كما أن أعظم مكافأة للبار هي السكني في معيَة الله، هكذا وفي المقابل يُعَد الأقصاء عن هذه السكني، أكبر عقوبة يمكن أن تلحق بالخاطئ. إذ ليس هناك –كما نعلم- مُعذبين ولا آلات تعذيب، وكما أن أي موضع يحل فيه الله يتحول إلى نور وبهجة وفرح غامر، هكذا الموضع الذي يخلو من الله بالتالي لا يوجد فيه ما يجعله محبوبًا أو مرغوبًا بالبقاء فيه.
ولنتخيل الآن طفلًا يحدث شغبًا في مسكنه، ولم تزل أمه تنهُرَهُ فلا يسمع لها، وتحذره فلا يأبه لتحذيرها بل يستمر في شغبه ويتمادَى، فيحطم بعض الأشياء ثم يبدأ في إيذاء أخوته، وهنا تهدده بالطرد من المسكن إذا ما واصل عناده، فلا يلتفت إلى وعيدها في الأذى والإتلاف، وإذا بها تغضب وتمسكه من يده ثم تفتح الباب لتدفع بالطفل إلى الخارج ثم تغلق الباب. أمّا هو فما أن يجد نفسه خارج بيته حتى يبدأ في الشعور بالوحدة الموحشة، ذلك بالطبع من دون أن يكون هناك بالخارج من يهينه أو يضربه، ولكنه الشعور بالضياع والرفض، لا سيما وإن كان هناك بالداخل أصوات مرح وصُحبة وولائم، فيحزن ويتَخذ أول درجة سلم ليجلس فوقها حاسر الوجه واضعًا إياه بين كلتا يديه!!
ولكن تُرَى، ما هي النار التي تحدث عنها السيد المسيح وأشار إليها مِرارًا؟؟
أُشير في أكثر من موضع في العهد الجديد إلى جهنم والنار الأبدية، باعتبارها المقر النهائي للأشرار والعقوبة المناسبة لهم(1)، فالنار مثَلث الفناء الشامل مثلما هو الحال بالنسبة لسدوم وعمورة (تك 19) وهي تضطرم " كَالتَّنُّورِ" (ملاخي 4: 1) "و تُؤْكَلُ الأَرْضُ كُلُّهَا" (صفنيا 1: 18) كما نُظر إلى النار باعتبارها العقاب الحاسم سواء للأشخاص أو المقتنيات، ولكنه وفيما يتعلق بالدينونة فقد نُظر إليها على أنها القوة التي تختبر أعمال الناس في يوم الحكم، إلى هذا يُشير معلمنا بولس الرسول قائلًا: "وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدُ يَبْنِي عَلَى هذَا الأَسَاسِ: ذَهَبًا، فِضَّةً، حِجَارَةً كَرِيمَةً، خَشَبًا، عُشْبًا، قَشًّا، فَعَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَصِيرُ ظَاهِرًا لأَنَّ الْيَوْمَ سَيُبَيِّنُهُ. لأَنَّهُ بِنَارٍ يُسْتَعْلَنُ، وَسَتَمْتَحِنُ النَّارُ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ. إِنْ بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَةً" (1 كو 3: 12 – 14).
وهكذا فهذه النار أيضًا هي التي تحرق الزوان المشار إليه في مثل الزرع الجيد والزوان (متى 13) وكذلك الأغصان التي تُفصل عن الكرمة (يوحنا 15: 6).
وأما الصورة التي رسمها الرب يسوع لهذه النهاية فهي في الواقع مستقاة من البيئة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولنعد مرة أخرى إلى التقليدين الكتابي والرباني ثم التلمود، فقد أستخدم السيد المسيح في تعليمه قصصًا وأسماءً من البيئة اليهودية نفسها ليسهل على السامعين استيعاب دروسه، فحوادث القتل والنهب على طريق أورشليم / أريحا كانت حقيقية (ذكرها في مثل السامري) والفريسي والعشار والغني ولعازر، وقاضي الظلم ووكيل الظلم، صديق نصف الليل، والولائم وغيرها، جميعها كانت صورًا مألوفة في اليهودية، وأما بالنسبة لجهنم، فقد كانت عبارة عن وادي سحيق، أشير إليه أولًا في (لاويين 18: 12) حيث الطقوس المفعمة بالنجاسة لارتباطه بعبادة مولك (أو كموش) راجع أيضًا (2 مل 16: 3، 21:6، أرميا 7: 31، 19: 5 & 6) وأما شهرة هذا المكان فقد ارتبطت بآحاز الملك والذي مارس فيه عبادة الإله مولك والذي كانت تقدم له الأطفال كذبائح في النار (2 ملوك 28: 3)(2). وقد قام يوشيا الملك الصالح بوقف تلك العبادة وحوَلَ المكان إلى موضع تلقي فيه النفايات حيث تُحرق، وصار وادي هنوم رمزًا للنجاسة والدمار.
