كما سلك السيد المسيح في اتضاع فائق وإخلاء ذات؛ هكذا علّم عن الاتضاع في خدمته، إلى أن أتى إلى غسل الأرجل والآلام والصليب حيث رأينا الاتضاع يتألّق فوق قمة الجلجثة. ولهذا نستمع إلى تعاليم السيد المسيح باعتباره قد عمل وعلّم "جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به" (أع1: 1).
دُعي السيد المسيح إلى بيت أحد رؤساء الفريسيين في يوم السبت ليأكل. ولاحظ كيف اختار المدعوون المتكآت الأولى، وتسابقوا متنافسين عليها.
لاحظ كيف ينهزم الإنسان داخليًا، حينما يسعى للتفوق على غيره، متجاهلًا مشاعر الآخرين، وبلا أي نفع يجنيه سوى محبته للظهور وإثبات الوجود الذي بلا ثمرة.
فقال للمدعوين مثلًا: "متى دعيت من أحد إلى عرس فلا تتكئ في المتكأ الأول، لعلَّ أكرم منك يكون قد دُعي منه. فيأتي الذي دعاك وإياه ويقول لك أعطِ مكانًا لهذا. فحينئذٍ تبتدئ بخجل تأخذ الموضع الأخير. بل متى دعيت فاذهب واتكئ في الموضع الأخير، حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك: يا صديق ارتفع إلى فوق. حينئذ يكون لك مجد أمام المتكئين معك. لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومَن يضع نفسه يرتفع" (لو14: 8-11).
بالرغم من بساطة المثل، إلا أنه ممتلئ بالحكمة، ويتميز بالتصوير الدقيق للمعنى الذي قصده السيد المسيح.
الإنسان المتضع يجد سهولة كبيرة في أن يجلس في المتكأ الأخير، أي في الموضع الأخير. بل يعتبر أن هذا هو مكانه الطبيعي، وأنه لا يستحق مكانًا أفضل منه. كما أنه يفرح بتقديم غيره على نفسه "مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة" (رو12: 10). حاسبين البعض أفضل من أنفسهم.
المثل الذي أعطاه السيد المسيح، أوضح بأجلى صورة كيف أن محب الكرامة يعرّض نفسه لمواقف يسئ بها إلى نفسه وكرامته. وكيف أن الكرامة الحقيقية هي في الهروب من الكرامة.
محب الكرامة يتعب دائمًا إذا لم يحصل على رغباته، ويتعب من إهمال الآخرين له.
محب الكرامة يتعب إذا لم يمدحه أحد، ويتعب إذا مُدح غيره.
محب الكرامة يستجدي المديح من الناس، فإذا لم يمدحه أحد يبدأ هو في مديح نفسه، وفي الحديث عما يراه في أعماله من أسباب العظمة ودواعي الشكر والمديح. مع أن الكتاب يقول: "ليمدحك الغريب لا فمك، الأجنبي لا شفتاك" (أم27: 2).
كل هذه المعاني نستطيع أن نتعلمها من المثل الذي قاله السيد المسيح. ونتعلم أيضًا أن من يهرب من الكرامة، تجري خلفه وترشد جميع الناس إليه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فالناس بطبيعتهم يميلون إلى الإنسان المتضع، ويرتاحون للتعامل معه. لأنهم يشعرون بتحرره من الأنانية، والانحصار حول الذات، وأنه يقدّم الآخرين على نفسه مقدّرًا إياهم، وشاعرًا بأنهم أفضل منه.
المتضع يحبه الناس، والمتعالي يثير فيهم مشاعر الرفض وعدم الارتياح.
المتضع يشبه منحدرًا متسعًا تجتمع إليه المياه وتملأه. والمتعالي يشبه قمة أو نتوءًا عاليًا لا تستقر فوقه المياه، بل تتركه سريعًا منحدرة إلى أسفل. هكذا تملأ النعمة الإلهية قلوب المتضعين.
هناك من يحب الظهور فيظهر كبرياءه، وهناك من يختفي فيتألق اتضاعه ويجتذب إليه الجميع.
محبة المتكأ الأخير تحتاج إلى اقتناع داخلي، وتحتاج إلى تدريب، وتحتاج إلى يقظة روحية وعين ساهرة متطلعة نحو إشراق الملكوت على النفس، حيث ترى في المسيح فرحها وسعادتها التي تغنيها عن كل مجد زائل وخادع.
