستيكوس" الذين أرسلت ضدهم حملة في أيام الإمبراطور مور وبعد ذلك ببضعة قرون نجد أن البرابرة ’يدعوا عربًا حيث كانوا يرعبون الحجاج المتجهين إلى وادي هبيب (الإسقيط) وكانوا ينزلون بانتظام من مصر العليا إلى الدلتا بعد وضع جمالهم وجيادهم خارجًا للمرعَى. هؤلاء المغيرون ربما كان أحفاد مازيكوس القرن 5م.
ومن ناحية أخرى، كانوا يقطنون في واحة سيوة، وأن مغيري القرن السادس على الإسقيط قد جاءوا على أية حال من الغرب أكثر من الجنوب، لذلك يمكننا أن نفترض أن هؤلاء المغيرين كانوا على أية حال الرعاة الليبيين الذين كانوا يزورون الإسقيط سنويًا وربما قد ازدروا بالرهبان.
وما يقال عن السنوسيين في القرن العشرين يقال عن البرابرة في الفترة التي نتحدّث عنها، وقد حمل سكان هذه المناطق القاصية في سائر الأوقات نفس السمات، فبمجرد أن تنضب مواردهم الذاتية أو يحدث ارتباك أو ضعف في الحكم على نحو يتيح لهم الفرصة، حتى يُسْرِعُون بالنزول إلى مصر مستخدمين الواحات المتعددة كنقاط استراحة عبر الصحراء. وهكذا كان الحال في زمن استشهاد القديس موسى، وهكذا حدث مؤخرًا جدًا في أيام محمد على، عندما سجل رحالة إنجليزي أن "بدو الغرب" كانوا مغامرين غير عاديين، ففي إحدى المرات سرقوا ثلثمائة جمل من وأدى النطرون. وهكذا أيضًا في الأيام الأخيرة، دعا الارتباك الناجم عن الحرب الأوروبية السنوسيين إلى الهجوم على مصر سنة 1915 م عن طريق الساحل وعن طريق وأدى النطرون في الشمال وواحة الداخلة والخارجة في الجنوب.
التنبؤ بثلاث غارات: اعتادوا أن يقولوا عن شيخ كبير في الإسقيط أنه كلما كان الإخوة يبنون قلالي في الإسقيط اعتاد أن يخرج. ويضع الأساس. ومع ذلك كان ذات مرة حزينًا جدًا ومتأثرًا عندما خرج للبناء وقال لهم "يا أولادي هذا المكان سيخرب لأنني رأيت نارًا مشتعلة في الإسقيط، ورأيت الإخوة يضربونها بأغصان النخيل حتى انطفأت، لكنها عادت فاندلعت ثانية، والإخوة إطفاؤها. لكنها اندلعت لثالث مرة وملأت كل الإسقيط ولم يستطع أحد إطفاؤها". هكذا تخرب الإسقيط ثلاث مرات خلال النصف الأول من القرن الخامس الميلادي.
كما تنبأ القديس مقاريوس بغارتين: أخبر القديس بغارتين في الإسقيط بالكلمات التالية "وسيكون كذلك حتى الخراب الأول لشيهيت عقب أربعين سنة، لأنهم سيكونون قد أكملوا أوجاعهم. ولكن الملك المسيح سيشفق عليهم ثانية وسيدعهم يعودون وسيعطيهم هذه الشرائع والوصايا. ويطيعون ويتممون نصف الوصايا وسيظلون حتى الخراب الثاني لشيهيت بسبب عظم ترفهم.. ويشفق عليهم الملك المسيح ويدعهم يعودون". ونعلم أن الغارة الأولى على الإسقيط قد حدثت في العقد الأول من القرن الخامس الميلادي، والثانية عقب وصول أرسانيوس بأربعين سنة، والثالثة بعدها بعشر سنوات. ويرد عن كل من القديسين مقاريوس والقديس موسى الأسود نبوءتان عن هذه الغارة،: "لقد اعتاد آبا مقاريوس أن يقول للإخوة بشأن خراب الإسقيط، عندما ترون الأشجار فأعلموا أنه على الأبواب، ولكن عندما ترون الأطفال فخذوا ملوطكم (عباءة من الجلد) وارحلوا. كذلك تنبأ موسى اللص الشهيد الأول في الإسقيط بأن تهاون الرهبان سيجازى بغزو بربري، فقد اعتاد أنبا موسى أن يقول في الإسقيط: إذا حفظنا وصايا آبائنا، فإنني أؤكد لكم في الله أن البربر لن يأتوا هنا، ولكن إن لم نحفظها فإن هذا الموضع سيخرب.
الغارة الأولى سنة 407 م.: يرى البعض أن الأنبا موسى الأسود استشهد ما بين سنة 391/ 392 وبين سنة 400 م. وبذلك تكون الغارة الأولى سنة 399 م. ولكن هذا التاريخ غير مقبول بسبب أن بلاديوس الذي عاش في القلالي حتى سنة 399م لم يلمح إلى ذلك. وكاسيان الذي كان في الإسقيط في سنة 399م لم يذكر ذلك أبدًا. كما يلمح القديس اغسطينوس إلى ذلك قائلًا في نوفمبر سنة 409 "قتل الأخوة على يد البربر". إذا فقد حدثت الغارة في عهد أركاديوس الإمبراطور (أي ليس متأخرًا عن أول مايو سنة 408م).
