إن جميع أتعاب الإنسان وجهاداته جميعًا لا توازي أو تساوي عطية الخلاص وهبة الملكوت، حتى ولو بلغت إلى التعذيب بل وإلى الموت، كما هو الحال في الاستشهاد "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس 2: 8 & 9) فقد وهب الله الملكوت للجميع منذ الأزل "تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ" (متي 25: 34) وما على الإنسان بالتالي سوى أن يجاهد حتى لا يفقد هذا النصيب، تمامًا مثلما يهب أب لكل من أولاده وبناته نصيبًا من الميراث يضعه لهم في البنك مثلًا، وما عليهم إلاّ المحافظة على تلك العطية، حتى إذا ما تخرجوا كان لهم ما يبدؤون به حياتهم العملية (الجديدة)، غير أن مسلك أولئك الوارثين قد يختلف من واحد إلى آخر، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فبينما تمتد يد مسرفة إلى ذلك المخزون المعد فتستهلكه بسبب الانحراف أو عدم الشعور بالمسئولية، هناك منهم في المقابل من يقاوم كل إغراء وكل رغبة في تبديد هذا النصيب، ولعل تعبير السيد المسيح في حديثه عن يوحنا المعمدان "مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ، وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ" (متى 11: 12) يقصد به أمران:
أولهما: أن مقاومة كل إغراء وحروب لتبديد هذا النصيب، تعد في الواقع "اغتصابًا" بالمنطق المعكوس، وثانيهما: أن الخاطئ الترابي يأخذ الملكوت والمجد والسكني مع الله، على ذلك يعلق القديس جيروم فيقول [أليس بالحق يحسب اغتصابًا عندما يرغب الجسد أن يصير إلهًا ويصعد إلى الموضع الذي سقطت منه الملائكة ويدين ملائكة؟](1)
وعن إمكانية فقدان الإنسان لأبديته يقول موسى النبي عندما وقف شفيعًا لدى الله في الشعب "وَالآنَ إِنْ غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُمْ، وَإِلاَّ فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي كَتَبْتَ. فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مَنْ أَخْطَأَ إِلَيَّ أَمْحُوهُ مِنْ كِتَابِي" (خروج 32: 32 & 33) ويتضح من هنا أن الأسماء مكتوبة منذ البدء في الملكوت –سواء موسى أم الشعب- ولكنه من الممكن أن تُمحي، كذلك يشير الرب في العهد الجديد إلى ذلك، عندما حكم على اليهود "إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ" (متى 21: 43) و"وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا بَنُو الْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ" (متى 8: 11 & 12) ويقول القديس يوحنا الرائي الحبيب "هَا أَنَا آتِي سَرِيعًا. تَمَسَّكْ بِمَا عِنْدَكَ لِئَلاَّ يَأْخُذَ أَحَدٌ إِكْلِيلَكَ" (رؤيا 3: 11).
_____
(1) المسيحي والعبور إلى السماء/ القمص تادرس يعقوب / ص 207.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-macarious/eternal-life/given.html
تقصير الرابط:
tak.la/sq2jchb