بعدما أكدّ السيد المسيح أهمية الالتزام بوصية المحبة ليكون القربان مقبولًا أمام الله، قال: "كن مراضيًا لخصمك سريعًا ما دمت معه في الطريق. لئلا يسلمك الخصم إلى القاضي، ويسلمك القاضي إلى الشرطي فتلقى في السجن. الحق أقول لك لا تخرج من هناك حتى تُوفي الفلس الأخير" (مت5: 25، 26).
من الممكن أن تفسرّ عبارة "كن مراضيًا لخصمك" على أساس أن الإنسان يجب أن يذهب ويصطلح مع أخيه إن تذكر أن لأخيه شيئًا عليه، لأن قربانه وعلاقته مع الله بصفة عامة لا يمكن أن تكون مقبولة إلا إذا أصلح ما أخطأ به أولًا مثلما فعل زكا الذي كان رئيسًا للعشارين، وحينما دخل السيد المسيح بيته وقلبه وحياته، وقف وقال: "ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحدٍ أرد أربعة أضعاف" (لو19: 8). وهنا قال السيد المسيح: "اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضًا ابن إبراهيم" (لو19: 9). أي أن علاقة زكا بالسيد المسيح قد ارتبطت بإصلاحه لما أخطأ به في حق الآخرين ورد ما لهم عنده في صورة أربعة أضعاف ما ظلمهم فيه من قبل.
ولكن يمكننا أن نفسّر عبارة "كن مراضيًا لخصمك"بصورة أوسع من مفهوم أن الخصم هو الأخ الذي نخطئ في حقه، إلى مفهوم أن الخصم هو ضمير الإنسان المنقاد بروح الله أي الضمير الذي يقوم الروح القدس بتوجيهه في الاتجاه السليم.
فالضمير يختصم الإنسان حينما يخطئ، ويشعر أن قلبه يضربه، وأفكاره تخاصمه، بمعنى أن ضميره يوبخه حينما يخطئ بأية صورة: سواء في حق الله أو في حق القريب.
عن هذا المعنى قال القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى: "يا أولادي لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق. وبهذا نعرف أننا من الحق ونسكّن قلوبنا قدامه. لأنه إن لامتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء" (1يو3: 18، 19).
فالقديس يوحنا يقصد أننا إن لم ننفذ وصايا المحبة مثل الرحمة بإخوة الرب المحتاجين أو أي جانب من جوانب المحبة لله والقريب فإن قلوبنا سوف تلومنا. ولا نستطيع أن نشعر بسلام قلبي أمام الله. وحينما تلومنا قلوبنا أي ضمائرنا فإن الله يعلم ذلك وهو الفاحص القلوب والكلى ولا يختفي عنه شيء. وسوف يحاسب الله الإنسان عن كل عناد مع ضميره أو مع صوت الروح القدس في داخله إن كان ضميره ليس قادرًا أن يشعر وأن يفهم الحق أو الصواب.
وقد أوضح القديس بولس هذه الحقيقة بقوله: "الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم شاهدًا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة. في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح" (رو2: 15، 16).
والإنسان حينما لا يلومه قلبه -إذ يسلك بإرشاد الروح القدس- تصير له دالة أمام الله. فيستجيب الله لطلباته وتُقبل قرابينه. كقول المرنم: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك. ليكن رفع يديّ كذبيحة مسائية" (مز 141: 2).
وقد أكد القديس يوحنا الرسول أهمية أن يشعر الإنسان بسلام قلبه إزاء تصرفاته في ضوء مشورة الروح القدس الذي ينقي قلبه وضميره من الشوائب والتأثيرات الخارجية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وفي هذه الحالة تصير صلاته مقبولة أمام الله فقال: "أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه لأننا نحفظ وصاياه ونعمل الأعمال المرضية أمامه. وهذه هي وصيته أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح ونحب بعضنا بعضًا كما أعطانا وصية. ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا" (1يو3: 21-24).