تكلّم السيد المسيح موجهًا تعليمه إلى الفريسي الذي دعاه: "إذا صنعت غذاءً أو عشاءً، فلا تدعُ أصدقاءك، ولا إخوتك، ولا أقربائك، ولا الجيران الأغنياء. لئلا يدعوك هم أيضًا فتكون لك مكافأة. بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين، الجدع، العرج، العمي. فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافوك. لأنك تُكافَى في قيامة الأبرار" (لو14: 12-14).
تصوّر رئيس الفريسيين الذي استضاف السيد المسيح ليأكل في منزله، أن السيد المسيح سوف يفرح بكبار القوم والأغنياء والشخصيات المرموقة التي توافدت على البيت لحضور الوليمة.
ولكن السيد المسيح في تواضعه كان يميل بالأكثر إلى مجالسة الفقراء والبسطاء، والمساكين.
لم يسترح الرب لتنافس المدعوين على المتكآت الأولى ومشاعر العظمة التي ملأت قلوبهم. كما لم يكن شخصيًا تهمه الأمجاد العالمية ولا مجيء هؤلاء الأغنياء لمشاهدته، بل كان يهتم بغنى النفس في المحبة والتواضع و"زينة الروح الوديع الهادئ" (1بط3: 4).
كل إنسان مثل ذلك الرجل يصنع وليمة، يفتخر بمن دعاهم من الأغنياء، ويبذل قصارى جهده لتظهر وليمته متفوقة على غيره من الأقران. وبهذا تنتشر مظاهر البذخ والترف في الولائم وفي مناسبات الأفراح وغيرها. ويتسابق الناس في دعوة الأغنياء الذين يتبادلون معهم إقامة مثل هذه الحفلات والولائم. وذلك في الوقت الذي يعاني فيه الفقراء من العوز والجوع.
ولا يقيم مثل هذا الشخص مائدة بهدف إرضاء الله، بل هدفه الوحيد هو إرضاء الغرور، وإرضاء البشر، وتبادل المتعة والمنفعة.
لابد لكل عمل يعمله الإنسان أن يكون بدافع الخير والمحبة، ولخير المجتمع الذي يعيش فيه ولبناء ملكوت الله. ليتمجد الله في كل شيء.
وينبغي أن يجعل الإنسان له هدفًا مقدسًا لكل عمل يقوم به.
المتضع يستطيع أن يسلك في المحبة بلا عائق. فالكبرياء تصنع حجابًا على عيني الإنسان فلا يبصر حلاوة المحبة وجمالها الفائق الاتضاع.
كثير من الناس يشفقون على حال الفقراء، ويتمنون أن يخدموهم، ولكن خدمة المساكين تحتاج إلى من ينزل إلى مستواهم، ويشاركهم ما هم فيه من معاناة وعوز.
وقد قدّم السيد المسيح نصيحة ثمينة للرجل الذي دعاه، ولكل من سمعوا تعليمه الممتلئ بالحكمة الإلهية "إذا صنعت ضيافة فادع المساكين، الجدع، العرج، العمي. فيكون لك الطوبى" (لو14: 13، 14).
ألم يتنازل السيد الرب نفسه حينما تجسد إلى ذُلنا وتواضعنا، ليرفعنا إليه، لنتمتع بمجده في ملكوته السماوي، ولنجلس معه على مائدته في ملكوته.
هل نحن كنا أحسن حالًا من هؤلاء المساكين الجدع والعرج والعُمي، حينما كنا مستعبدين لإبليس وللموت قبل أن يخلصنا السيد المسيح من خطايانا، ويصالحنا مع الله أبيه؟!
إن ما طالب به السيد المسيح في مسألة الوليمة هو شيء يسير، وصورة مصغّرة جدًا لما فعله هو معنا حينما دعانا إلى التمتع بمجده.
أليست محبته هي التي جعلته يحتمل الذل والهوان، في اتضاع كبير، ليحررنا من مذلتنا وعبوديتنا المُرة، وليفتح أعين قلوبنا بعد العمي، وليحرك طاقات طبيعتنا بعد العجز الكامل والبؤس والضياع؟!
حقًا إن المحبة تتشح بالاتضاع، والاتضاع يرافق المحبة، فاتحًا الطريق أمامها حتى تكمل عملها بفرح ومسرة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/meekness.html
تقصير الرابط:
tak.la/g3v2ztq