خرائب الكنائس الأربع وتشتت الرهبان: وقد تعرض الإسقيط كله للغارة باستثناء أطرافه المترامية، وتفرقت جماعات الإسقيط الأربع لبعض الوقت وتخربت كنائسها وقلاليها. وبهذا كانت الخسائر المادية أقل خطورة، فإن كثيرون من أشهر الرهبان فقدوا كل أمل في العودة إلى الإسقيط، فاستقروا في أماكن أخرى، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ونسمع عن ثيؤدور الفرمي أنه "عندما تخرب الإسقيط جاء ليسكن في الفرما" كما سكن الأنبا بيمين والأنبا آنوب مع أخوتهم- والذين كانوا في الإسقيط- اعتكفوا في مكان يدعى ترنوثيس (الطرانة الآن).
عودة الأوضاع في الإسقيط ورجوع الرهبان: رغم أن الخراب كان شاملًا في الإسقيط، إلا أن نبوة مكاريوس تتحدث عن عودة الآباء، وربما بقى آخرون في مخابئهم في الصحراء نفسها. ولكن الإسقيط عندما تعرض لغارة أخرى سنة 434 م كانت الحياة الطبيعية قد عادت إليه.
في ذلك اليوم (يوم 30 يونيو من سنة 407م) أحدثوا دمارًا هائلًا، فقد هدموا الكنائس الأربعة وقتلوا وسبوا الكثيرين ونهبوا كل ما يمكن نهبه، وترك الرهبان الأديرة على أثر ذلك، وكوّن الآباء تجمعات رهبانية جديدة في القلزم (السويس) والتي عاش فيها القديس يحنس القصير، وأنصنا (ملوي) والتي أقام فيها الأنبا بيشوي، وكذلك منف (بجوار الأهرامات) ونصيبين بالعراق، وصيدا. ويلاحظ أن القديس أرسانيوس لم يتأثر بهذه الغارة لأن مغارته كانت تبعد أكثر من خمسين كيلومترًا عن مركز شيهيت. وبعد أن تكررت الغارة سنة 434 م. نشأت فكرة بناء الحصون والقلاع في الأديرة حيث يحتمي فيها الرهبان مع مؤنهم وكنيسة للصلاة.
وهكذا تمت نبوءة القديس مكاريوس، ونال القديس مكانة جعلته بين الصفوف الأولى، وترك سبعين من تلاميذه الذين أثروا الحياة والفكر الرهباني من بعده ولعشرات السنين. وكان استشهاده في اليوم الرابع العشرون من شهر بؤونة(3) عن عمر يناهز الثمانين عامًا قضى منها خمسة وعشرون عامًا قبل رهبنته.
وقد عاش مستعدّا لهذا اليوم، وكأنه يحدث نفسه حين يقول: ”أيها الحبيب، ما دام هناك وقت للرجوع فارجع وتقدّم إلى المسيح بتوبةٍ خالصة، أسرع قبل أن يُغلَق الباب فتبكي بكاءً عظيمًا حتى تحرق دموعك خدّيك بلا منفعة. أسرع واضبط الباب قبل أن يُغلَق، أسرع بالرجوع فإنّ المسيح إلهنا يهوى خلاص جميع الناس وإتيانهم إلى معرفة الحق، إنه ينتظرك وسيقبلك، له المجد إلى الأبد آمين“.
بعدما غادر البربر الدير أخذ الآباء جسد القديس وأجساد من معه من الشهداء، وكفنوه ووضعوه في كنيسة الدير، وتذكر المخطوطة التي تحوى سيرته، أنه بعدما أصبح القديس موسى قسًا بنَى كنيسة جديدة دُعِيَت لاحقًا باسمه، كما أن راهبًا روحيًا أقام بها 40 سنة، ويرى البعض أن مكان الكنيسة هو المكان المعروف الآن بدير الأنبا موسى والذي ظل قائمًا حتى القرن السادس عشر، ومكانه الآن الخرائب الموجودة شرق دير البرموس الحالي، والذي قامت بعثتان فرنسية وهولندية بالتنقيب فيه واكتشاف الدير ومرافقه، حيث استمر العمل لمدة سنوات (مع نهاية صيف كل عام) بدءا من عام 1996 م.
وكان كل من جسد القديس موسى وجسد معلمه القديس إيسيذورس في الدير المذكور، فلما تهدم نقلا إلى دير البرموس الحالي، حيث وضعا وما زالا في مقصورة واحدة. وما تزال تجري من هذين الجسدين الكثير من العجائب.
بركة صلاتهما فلتكن معنا آمين.
_____
(1) يعترض البعض على إطلاق لقب شهيد عليه، باعتبار أن البربر الذين قتلوه، لم يقتلوه لأجل إيمانه وإنما بغرض السرقة، ولكن القديس موسى كان له نفسه حكم الموت، وكان يعرف أن البربر سيقتلونه إن وجدوه في الدير، وكان بإمكانه أن يهرب مثلما هرب الكثيرون، مثله مثل الذين يقتلون من المسيحيين في مصر على يد الجماعات الإسلامية المتشددة، فإنهم يحسبون شهداء في ضمير الكنيسة بسبب أنهم ماتوا لأنهم مسيحيون.. ويكفينا أن نعرف أن القديس مكاريوس الكبير هو الذي تنبأ له بإكليل الشهادة.
(2) Evelin white, book 2.
(3) تعيد له الكنيسة الكاثوليكية واليونانية والحبشية في الثامن والعشرين من شهر أغسطس.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-macarious/st-moses/martyrdom.html
تقصير الرابط:
tak.la/3apzwxc