إن الروح القدس يقودنا إلى الإيمان بالمسيح بقبول محبة الله المعلنة في الصليب وإلى محبة القريب. أي إلى حفظ وصايا محبة الله ومحبة القريب التي بها يكمل الناموس والأنبياء.
الضمير بالطبع ليس هو الروح القدس. بل كما شرح قداسة البابا شنودة الثالث- أطال الرب حياته- فإن الضمير هو المحكمة التي تحاكم الإنسان وتحاسبه على تصرفاته. وهو جزء من طبيعة الإنسان.. وضعه الله في الإنسان ليراجع الإنسان ويحاسبه كما ذكرنا..
ولكن الضمير كمحكمة يستلم قواعد أو قوانين يسلك بمقتضاها. فإذا استلم قوانين غير سليمة، فإن أحكامه في ضوء هذه القواعد والقوانين لا تكون سليمة بناءً على ذلك. ولهذا فإن الضمير من الممكن أن يخطئ في أحكامه، كما أنه يتأثر بالعوامل التربوية والتأثيرات الخارجية.
أما الروح القدس فإنه يرشد إلى جميع الحق (انظر يو16: 13). والروح القدس لا يمكن أن يخطئ. وهو يمكنه أن يصحح للضمير ما استلمه من قواعد بعيدة عن الحق الإلهي. لهذا قال السيد المسيح لشاول الطرسوسي قبل أن يصير بولس الرسول: "شاول شاول لماذا تضطهدني.. صعب عليك أن ترفس مناخس" (أع9: 4، 5).
كان شاول الطرسوسي يضطهد الكنيسة بجهل. ولهذا تدخل الله ليصحح له ولضميره ما كان يعتقد أنه صواب وهو خطأ وهو اضطهاد تلاميذ الرب يسوع المسيح. وقد استجاب بولس لنداء السيد المسيح ولم يرفس مناخس ضميره الذي استنار بالنعمة الإلهية.
من الجانب الآخر نرى بيلاطس البنطي وهو يحاكم السيد المسيح إذ لم يجد فيه علة واحدة للموت وعلم أن رؤساء اليهود قد أسلموه حسدًا.. وأثناء المحاكمة أرسلت إليه امرأته تقول: "إياك وذلك البار لأني تألمت اليوم كثيرًا في حلم من أجله" (مت27: 19). جاء إليه الإنذار أن يقتل البار وهو حاكم بإطلاقه، ولكنه خالف ضميره بعد الإنذار وحكم عليه بالموت صلبًا إرضاءً لليهود، وخوفًا على منصبه ولن يجديه على الإطلاق أن أحضر ماءً وغسل يديه أمام الجميع قائلًا: "إني برئ من دم هذا البار" (مت27: 24). كانت خطية اليهود أعظم من بيلاطس. ولكن بيلاطس لم يتبرر بغسل يديه لأنه لم يحكم بالحق والصواب. وإذ رفض الحق الأصغر لم يحدثه السيد المسيح عن الحق الأعظم حينما تساءل قائلًا: "ما هو الحق" (يو18: 38). كان الحق ماثلًا أمامه في شخص السيد المسيح ولكنه لم يتمكن من قبوله لأن قلبه كان مائلًا بعيدًا عن الحق. لهذا قال السيد المسيح "كل من هو من الحق يسمع صوتي" (يو18: 37).
القاضي هو الله ديان الجميع، والشرطي هو أحد الملائكة أجناد العلي، والسجن هو موضع الدينونة للأشرار.
وطالما أن الإنسان لم يصطلح مع الله قبل الدينونة بالتوبة فلن يستطيع أن يوفي الدين الذي عليه. وسيقع في دينونة أبدية كما قال السيد المسيح عن الذين عن اليسار "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته.. فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي، والأبرار إلى حياة أبدية" (مت25: 41، 46).
إن دم المسيح هو الذي يفي ديون الإنسان الروحية. وبدون التوبة والاغتسال بدم المسيح فإنه لن يوفي الفلس الأخير، بل يقع في دينونة أبدية، كقول السيد المسيح: "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (لو13: 3).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/enemy.html
تقصير الرابط:
tak.la/887aa87