وفيه أيضًا ألقيت الأصنام التي صنعها ملوك إسرائيل ويهوذا الأشرار، وكان الوادي يقع جنوب أورشليم، وبما أن الهيكل مقام في الجهة الشرقية للوادي فإن بقايا الذبائح وتلك الأجزاء التي لا تصلح لأي نوع من التقدمات أو الأكل، كانت تلقي فيه، ولنا أن نتخيل في موسم مثل الفصح، كم كان يلقي فيه، فقد كانت تقدم في مثل هذا الأسبوع ما يقرب من 560 ألف ذبيحة!! وكل ما لا يصلح لأن يقدم في الشرق (لله) كان يلقي في الغرب (للهلاك) ولما كانت أكداسًا هائلة مثل هذه تلقي هناك فقد كان يتولد منها كميات هائلة من الدود ويقال أن بعض أنواع ذلك الدود كان من الصعب القضاء عليها، وعندما تشعل النار في تلك البقايا كان يصدر عنها دخانًا أسودًا كثيفًا، فكان المنظر بكامله يثير الرعب في من يشاهدهُ، فهوذا نار مستعرة لا تطفأ (إذ لا يتوقف إلقاء النفايات فيها) ودود لا يموت. إلى ذلك أشار أيضًا كل من يهوديت إذ قالت عن الأشرار أن الله يجعل لحومهم للنار والدود (يهوديت 16: 21) وكذلك يشوع بن سيراخ والذي يقول عن المنافقين أنهم يسلمون للنار الباطنية والدود (سيراخ 7: 19). وأما عن مصطلح "جهنم" ذاته فهو يأتي من كلمتين الأول "جه أو جوه" وتعني في العبرية "وادي" والأخرى "هنوم" وهذا هو أسم الوادي ذاته، وهكذا تعني الكلمة "وادي هنوم" أو "جه هنوم" جهنم.
إذن فهذه الصورة المألوفة لدى سامعيه، أراد المخلص من خلالها أن يُقرب لأذهانهم فكرة العقوبة والرفض، ولكن ومما لا شك فيه أن النار الأبدية ليست نارًا ذي طبيعة مادية بالضرورة، وإلا لزم الأمر أن تكون الأجساد في الحياة الأبدية أجسادًا مادية لحمية، غير أنها ليست كذلك، وما تلك النار سوى الآلام النفسية والحسرة والشعور بالرفض(3).
_____
(1) يجب إن نفهم من مثل الغني ولعازر (لوقا 16) صورة الحياة هنا أكثر مما نرى فيها صورة الحياة هناك، فهي وبينما تمثل الفارق هنا، لا تمثل النتيجة إلّا من خلال عكس الوضع وعدم قدرة أحد الفريقين على التعامل مع الآخر.
(2) كانت عبادة مولك من الممارسات البشعة، فقد كان لذلك الإله تمثالًا من النحاس الأحمر المجوف من الداخل ويتخذ شكل آدمي جالسًا وله رأس حيوان بينما يداه مبسوطتان إلى قدام، ثم يحمي بالنار حتى يتوهج وعندئذ يوضع الطفل المقدم كذبيحة على ذراعيه فيحترق وسط صراخ ورقص هستيري من الجماعة حيث يختفي فيه صوت صراخ الضحية.
(3) كان الجحيم في الفكر اليهودي يشير إلى مقر كل من الأحياء والأموات، ولكن الفكرة تطورت بشيء من الوضوح بعد ذلك حيث أصبح الجحيم يشير إلى حالة البعد عن الله والآلام التي يسببها، ثم صوَر الأدب الرؤيوي اليهودي حالة الأشرار مطروحين في الهاوية مع الملائكة الأردياء، بينما يقيم الأبرار مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في فردوس النعيم يشاركونهم وليمة في انتظار يوم القيامة، إذًا فقد أدرك اليهود أن هناك بدء سعادة للأبرار عقب الموت وبدء عذاب يلحق بالأشرار كذلك، وقد ظهر هذا الأدب الرؤيوي في (كتاب أخنوخ). راجع كوستي / أمثال الملكوت / ص 91، 92.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-macarious/eternal-life/fire.html
تقصير الرابط:
tak.la/h59pqqw