يعتبر النظام الإشتراكى آخر المراحل التي تدرجت فيها الرهبنة ويعزى بحق لمنشئه الأنبا باخوميوس الذي دعى فيما بعد "أب الشركة" إذ سجل من النظم القوانين الوضعية ما حدا بالرهبان إلى الإنتقال إلى الحياة الديرية الإشتراكية سواء أكان ذلك في الأمور الروحية أو المعيشية.
وأب الشركة هذا ولد في مدينة طيبة بالصعيد الأعلى من أسرة وثنية حوالى عام 294م. وما أن وصل إلى العشرين من عمره حتى إنخرط في سلك الجندية في عهد الإمبراطور ديوكليتيان ثم ما لبث أن إشترك في عدة حروب تحت قيادة قسطنطين الكبير كانت سببًا في إنتقاله من الوثنية إلى المسيحية!
إنتقلت الكتيبة التي إنتظم فيها الأنبا باخوميوس يومًا ما إلى مدينة تسمى لاتوبوليس "Latopolis" (يقال إنها مدينة إسنا الحالية) وكان كل سكانها من المسيحيين فخرجوا توًا من منازلهم وقدموا للجنود الوافدين أبلغ آيات الإكرام بعد أن أظهروا فرحهم وسرورهم بمقدمهم، فتساءل باخوميوس: (ترى من هم أولئك الذين أكرموا وفادنا كما لو كانوا أهلًا لنا مع عدم وجود معرفة سابقة بيننا؟! فجاءه الجواب (إنهم من المسيحيين الذين يأمرهم دينهم بمحبة الجميع حتى الأعداء ويحثهم على أداء الواجب مع كل أحد لا سيما الغرباء! وللحال تأثر باخوميوس ومال بقلبه نحو الديانة المسيحية وإنفرد في موضع إبتدأ يصلى قائلًا: (أيها الرب الإله خالق السموات والأرض إنى أعاهدك على أن أعبدك وأحفظ وصاياك كل أيام حياتى إذا نظرت إلى برحمتك وعرفتنى لاهوتك).
وما أن إنتهى من الجندية حتى إنتظم في سلك الموعوظين، وعكف على دراسة الدين الجديد ثم إعتنقه فعلًا وتعمد على يد الأنبا سيرابيون أسقف دندره.
وعندما تعمق القديس في الكمال المسيحى أدرك فناء الحياة وزوالها، فعزم على هجرها مؤثرًا الوحدة، ثم تتلمذ لقديس سائح يدعى بلامون(1)، وهذا إذ رآه، أبان له وعورة الطريق وصعوبتها وما يكتنفها من أتعاب ومشقات وآلام ثم كشف له عن نظام المعيشة فيها ذاكرًا أن من يسلك هذا السبيل عليه أن لا يأكل سوى الخبز الجاف والملح دفعة واحدة في كل يوم من أيام الصيف، أما في الشتاء ففى كل يومين وجبة واحدة، وعليه أيضًا أن يقضى جل الليل في صلوات وتسبيحات.
ولما سمع الأنبا باخوميوس (السيرة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت) من القديس بلامون كل هذا إشتاق أكثر وتشجع ثم قال: (ثقتى بالمسيح الإله أولًا، وبمؤازرة صلواتك ثانيًا إننى أقوى على إحتمال جميع ما ذكرت وأن أصبر معك إلى حد الممات!) عندئذ قبله وأدخله إليه ووعظه كثيرًا وعرفه ما يحتاج إلى معرفته من إماتة الجسد وقمع الشهوات وإنسحاق القلب ثم قال له: (إن أنت حفظت ما قلناه ولم ترجع إلى خلف ولا كنت ذا قلبين فنحن سوف نفرح معك).
ثم إبتدأ باخوميوس يقتفى أثر خطوات معلمه ويتزايد في نسكه وعبادته وأصوامه وصلواته فكان دومًا (ينمو في النعمة وفي معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح) (2بط3: 18).
وبينما كان سائرًا في البرية ذات يوم بقرب قرية خربة تدعى طابنسين(2) Tabensin سمع صوتًا يقول له: (استقر هنا وإبتن لك ديرًا لأن كثيرين سيأتون إليك ويعيشون تحت إرشادك) وإذ أخبر معلمه القديس بلامون بذلك ذهب معه إلى تلك البقعة حيث بنيا فيها قلاية حوالى عام 320م ولم تمض فترة كبيرة حتى أصبحت هذه القلاية ديرًا كبيرًا، ضاق بالوافدين إليه من طالبى الرهبنة ومحبي العزلة، وعندئذ قام باخوميوس ببناء عدة أديرة أخرى تبعًا لزيادة تلاميذه الذين قدرهم بالاديوس(3) Palladius بثلاثة آلاف راهب في أثناء حياة باخوميوس، وبسبعة آلاف سنة 420م، وقدرهم كاسيان(4) Jean Cassian بنحو خمسة آلاف راهب، وبالغ في تقديرهم القديس جيروم St. Jerome إذ قال أنهم بلغوا عام 404م خمسين ألف راهب وأمام هذا الجيش الجرار وجد باخوميوس نفسه مضطرًا لوضع نظم وقوانين عامة تبين ما يجب أن يسير عليه كل دير من أديرته، بل كل راهب من رهبانه أيضًا.
_____
(1) من بلدة شنسيت بأقليم أسوان.
(2) هي بالقرب من قنا في مواجهة دندرة.
(3) راهب من غلاطية زار مصر دفعتين الأولى سنة 388م تقريبًا حيث زار أديرة عديدة ووقف على الحياة النسكية، وقد بقى حوالى سنتين، ثم رسم أسقفًا على هيلينوبوليس في مقاطعة بيت عنيا، وفي الدفعة الثانية جاء منفيًا إلى أسوان سنة 406م وبقى حتى عام 412م، وفي تلك الفترة كتب تاريخًا شاملًا للنساك دون فيه ما رآه وسمعه ثم أتمه عام 440م وأسماه بستان الرهبان L'historic Lousiaque.
(4) كاتب فرنسى زار مناطق الرهبان بمصر في القرن الرابع، وتوفى سنة 435م، ويعتبر في مقدمة من كتبوا عن آباء البرية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/amir-nasr/monasticism/cenobitic.html
تقصير الرابط:
tak.la/y8qmmxa